خاص- ثقافات
*يوسف عبد العزيز
اللقاء الأخير مع محمود درويش:
في عمّان، وفي أواسط شهر تمّوز من العام 2008، قمنا بزيارتنا الأخيرة إلى شاعرنا الحبيب محمود درويش، وذلك قبل أيّام من رحلته الأخيرة أيضاً إلى فلسطين، ومن ثمّ إلى أمريكا حيث أجرى العملية الجراحية. كان درويش يبدو بكامل أناقته. وكعادته فقد قام بعمل القهوة، وبالمناسبة فقد كان درويش محترفاً في صناعة القهوة. في ذلك اللقاء تحدّثنا في عدد من المواضيع، وكان الشّعر هو الرابط المشترك بينها.
أثناء ذلك أخبرنا درويش عن عزمه السّفر إلى أمريكا من أجل إجراء العملية الجراحية هناك. قبل ذلك كان طبيبه الفرنسي قد نصحه بعدم إجراء العملية، وذكر له أن الجنرال شارل ديغول كان مثله يعاني من تضخّم الشريان الأورطي، ولأنه أي ديغول لم يقم بإجراء العملية، فقد عاش عشر سنوات بعد اكتشافه للمرض، لكنّ الذي كان يقض مضجع درويش هو أن يصاب من جرّاء المرض بعاهة مزمنة، كأن يفقد قدرته على المشي، أو النّطق، وبالتالي أن يصبح عالةً على الآخرين. أخبرنا درويش أنه سيذهب إلى فلسطين، حيث سيزور أمّه وأهله وأصدقاءه في الجليل، قبل أن يغادر إلى أمريكا.
وسط ذلك الحديث عن مرضه، ورغبته في السفر، حاولت من جهتي أن أثنيه عن إجراء العملية. قلتُ له “أستاذ محمود، أنا أرى أنّ الشاعر يمكن أن يمرض لسبب وحيد فقط”. سكتَ مَنْ في الجلسة، وقال درويش: “وما هو هذا السّبب”؟ قلتُ له: “حين لا يكتب الشاعر شعراً جميلاً”، وتابَعْتُ: “وبما أنّك لا تزال تتحفنا بأجمل الشعر، فأنت غير مريض، ولذلك فأنا مع أن تقوم برمي الأدوية التي لديك، والتّخلّص منها، ثمّ ألا تجري العملية”. ابتهج درويش لسماعه كلامي، ولقد ضحك وضحك الحاضرون، ولكنّه سرعان ما غطّت وجهه سحابة خفيفة من الحزن، حيث قال: “يوسف، أريد أن أخلص من كلّ هذا الرّعب”. هنا تذكّرت قصيدته المهمّة (جدارية محمود درويش)، التي يرثي بها نفسه، كما تذكّرت نصّه الساحر (في حضرة الغياب) التي يؤبّن فيه جثمانه المسجّى. لذلك فقد أصابني كلامه بمسّ من الرعب، فحاولت أن أنقل الحديث إلى جانب آخر. سألتُه عن مجلّة الكرمل، فكان جوابه مرعباً أيضاً حين قال: “مجلّة الكرمل اكتمل مشروعها، وانتهت، ولن تكون منها أعداد جديدة”.
في ذلك اللقاء، كان درويش يبدو وكأنّه يضع نهايات ما لأشياء كثيرة في حياته، واتضحت هذه النهايات فيما بعد، حين علمنا أنه أعطى العاملة أنّ التي تشتغل عنده في البيت أجرة شهرين كمكافأة، وقال لها: “أنا أشكرك على كل ما قدّمتِهِ لي من خدمة، والآن انتهى عملك”. من جهة أخرى فقد ذكر صديقه المقرّب المحامي الفلسطيني بولس سلامة، أنّ زيارة درويش للجليل كانت بمثابة زيارة وداعية، حيث ذكر أنه أي درويش كان يحدّق في كلّ شيء يراه، كما كان يتأمّل الطبيعة الفلسطينية بلهفة، كأنّه يودّعها.
