ألمعية التأويل: الحالم إكس*

خاص- ثقافات

*كريم ناصر

 

لا يكون العمل مثمراً إذا كانت الغاية منه تتلخّص حصراً في صوغ الكلام الفضفاض، وليس هذا شأن القصّة كجنس أدبي له وظائف جوهرية، فالحكم على القصّة لا ينطلق من مجرّد البحث عن حلول للمعضلات المزمنة، بل ينطلق من منظور يمكن البحث فيه للظفر بما تختزن أعماق البشرية، فكلّ عمل أدبي هو اختزال لظواهر الحياة العامة وصيرورتها التي لا تقبل الإنصهار كلّاً أو جزءاً، فلا تندرج القوانين الصارمة ضمن المنظور السردي القصصي، ولا تتبلور المتون داخله، ما يجعلنا نفهم بوجه أفضل أنَّ السمات اللغوية لا تخرج كليّاً عن سياق التراكيب اللسانية، وإنَّ مضمون القصّ لا يمنع من الإنزياح عن هذه التراكيب ليتجاوزها إلى آفاق مفتوحة، وهذا ما قد جاء به القاص “عبد الله طاهر” ليعالج هذه الصيغة، ليدلّنا على فحواها معتمداً أسلوباً أكثر إيغالاً في تفجير القضايا الإشكالية في صلب الموضوع نفسه، وهو أُسلوب إستهلالي يتمسّك به السارد الأدبي لاستقطاب المتلقّي بمعنى من المعاني.

نكتشف من أوّل وهلة من صيرورة القراءة ميل الكاتب إلى خلق فضاء معرفي يسمح بالإنتقال من وضعية إلى أُخرى بما يجعله حاضراً في سلسلة من الجُمل السردية التقنية، وكأنَّ الكاتب والحالة هذه يشرع ببناء نظرية دلالية تتضمّن نهجاً لمحو أمراض السرديات النمطية، كمحاولة منه لكتابة قصّة سردية تكتسي بمعالم معرفية، ليكون طابعها مغايراً ومستقلاً بعض الشيء مثل:

 

“فكّرتُ مع نفسي وقلت كيف ستبدو إذاً في هذه الحال، وفي مثل هذا اليوم من أيامنا كتابة قصّة عن شخص أربت مؤلفاته على ثلاثمائة وستين كتاباً وعاش تسعين عاماً عزباً، ولا يكاد منزل بالبصرة تخلو خزانته من كتبه، وكنت أحسب دائماً وأبداً أنَّ الكتابة عن الجاحظ شأنها شأن الكتابة عن جورج باتاي دوماً مرتبكة وناقصة” ص23

 

أو مثل:

“ففي البداية ارتعبت في صناعة مجموعة قصصيّة مستخلصة من كتب الجاحظ تشبه في وحدة موضوعها مجموعته القصصيّة “البخلاء” لا لشيء سوى الولوج في فلكه، وقرن إسمي باسمه متبعاً في التأليف تقنية “الريمكس” في موضة القصّة الفرنسية الحديثة” ص24

 

سمات تاريحية وفلسفية:

 

تتضمّن عادة (القصّة، القصص، الأقصوصة) خصائص لعناصر أدبية، في حين أنَّ الأدب ليس منهج نظر في هذه الحالة، بل هو إحالة تاريخية وثقافية في صلبه، وهذا ما يدفع القاص ـ السارد ـ ليستعين إجمالاً بنواة من التاريخ ليجعلها قاعدةً رصينة لبناء قصّة بسمات معرفية متنوعة. إنَّ من شأن التنوّع أن يُغني الفكرة إذا ما أخذنا بعين الحقيقة تداخل القيم، يبدو أنَّ السارد حسب منظورنا لا يعارض التنوّع، غير أنّه لا يتأثّر به إلّا عند الضرورة القصوى، وذلك للإحتفاظ بوحدة الموضوع، والنتيجة كلّها يُتطلّب من السارد ألّا يغيّر رؤيته الفكرية، لأنّها تعدّ من الثواثب الأساسية  والإمساك بها يضفي على العمل مزية جمالية، وهذا ما يسمح بتأويل ما تخلّفها المآثر التاريخية لتصبح مآلها ضمن مقتضيات الحبكة وغايتها التعبيرية، يقول تزفيطان طودوروف: “فلكي يكون العمل ناجحاً يجب على السارد ألّا يغيّر وجهة النظر طوال الحكاية، وإذا وُجد تغيّرٌ ما فيجب أن تسوّغه مقتضيات الحبكة وبنية العمل برمّته، واعتماداً على هذا المقياس نضع أعمال هنري جيمس فوق أعمال تولستوي”

ينزع الكاتب إلى أُسلوب التجديد في الكتابة لغرض فرض بنية بديلة تكون نقطة انطلاقها الخيال، ولتدارك تداعيات القصّة القصيرة بسبب تدنّي مستوياتها اللغوية، ولتلافي النقص في اللغة من جهة، وترجيح الأُسلوبية من جهة أخرى، فالتفكير في تأليف قصّة بطابع معرفي يعدّ حالةً فريدة لا سابقة لها في الوصول إلى خلق أنماط متناقضة مع الفكر السائد، وما مراجعة كتاب الحيوان للجاحظ من جهة السارد إلّا صورة لتجسيد هذه الحالة لجعلها بنية لبناء قصّة نادرة..

يعرّج السارد على تفاصيل تبدو في معظمها استعارات أو إحالات أو ربما تكون كليشيهات لمصاحف “كتاب الحيوان” السبعة، وبفضل الخيال وانطلاقاً منه ينشأ عالمٌ مماثل من صلب المحاكاة، وقد تدخل التفاصيل المذكورة في خضمّه عن طريق السارد (Narrateur) وذلك  لصوغ قصّة تبني لغة لسانية:

 

“مكثت فيما بعد حائراً بين اختيار قصّة (إمرأة تحبّ أكل الجراد) و (ليس في الأرض أملح مني) وفي الأخير تخيّلت إسمي مقروناً باسم الجاحط على غلاف كتاب واحد وهو أقصى ما سعيت من أجله كذروة المحاكاة التهكميّة الخلّاقة في الأدب” ص25

 

وما المحاكاة الضمنية إلّا حافز لإثارة الجدل لتفسير ما يتيسّر من الرموز، وفي صلب هذا الجدل تمتزج صور الحلم بصور اليقظة لتغدو استرجاعات إيحائية تمثّل التأمّلات نقطة انطلاقها، وتدلّنا التمثلات الدلالية على فحواها، إذ تبدأ عملية فكّ الرموز بصورة مكثفة من طرف السارد نفسه، وثمّ من طرف (ابن ثوابة) من دون أن نغفل المرور على الوسيط الجاحظ ـ المُتخيَّل السردي ـ الذي يضطلع بدور المساعد المعنوي..

فلنلاحظ ائتلاف الحلم واليقظة:

 

 “سمعت في المنام (ابن ثوابة) يقول: أول من أفسد الكلام أبو الفضل، لأنّه تخيّل مذهب الجاحظ وظنّ أنّه إن تبعه لحقه” ص26

 

ولنلاحظ المثال الآتي:

 

“عندما استيقظت في الحال ولتطيّري المستديم من تفاسير الأحلام خطورة مغزى شفرة (ابن ثوابة) ص26

 

نلاحظ أيظاً:

 

“هكذا تآكل حلم كتابي المتخيّل مع الجاحظ بتمامه تآكلاً بنيوياً مأساوياً” ص26

 

الوصف والخيال:

 

كلّ وصف هو وصف دلالي، وهذا شأن منطق القص، ولنأخذ مثلاً وصف المبنى “قسم الدراسلات الشرقية في مكتبة الجامعة” الذي يقوم على درجة كبيرة من الدقّة، ويمكن أن يختزل الحدث انطلاقاً من الرؤية الداخلية وتبعاً لها، ولإقامة توازنٍ ما ليمنح القصّ أفقاً مستقلاً، وبذلك يرقى مضمون الوصف بتجلّياته الخيالية ليصبح مآله لغزاً متجسّداً في روح الماضي متمثلاً تارةً في صيغة تخيّلية وتارة أخرى في صيغة فنية من دون أن يستدعي استفاضة أو إطناباً بنيوياً.