انتهت زيارتنا لحبيبنا درويش، فقمنا بوداعه وخرجنا من البيت. وحين أصبحنا قريبين من المصعد نادى درويش عليَّ قائلاً: “يوسف عبد العزيز”، فعدتُ إليه، ليقول لي: “يوسف لا تتأخّر عليّ، اجعلها بعودة”، فعانقته مرةً ثانية وخرجت. ولم أكن لأعرف أنّ هذه الكلمات هي آخر ما سأسمعه من كلام العظيم محمود درويش.
درويش/ النّافذة الأولى على الحداثة:
في العام 1970 بدأت بكتابة الشعر. كنت حينها طالباً في الصّف الثالث الإعدادي، في إحدى مدارس مدينة عمّان. أخبر الطلاب معلّم اللغة العربية عن وجود شاعر في الصّف. قال لهم من هو يا ترى؟ فأشاروا إليّ وقالوا إنه يوسف عبد العزيز، فجاء إليّ وسألني: هل أنت شاعر؟ فقلتُ له: نعم، أنا شاعر. فجرى بيني وبينه حوار قصير، وفجأةً سألني: لمن تقرأ من الشعراء؟ فقلت له: أقرأ للمتنبي والبحتري وأبي تمام وأحمد شوقي. قال لي: هل قرأت لمحمود درويش؟ قلت له: لا. قال لي: تعال إلي بعد الحصّة الثالثة، سأكون في المكتبة. وبالفعل، فقد ذهبت إلى المكتبة، وهناك ناولني ديوان الشاعر محمود درويش (حبيبتي تنهض من نومها)، ويبدو أنه كان قد صدر حديثاً. في البيت قرأت الديوان بشغف، وما هي إلا أيّام حتى تمكّنتُ من حفظ عدد من قصائده. وهكذا فقد كان درويش النافذة الأولى التي أطللتُ منها على شعر الحداثة.
ملامح من التجربة الدرويشيّة:
رافقني شعر درويش إذن منذ البدايات، وصرتُ حريصاً على متابعة ما يكتب، سواء من خلال الدّواوين التي يصدرها، أو من خلال المجلات التي ينشر فيها قصائده. ولا بدّ لي من القول هنا إنّ شعر درويش، كان يتمتّع بكل ذلك السّحر الخاص الذي يجعله يخترق القلب ليقيم في الأعماق. نتيجةً لذلك، كان ثمة خوف لدينا نحن عشّاقه من الشعراء، من أن نقع تحت سطوة مناخه الشعري، ولهذا رحت أشتري دواوينه لأقرأها، ثمّ أقوم بإهدائها، ثمّ أشتريها ثانية فأقرأها وأهديها، وهكذا…
أكثر ما كان يشّدني في تجربة محمود درويش، هو قدرة هذا الشاعر العجيبة على الرّبط بين تطوير القصيدة، وجماهيريّتها. وهذان الجانبان كانا من الصّعب أن يلتقيا عند شاعر معيّن. كان درويش يحرص على تدريب جمهوره على قراءة كلّ ما هو جديد. في الأمسيات نراه يخاطب جمهوره قائلاً: في النّصف الأوّل من الأمسية سوف أقرأ عليكم ما تحبّون سماعه من قصائدي، أمّا في النّصف الثاني من الأمسية فسوف ألقي عليكم ما أرغب أنا في قراءته. وبالفعل فقد كان في البداية يختار قصائد معروفة للجمهور، ويقرأها على الناس، ثمّ لا يلبث أن يقرأ عليهم تلك النصوص الصعبة الإشكالية (في إحدى المرّات قرأ قصيدة الهدهد).
جمهور درويش كان جمهوراً كبيراً ومتنوّعاً، وكنت ترى في أمسيته شباباً وفتيات من انتماءات شتّى، هذا إلى جانب الفتيان والكبار في السّن. في إحدى أمسيات درويش الباريسيّة، لاحظ الشاعر الفرنسي المعروف برنار نويل، الجمهور الهائل الذي جاء لحضور الأمسية، فقد امتلأت القاعة الكبيرة على آخرها، هذا بالإضافة إلى الأعداد الكبيرة المحتشدة في الخارج والتي كانت تتابع الأمسية عن طريق تلك الشاشات العملاقة المنصوبة في الهواء الطلق، والتي كانت تبث أمسية درويش، فما كان من برنار نويل غير أن أخبر منظّمي الأمسية قائلاً: إذا دعوتموني في مرّة قادمة لقراءة الشعر فأرجو أن أكون برفقة هذا الشاعر الفلسطيني الكبير.
في شعر درويش تلتقي الشعرية المعاصرة مع شعرية التّراث، فنجد في شعره أصداء من نزار قباني وأدونيس والسّيّاب، متعانقة مع أصداء سحيقة قادمة من المتنبي وامرئ القيس وشعراء التّصوّف. في شعره أيضاً ثمة حضور للشعر العالمي، ولروائح شعرية ساحرة قادمة من مناطق متفرّقة في العالم، مثل شعر: لوركا، ناظم حكمت، إليوت، بودلير، بابلو نيرودا، وغيرهم. لكنّ كلّ هذه الأصوات الشعرية تمتزج في الأتون الدّرويشي، ليكون القارئ الذي يطالع قصائد درويش أمام تجربة غنية وفريدة لا تشبهها تجربة.
ممّا يمكن أن نضيفه هنا هو رغبة الشاعر محمود درويش العارمة في تجديد تجربته. وعلى الرغم من أنّ شعره كان يدور في فلك القضية الفلسطينية، إلا أنه أي درويش استطاع أن يسبر أغوار هذه القضية بكل ما هو مثير ومدهش، ففلسطين لم تعد تعني له مجرّد جغرافيا محتلّة فقط، بقدر ما صارت عنده رمزاً للعدالة والحرية والجمال والحب. أصبحت فلسطين بالنسبة إليه تعني العالم، والعالم يعني فلسطين.
وهكذا ففي كل حقبة معيّنة من تجربته، نجد ثمة انعطافة شعرية حادّة، ففي العام 1970 من القرن الماضي، وبعد أن أنجز عدداً من الدواوين المهمّة، كتب درويش قصيدته الباهرة (سرحان يشرب القهوة في الكافتيريا). لقد شكّلت تلك القصيدة بما تحمله من جماليّات، علامة مهمّة على طريق تطوّر التجربة الشعرية العربية. في العام 1976 أيضاً كتب درويش قصيدة (أحمد الزّعتر)، فكانت علامة فارقة أخرى. في العام 1982، وفي أعقاب الحرب على لبنان كتب درويش قصيدة (مديح الظّل العالي). وأخيراً كلّنا يتذكّر قصيدته الأهمّ (جدارية محمود درويش) التي كتبها في العام 1998 والتي نشرها في ديوان مستقل.
في السّنوات الأخيرة من حياته اتّجه درويش لكتابة قصيدة المشهد، وهي تلك القصيدة القائمة على الاستفادة من المرجعيّات البصرية المعروفة: السينما والمسرح والفن التشكيلي، حيث يجري التركيز في رسم معالم ذلك المشهد الشعري، من خلال عين الشاعر الذي هو مصوّر سينمائي وتشكيلي ومسرحي أيضاً. وفي تصوّري أنّ هذا النوع من الشعر هو الأهم على صعيد الكتابة الشعرية العربية والعالمية. ما يمثّل درويش على صعيد كتابة قصيدة المشهد دواوينه (لا تعتذر عمّا فعلت)، (كزهر اللوز أو أبعد)، و(أثر الفراشة).