فالوصف الدلالي يقود إلى تخيّل أشكال فيزيائية ـ كيميائية ـ غير مرئية ـ لا تراها العين ـ لكنّها تبقى في العمق حوافز إيحائية، وما المبنى إلّا كوستر كهنوتي لتأمّل الأشياء، وعليه فالقرّاء يؤمنون إيماناً عميقاً في أنَّ أشباحاً سوف تظهر لهم يوماً ما من بين خزائن الكتب ما إن يحلّ الظلام في المكتبة، وأخيراً فإنّ فكرة خلق الجوّ الخيالي يأتي غالباً من إجتماع بنىً متراصّة بغض النظر عن توظيف عنصر الخرافة المتمثّل بالأخيلة وبالأشباح الهلامية.

فالنزوع إلى الوصف تسبقه آلية التخيّل، أمّا طريقة الوصف لما وراء النافذة العمودية القوطية، فليست إلّا تجلّيات لبراعة فنيّة، وما ندعوه وصفاً إنّما هو:

= إنزياح فريد يزوّد السرد بقوّة جمالية..

 

“بيد أنّ الدارسين هنا، ومن جرّاء إذكاءاتهم المعتملة للأقاصيص المتناسلة في أخيلتهم، كانوا قبل أن تحلّ تلك اللحظة المرعبة يشرعون بطيّ كتبهم على عجل وإعادتها إلى أمكنتها على الأرفف ص26

 

أو

= صيرورة جمالية تغذّي البناء اللغوي بالأخيلة..

 

“كان قرّاء الأقسام الشرقية في الجامعة ينظرون أيضاً على أنّ هذه الأشباح ذات القوام الجلاتيني والهيأة الهلامية البيضاء ليست سوى أرواح مؤلفي تلك الكتب القديمة المتغربة” ص27

 

فكرة إستحضار الارواح:

 

لقد مثّلت فكرة إستحضار الأرواح صلب القصّ، ونقطة انطلاق لكلّ الشخوص المشاركين في الوقائع، ومن ضمن ذلك الشخص السارد والمتن المسرود له، وانطلاقاً من هذه الكيفية نستخلص من مضمون قراءتنا أنَّ الأداء يقودنا إلى استنباط المعاني الدلالية من عمقها الوجودي، وقد تنصّل المضمون نفسه من أيّة بصمة غريبة في سياقه، وهذا الوضع لا يعدو شاذّاً إذ يبقى السارد محافظاً على منهجه، وكلّ ما في الغرفة وفي مكتبة الجامعة يغدو بدائل لصيَغ بنيوية..

فالوقائع التي تندرج ضمن مفهوم التخيّل، إنّما تجري بالطريقة التي ترسمها كرونولوجيا زمنية تدخل في إطار السرد لتنمية تقنية تكون بنيوية، بل لتخلق عالماً مغايراً فحواه في الواقع دلالي، ومآله المنطقي معرفي، وتكون الوقائع في الأعم الأغلب قضايا أو أبنية أو أخيلة تخرج على الوصف، كما هو الشأن في عملية تحضير الأرواح..

 

“كارتات دعائية صغيرة آتية من محضّري الأرواح في لاهاي” ص27

 

لنقف عند اختيارنا المقطع المنظور لما يحمل من معاني شبيهة كما سبق أن قلنا، وهكذا فمهما يكن التباين واضحاً في التعابير، تظلّ اللغة أساس البناء ومن شأنها أن تؤدّي وظيفتها التعبيرية بما يسمح لها من إختلاف في الرؤى أو إنسجام في التنظير.. 

 

“خلت أنَّ لاهاي أمست الآن ما كانت عليه فيينا بُعيد الحرب العالمية الأولى حيث عانت كما وصفها بعضهم من “فراغ القيم” بينما كانت الحركات الأكثر غرابة تنتشر داخلها مثل النيوصوفية واستحضار الأرواح ومذاهب الشرق الأقصى إلى رواج موضة المخدرات” ص27

 

ويدخل هذا  التركيب السردي في نطاق إستنتاجنا نفسه..

 

“ولا عجب في ذلك فقد سجلت لنا من قبل كُتب المؤرخين الهولنديين العام 1858 على أنّه عام التقييد الرسمي لدخول تحضير الأرواح إلى هولندا وذلك بعد مجيء الوسيط دانييل دوكلاص هوم فاستحضر دانييل دوكلاص هوم للملكة صوفيا زوجة الملك وليم الثالث روح ابنها الثاني أمير ماوريتس” ص28

 

والنتيجة التي يستخلصها السارد في استحضار الأرواح يجب أن تحقّق وظيفة ما، ما دام البحث يمثّل أحد آلياتها..

 

“وجدت في تقاليد عائلة أورنج الروحانية الغابرة فرصة مشجّعة لتحضير روح الجاحظ كمنقذٍ مثالي لي للتقرّب منه بدلاً من تأليف قصّة عنه مآلها لا محال الفشل بيد أني انشغلت أوّل الأمر بمساءلة نفسي إن كنت قد انخرطت أنا أيضاً في عالم الخرافة” ص28

 

ويسأل السارد:

 

“هل تحضير الأرواح هو فن أم علم ص28

 

ويذكر أيضاً:

 

“تيقنت أنَّ الريبة هنا حالها حال الريبة التي تنتاب الأناسة أو الإثنولوجيا والتي لم تثنها يوماً عن أداء المغزى” ص28

 

ويصل إلى النتيجة ليحسم الوضع:

 

“وهكذا حسمت الأمر لمصلحة ما وراء العقل، وللذّة ماوراء الطبيعة، فعملت موعداً مع الوسيط الروحاني البروفيسور راهمان في شقته الأرضية بساحة إيراسموس بلاهاي ص28

 

ويسجّل ملحوظة في بداية القصّة:

 

“كنت أحسب دائماً وأبداً أنَّ الكتابة عن الجاحظ شأنها شأن الكتابة عن جورج باتاي تظلّ دوماً مرتبكة وناقصة” ص23

 

لنتأمّل ما يقول:

 

“ومن هذا الذكر للبعد الزمني يمكن الانتفاع لتحديد تاريخ وقوع هذه القصّة وتسجيلها” ص28

 

ولقراءة البعد الزمني فلا بدّ من إختصار سلسلة الأحداث، وهذا مبدأ أكيد يعزّزه الرسم  الكرونولوجي لتقوية العلاقة الزمنية لتتزوّد بها جميع الشخصيات المشتركة في إنشاء القصّة بغية اختزال نظام الزمن ليضحى حتمية دلالية..

 

ثم يقول:

 

“سمعت البروفيسور يلتمس مني أخذ زمام المبادرة والإمساك بالكلام في بادئ الأمر،  كنت مرتبكاً ارتباكاً عقلياً من هذه التجربة الغرائبية، ولكن بعد لحظات قليلة كان منالها شبه ميؤوس منه ألفت أنني أسمع كلام الجاحظ سائلاً بصوت دفين وهو يقول من وراء البردة.. هل نحن في بلاد الأغريق؟”  ص29

 

فالديالوج بين السارد والجاحظ ـ من وراء الستارة ـ يحيلنا على الحقائق التاريخية التي تكشف لنا منابع المعرفة بوصفها قيمة ثقافية تقوم بوصل الماضي النفيس بالحاضر بأدوات ثقافية مآلها المعرفة، هذه الخاصية تمثّل مرجعاً لبنية محدّدة هي في واقع الحال بنيةٌ تواصلية درجت أن تعمل في إطار هذا المبدأ يقول الجاحظ:

 

“يبدو لي أني أعرفه وأظنّه ألّف كتاب مديح الجنون” ص29

 

إنّه يقصد بالتحديد (إيراسموس) والذي سمّيت الساحة في (لاهاي) باسمه، وهذا الأخير:

 

 “هو من جمع آثار أرسطو في طبعة لاتينية” ص29

 