قصيدة المقاومة، والرّؤيا الدّرويشية الجديدة:
في النّصف الثاني من ستينيّات القرن الماضي، ومع انطلاقة الثورة الفلسطينية المعاصرة، نشأت ظاهرة قصيدة المقاومة. وقد عُرِف محمود درويش كواحد من روّاد هذا الشعر الجديد في فلسطين. فقد شكّل إلى جانب كلّ من سميح القاسم وسالم جبران وتوفيق زيّاد، الكتيبة المقاوِمة في الشعر الفلسطيني. وبالفعل، فقد راح درويش يتغنّى بالثوّار الجدد، الذين سيحرّرون فلسطين، وصار يقرأ قصائده على الجماهير الفلسطينية في حيفا والناصرة وعكّا. نتيجة لذلك اعتقلته سلطات الاحتلال الصهيوني مرّات عديدة، ثمّ وضعته في بيته تحت الإقامة الجبرية. ذاق درويش الأمرّين من الاحتلال، ولكنّه بقي يناضل، ويكتب الشعر للفجر الفلسطيني القادم لا محالة.
عمل درويش على تطوير قصيدة المقاومة التي يكتبها، فلم تبق هذه القصيدة محصورة في حدود الشعارات الثورية التي تطرحها، بل طعّمها درويش لتستوعب الجماليّات الجديدة في الشعر. في إحدى المرات ومع المجاملة التي صار يلقاها هذا النّمط من الشعر من طرف النّقّاد العرب، أطلق درويش عبارته الشهيرة (انقذونا من هذا الحب القاسي).
أصبح درويش يتردّد في قراءة بعض القصائد التي يطلبها الجمهور في الأمسيات التي يقيمها. في إحدى المرّات وحين ألحّ عليه بعض الشباب بقراءة قصيدته (سجّل أنا عربي)، اعتذر درويش عن قراءتها وقال لهم لقد انتهى مبرر إلقائها، لأنني حين كتبتُها كنت من خلالها أخاطب السّجّان الصهيوني.
أخيراً فقد وصل درويش إلى كشف شعري في غاية الأهمّية، فقد أعلن أنّ كل قصيدة جميلة وممتعة يكتبها الشاعر هي قصيدة مقاومة، وبذلك فقد أصبحت قصيدة المقاومة تستمدّ شرعيّتها ليس فقط من الموضوع (النّضالي) الذي تطرحه، وإنّما بمدى استلهامها لعناصر الشعرية والابتكار والدّهشة.
الرّحيل المُرّ:
حين ذهب الشاعر محمود درويش إلى أمريكا لإجراء العملية الجراحية، قضينا أوقاتاً صعبة في عمّان. كنّا نضع أيدينا على قلوبنا، ونبتهل إلى الله أن يشفيه. في اليوم الذي سبق وفاته، صدر تصريح عن الرّئاسة الفلسطينية في رام الله ينفي الشائعات التي تتحدّث عن رحيل الشاعر، فضخّ ذلك الخبر بعض الأمل في قلوبنا، لكنّ الأخبار التي وردت في اليوم التالي ركّزت على صعوبة وضعه الصحّي، ثمّ، كان الخبر المرعب: لقد توفي درويش.
يا لها من كارثة! أجمل الشعراء يموت! أجمل الحالمين بفلسطين تختطفه مخالب القدر، وبعد أيّام سيبتلعه فم التّراب، فلا نراه أبداً!
في مطار عمّان القديم، الكائن في حيّ (ماركا) ذهبنا لاستقبال جثمان درويش: هناك دخلنا إلى القاعة التي سيسجّى فيها. جلسنا والحسرة تملأنا. لحظات عصيبة ووصل الجثمان، ففاضت العيون بالدموع. كانت هناك بعض الكلمات التأبينية التي ألقيت، كما غنّى الفنّان مارسيل خليفة بحزن، مقاطع من قصيدة درويش (يطير الحمام).
انتهت الكلمات وانتهى الغناء، وانتهى كلّ شيء، فقد رحل الشاعر الأحبّ إلى قلوبنا، وها هو جثمانه الآن، محمولٌ على أكتاف ثلّة من أفراد جيش التحرير الفلسطيني، باتّجاه طائرة الهليكوبتر التي ستقلّه إلى رام الله في فلسطين. على أرض المطار وقفنا، لوّحنا للجثمان المسافر، لوّحنا بألم وتوسّل كأنّ درويش يرانا، وكأنّه عمّا قليل سيلغي رحلته، فيهبط من التابوت ويعانقنا.