ويفتح الحوار بين السارد والجاحظ باب الجدل:

 

“شعرتُ أنَّ الجاحظ قد تأمّل على ما يبدو كلامي تأمّلاً عميقاً ثم قال هذا ما لم أطّلع عليه” ص29/30

 

هذا ما أكدّه السارد في غضون الإشارة إلى الرهبان، والكرادلة، والأساقفة في ذلك الوقت، أمّا ما يشير إليه الجاحظ فيختلف في صلبه لا سيما عند تطرّقه إلى ذكر شاعر إسمه “حبيب بن أوس بن الحارث الطائي” وذكر أنَّ والد الشاعر هذا كان يونانياً يدعى ثيودوس فغيّره إلى أوس.. إلخ” 

 

ما يريد أن يعرضه الكاتب إنّما يتمثّل بوحدة الفكرة التي تكوّن العمل وتصوغ جزئياته في إطار المعرفة والتواصل الحضاري..

والحق أنَّ الشخصيات المعنية استطاعت أن تخترق جدار الواقع لتغدو مرآةً لعملية البناء، والإستدلال من التاريخ سمة البنية القصصية، وتبعاً لذلك “فنظام الزمن” يعلن عن علاقة متكاملة تمزج حضارة العرب بالإغريق والماضي بالحاضر والمعرفي بالثقافي، من هنا تكتمل هذه الرؤية ضمن اشتغالات الثقافة وتنويعاتها..

 

ويستطرد السارد لتقريب المعنى:

 

“شرعتُ أراجع (بعد انتهاء الأحداث في هذه القصّة) ذهني في أصول حكاية قول الجاحظ، فاهتديت إلى أنَّ الجاحظ ربما حفظ هذا من وريقة ترويجيّة وهو يحضر أحد مزادات الكتب النادرة وحصل على نسخة قديمة من ملفوفات “حماسة” وهي تُعرض بصندوق زجاجي صغير في مزاد كريستيس بلندن” ص30

“فآثرت ألّا ننأى إلى أمور لا تثير اهتمامي فاستعدت فكرة تأليفي لذلك الكتاب القصصي الذي زعمت صناعته وعلاقة جنس النساء فيه بعلوم اللغة” ص30

 

والنتيجة يصبح الجدل: الخطاب الفعلي الذي يحكم البنية اللغوية، وليس هذا فقط، فقضايا المعرفة نفسها إنّما تبدأ من هذا المنطلق الوظيفي، فعلينا أن ندرك بالفعل أنَّ الغوص في تاريخ الحضارات والبحث في تجلّياتها ـ كاستذكار الأماكن مثلاً أو استحضار الأرواح الغائبة ـ يحيل على قيمة عليا تقدّم أنماطاً فريدة من المعاني فيصبح البحث حينئذ الحلقة ـ الفيصل ـ لتقوية الفكرة وتزويدها بطاقة جبّارة لتختصر حلقات التاريخ في بنية عميقة ينتفي الزمن فيها تلقائياً..

 

لنا أن نلاحظ أنَّ صيغة المحاورة ليست وحدةً منفصلة عن ذاتها، بل هي تجسيم عملي لوحدات القص، وهكذا تهيمن الصيغة الأدبية على خارطة الزمن لتسهلّ العلاقة بين الزمنين (الحاضر والماضي)، وما ليس منظوراً يمكن أن تندرج دلالاته ضمن سلسلة الخصائص الأدبية، فنحن لا نظفر بالدلالة إلّا في صلب الزمن المكثّف..

 

لا يتجلّى المفهوم الفسلفي إلّا إذا قارناه بالبحث المتوازي ـ الابستمولوجي ـ الذي يتضمّن غرضاً مقوّماً في إبراز بنيته على حساب (وعي سردي) منبثق من الأحداث، إذاً فالحوار يصبح مركز الجاذبية وليس السرد نفسه، وعلى الدارس أن يبحث في خضمّه عن الظواهر الملتبسة في التاريخ لغرض تأويلها، أو الحكم عليها من منطلق أدبي يضع المعرفة في موقع الهيبة، ويحتفظ بجوهر مادتها ليعتقها من أسار رموزها أو ليقوّم دلالاتها المبتسرة مهما صُنّفت البنية، وبهذا المعنى فليست هناك بنيةٌ مجرّدة من وظيفتها، لأنّها من الثوابت، ومثل هذا فلن يكون هناك عمل أدبي لا يحمل رمزاً دلالياً، فكلّ بنية أدبية تعدّ في مجملها بحثاً دلالياً:

 

فلنقرأ المقطع ما بين القوسين:

 

“وجم الجاحظ ساعة ثم قال: لو سقط إليّ هذا الخبر لما قلت ما تقدّم: فقلت له فاصلحه” ص31

 

حين تحقّق البنية وظيفتها الأدبية خارج سياق معانيها:

 

“فعرجت وأعربت عن رأيي في طابعه الكلياني والأنسي في التأليف وولهه الشديد بالمعرفة الدقيقة لا سيما في كتاب (الحيوان) خامة كتابنا المشترك” ص31

 

عندما تحقّق اللغة وظيفة علمية:

 

“كيف أنَّ المناقشين استدلوا على أنَّ فطنته كانت سبّاقة لغيرها في الايثولوجيا والأيكولوجيا، ولمعطى نظرية فيشر وكذا في حاصل نتاج انعكاسات بافلوف الشرطية بتجاربه على الكلاب” ص31

 

عندما تحقّق الأُسلوبية وظيفتها الجوهرية:

 

“أليس المقصود من كتبَ أزهار الشر بيد أنه خطئ في لاكان متصوّراً أنّه من ألّف الطوطم والحرام، وما إن سمعت ذلك منه حتى راودتني في الحال فكرة مترجرجة، صارت فيما بعد يقيناً مؤكداً عندي وهي: إنَّ هناك من يروي كتب الأحياء للكتاب الذين رحلوا عنّا” ص32

 

عندما يصبح الحوار لبّ الموضوع:

 

“نال اكتشافي المتأخر أي فكرة حيازة الأولين لأعمالنا وأخبارنا حيزاً في كلامنا” ص32

 

وإذا كان الحوار يمثّل السمات المشتركة لبنية العمل، فإنّه يسير في الأغلب في اتجاه واحد لإقامة توازن ما، وهكذا فإنَّ ما يشيعه السارد لا يعدو أن يكون إلّا رغبة في الإختلاط بالشخصيات ليحيلنا على التاريخ، وليكشف أسراراً عن (ابن قتيبة) أو عن (أبي العباس)، حين ينسب إلى كليهما الكلام عن سيرة الجاحظ كونهما ينعتانه بالكذّاب وعلى أساس أنّه غير ثقة ولا مأمون بحسب اجتهاد أحدهما، فلا ريب أنّ اختراق السارد حياة الشخصيات ليس إلّا للإختلاط بها لغرض ما، والحق أنّنا لم نجد مسوّغاً دلالياً له، مع أن ذلك لا يمنعه عن القيام ببعض المهام إذا ما تطلّب السياق دخول مجالها..

يهيمن الحوار على مفاصل السرد المهمّة، ويصبح من مقوماته الأساسية، إنَّ مثل هذا الوضع يستدعي قارئاً حصيفاً يستوعب صيرورة الانتقالات المعرفية، ليتمكّن حينئذٍ من تفكيك شفرات استحضار الأرواح، أو سلسلة الأحداث التي تستند إلى وقائع زمنية بغية الوصول إلى المعاني الدلالية..

 

[“يقول أودامس في الشذرة السادسة على لسان أسير من أسرى الملك ميداس: “خير الأشياء طرّاً أّلا نولد، والموت خير من الحياة”] ص32

 

فما وراء الستارة ينبّئ عن شيءٍ خفي في نفس الجاحظ:

 

“وردت في ذهني فكرة هذا القول عندما توقّف الجاحظ عن الكلام والنطق بشكل تام ومفاجئ من وراء الستارة بعد أن استأذن وهو ينطق آخر كلماته على النحو الآتي: أما الآن وقد أدمنت الموت لإثني عشر قرناً وأمسيت عبداً له” ص32/33

 

حين يُفسّر الحلم من منظور دلالي:

 

“فقد أدرك الجاحظ ـ ما لم أدركه أنا ـ حلول نهاية الرحلة في الحلم فاستعاد روحه قبل أن يسلبها منه الواقع” ص33

 

حينما يكون الوصف من صلب الإيحاء:

 

يتعدّى الوصف الجوَّ الفوتوغرافي، وهذا ما يؤوّل الفعل بوصفه مظهراً تركيبياً، فما يلي إزاحة الستارة المخملية يُفسّر معنى ما يلي من جوف الغرفة الأقتم كنظير للمعنى الدلالي المتولّد من نظرة القارئ المتذكّر داخل الغرفة المنيرة.

 

إختزال الزمن وظاهرة التخيّل:

 

“عندما دنوت من الجثّة المسجاة على السرير حذاء الجدار، رأيت آنئذ البروفيسور راهمان جالساً على كرسيه إزاء السرير كمن يعاود مريضاً مقعداً، وكانت ملامح محيا الجاحظ وهو يتمدّد على السرير في هذه اللحظة تماماً كما تخلّقتها في مخيلتي وأنا أقرأ كتبه منذ مئات السنين” ص33

 

“كان يلفّ رأسه بعمامة من قماش أبيض ولحيته بيضاء دائرية متكتلة في لُفيفات كروية صغيرة، بينما كانت عيناه كلقية كبيرة خرجت مقلتها بارزة ومفتوحة، ولكنّها هذه المرّة بلا بؤبؤ مثل تماثيل المرمر، وبحافز المدلول الإدراكي الغامض للموت على ما يبدو مددت يدي إليهما وأطبقتهما بأصابعي فانسدلت الرموش طيعة ورخوة وأغلقت تماماً مثل رموش الدمية باربي” ص34

 

غرابة المضمون وتقنية الأُسلوب:

 

لم تكنِ المحاورات أو المماحكات إلّا لغرض يتناسب مع صيرورة الحكاية، أو لغرض تحليل الحلم لدواعٍ معرفية أو لإقامة بنية تكشف عن ألمعية أدبية، ومثال ذلك استحضار الأرواح، كما في حالة الجاحظ أو البروفيسور، هذا ما يجعل الأُسلوب ينحو منحىً أقلّ ما تؤوّل قيمته إنّه يجترح طرائق ترقى إلى فن الأُسلوبية البنيوية..

 

“سمعتُ في غضون هذا الإغماض الخاطف صدى لكلمات أخيرة منه وكأنّها بدت تقول: أنت لن تكون أفضل من الطبيب بختشيوع في تلك اللحظة قال البروفيسور وكأنَّ ما يلحق بالموت قد تأخر كثيراً، أنتم المسلمون لا تؤخرون الموتى” ص34

 

نلاحظ في هذا المثال لوحة فنيّة، رسمت بحرفية لتكون أداة للتعبير الدلالي، سيكون لحمل الجثّة ـ من على السرير لوضعها في الكرسي بهيأة الجالس مع دثارها الأبيض ـ مغزى دلالي، وما انحدار عمامة الجاحظ من رأسه إلى حجره إلّا لمغزى ولادة المعنى:

 

“وعملاً بإشارة البروفيسور المقصودة أدرتُ الكرسي تجاه الباب وشرعت أدفعه نحو مسجد الأتراك، كانت الساعة حوالى التاسعة مساءً وكان ضوء المساء يتلاشى بطيئاً عن النافذة العمودية الطويلة المطلّة على شجرات التنوب الثلاث في الفسحة الخضراء الصغيرة خارج مكتبة الجامعة” ص34

 

بهذا الوصف الجوهري ـ البليغ ـ تُسدل الستارة عن القصّة وعن مرجعها المتمثّل بالمكتبة والحدث الذي يدور فيها..

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

* من قصص أفلاطوني كمبردج للعراقي عبد الله طاهر

شاهد أيضاً

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي منال رضوان     المثنوى المعنوى، وديوان شمس لمولانا جلال …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *