إبراهيم نصرالله: النصُ الفلسطيني يستعصي على المحو

*خالد بيومي

حصد الشاعر والروائي الفلسطيني الأردني إبراهيم نصرالله جائزة البوكر العربية في دورتها الأخيرة عن روايته «حرب الكلب الثانية»، وكرمه معهد العالم العربي في باريس، «تقديراً لإنتاجه المتميز الذي يسعى إلى سبر جوهر الإنسان ومعنى وجوده، وعلاقته بالعالم، ناهيك بمركزية القضية الفلسطينية في كتاباته، باعتبارها من ثوابت الذاكرة الوطنية». ويرى نصرالله أن «الجوائز الأدبية ظاهرة إيجابية، ما دامت تهدف إلى تكريم المبدعين في مجالاتهم». عن الجوائز والكتابة بين الرواية والشعر وموضوعات أخرى تحدث نصرالله في حوارنا معه:

> بعد فوزك بجائزة البوكر العربية، كيف تقوّم تكريمك في باريس؟

– التكريم في حد ذاته ظاهرة حضارية، يعتزّ المرء بها، فهو بمثابة تحية كبيرة لما قدمه عبر مسيرته؛ صحيح أنها يمكن أن تكون عن مجمل الأعمال، أو عن عمل واحد، لكن كل عمل نكتبه هو حصيلة خبراتنا وحياتنا ومعارفنا، وكتُبنا التي كتبناها قبله. لذا، أعتز بتكريم مؤسسة عريقة مثل معهد العالم العربي، وبالأسماء الرائعة التي قدمت أبحاثاً في تجربتي الشعرية والروائية في باريس، خلاله، كما أعتز بجائزة البوكر التي باتت محطة مضيئة في ثقافتنا العربية، من حيث تأثيرها ومدى الاهتمام بها.

> هناك كتّابٌ ونقاد ينتقدون الجوائز الأدبيّة، ويرون أنها خلقت حالة من هوس كتابة الرواية من أجل الجوائز فقط، ما تعليقك؟

– في عالمنا العربي، نبدو غالباً، أننا ننتقد الأشياء بحجم رغبتنا فيها. لا أعرف ما هو الأمر السيئ في أن يكون هناك هوس بالرواية. صحيح أن هناك أعمالاً كثيرة ضعيفة، لكننا أيضاً شهدنا بروز مواهب رائعة. لا أظن أن الجائزة كدافع كانت السبب في كتابتها أعمالها وحسب، بل كانت خلف هذه الأعمال تجربة تستحق أن تُكتب، وأن ترى النور، وأن تقبض عليه أيضاً إذا تحقّق لك الفوز. ففي النهاية، لا تفوز الروايات السيئة. تفوز الروايات الجيدة التي قد نختلف في تقييمنا مدى جودتها، حسب ذائقتنا، وثقافتنا، وللأسف، مصالحنا أيضاً.

> هل الجوائز تشكل معياراً وحيداً للحكم على المبدعين؟

– كما أشرتُ؛ الجائزة هي تحية لمن ينالها، ولكن ليست هناك جائزة، بالمطلق، يمكن أن تكون تذكرة للأبدية، وخلود النصوص أو الكتّاب الذين ينالونها، فالزمن وحده هو الناقد الأكبر، بما يعنيه من تحولات الذائقة وتحولات النقد عبر القرون. لا أعرف أي جائزة حصل عليها هوميروس، أو ثرفانتس، أو دوستويفسكي، ولكنهم استطاعوا أن يكونوا معاصرين لنا ولمن سبقونا، وسيكونون معاصرين للأجيال المقبلة، وهذه هي الجائزة الكبرى. كتب كثيرة فازت بجوائز انتهت صلاحيتها بعد أشهر، وكثرٌ من الكتّاب الذين حصلوا، حتى على نوبل، لا نذكرهم بعد أقل من عام. أظن أن الكاتب المحظوظ هو من يستطيع أن يشقّ واحدٌ من كتبه، أو أكثر، طريقه بيُسر عبر الزمن.

> هل شكّل السردُ بالنسبة إليك إحدى أدوات المقاومة؟

– ربما شكّل السرد عموماً، في مرحلة ما، عبر تجارب كثرٍ من الكتاب الذين سبقونا، أداة مهمة من أدوات المقاومة، لكنّ تحولات السرد والشعر، في ما بعد، كانت كبيرة، بحيث لم يعد النص في تجارب كثيرة، مقاومة وحسب، بل وسّع مفهوم المقاومة وهو يؤنسنها ويؤنسن الوطني ويوسّعه، وبهذا غدت صورة فلسطين والفلسطيني في النص أكثر عمقاً وتأثيراً، وهذا وسَّع دائرة استقبال هذا الأدب، لأن هذا الاستقبال انتقل من مرحلة الولع بالبندقية وصاحبها، إلى مرحلة فهم الفلسطيني إنساناً، واستقبال النص الفلسطيني كواحد من المدونات الإبداعية العربية والعالمية، سواء على المستوى الفني الراقي، أو مستوى التعامل مع كل حكاية تُسرد.

لكنّ النص الفلسطيني في مرحلتيه، بقي نصاً ضد المحو، وضد الزوال، وضد النسيان، في واقع رسمي عربي ودولي عملَ، ويعمل، كل ما لديه ليجعل الفلسطيني ينسى، وكان النسيان دائماً حالة من حالات الموت السريري، ولحسن الحظ فإن أكثر الأشياء فاعلية في الفلسطيني هي ذاكرته.

> الحيوانات لها حضور قوي سواء في رواياتك أو دواوينك الشعرية… ما سر هذا الولع؟

– منذ فترة قصيرة، كتب الصديق الشاعر محمد علي شمس الدين مقالاً لامعاً في «الحياة» عن ديوان «الحب شرير» وقد التقط بعمق بصيرته موقع الذئب وجودياً في الديوان، ومعه بقية المخلوقات، باعتبارها بدايات الحياة، وهذا أمرٌ آمنتُ به دائماً، ويمكن أن نتساءل: هل كان من الممكن أن تستمر الحياة البشرية لو لم توجد المملكة الحيوانية؟ أظن أن الأمر مستحيل، لكن البشر عاشوا على هذا الكوكب مفتونين بإبادة هذه المخلوقات، في البر والبحر، وهذا ما تحدَّثت عنه رواية «حرب الكلب الثانية». وتحدثت أعمال روائية وشعرية أخرى عن الأمر ذاته من زوايا مختلفة. صحيح أن الأمر ينطلق في الكتابة من نقطة الوعي بهذه الكائنات، لكن لحسن حظي أنني عايشت كثيراً منها في طفولتي، وأصبحت جزءاً حيوياً رهيفاً في ذاكرتي.

> إلى أي مدى تعتمد على السيرة الذاتية في بناء روايتك؟

– السيرة الذاتية موجودة دائماً في تجربة كل كاتب، وإن لم تكن تجارب عاشها وعاشته، فهي أفكاره، أو سيرته الفكرية الداخلية، هي رؤاه، لا أستطيع أن أتعامل مع الرؤية باعتبارها شيئاً منفصلاً عن السيرة، لأن كل رؤية تتحقق هي ابنة تجاربنا وابنة ثقافتنا وأمر لصيق بأرواحنا وأحلامنا. لا أبالغ إذا قلت أن الشكل الفني هو جزء من سيرة المرء؛ لأنه محصلة مُقطَّرة لذائقته الشخصية والجمالية. لذا، نحن هناك دائماً في نصوصنا مهما أتقنّا التّخفي.

> هل يمكن أن يساهم الأدب في بلورة هوية وطنية، في ظل تنامي الدعوات العنصرية إلى تفتيت المجتمعات؟

– لا أشك في ذلك أبداً، وحين أنظر إلى الدور الذي لعبه الأدب الفلسطيني وبقية الفنون، أدرك أن الأدباء والفنانين منحونا كِتابَ روحنا الحقيقي، لذا أعتقد أن الأدب والفن الفلسطينيين من أهم العوامل التي تشكل الهوية الفلسطينية بعد النكبة. صحيح أن الأدب والفن كانا حاضرين قبل النكبة، لكنهما، بعدها، استندا إلى ذلك المنجز الغني لتحقيق منجز إبداعي أكبر. كانت الزعيمة الصهيونية غولدا مائير تقول: لو كان الفلسطينيون شعباً لكان لهم أدب. وهي جملة مغرضة بالتأكيد وكاذبة. لكن، على رغم عنصرية الجملة، إلا أنها تؤكد أن وجود أدب لشعب ما جزء أساس من حقيقة وجوده.

> حدثنا عن تأثير البيئة السعودية في تقنيات كتابة روايتك الأولى «براري الحُمّى».

– ربما ألزمتني الحالة التي عشتها كمدرس في النصف الثاني من سبعينات القرن الماضي هناك، بأن أبحث عن شكل فني يستوعب تلك التجربة، ولولا السعي إلى ذلك، لكانت الرواية فقيرة. لقد تحدّتني التجربة وزلزلتني، ولم يكن منطقياً أن أعبر عنها بطريقة تقليدية، لكن بحثي الطويل في فن الرواية لكي أكتبها، ألزمني في ما بعد بأن أظل وفيّاً لفكرة التجريب، والتنوع داخل التجربة. لقد تركت التجربة في تلك البيئة بصماتها على هذه الرواية، كما تركت التجارب المختلفة والبيئات المختلفة، أثرها في أعمال أخرى، كما حدث مثلاً حين كتبتُ: «زمن الخيول البيضاء»، «طيور الحذر»، «حرب الكلب الثانية»، «أرواح كليمنغارو»، وأيضاً حدث ذلك في دواوين مثل: «باسم الأم والابن»، «عواصف القلب»، «مرايا الملائكة»، «الحب شرير»، وسواها من الأعمال الروائية والشعرية.

> الرواية تعد الآن (متحف الفنون) حيث تتداخل الأسطورة والخرافة والملحمة والواقع. هل استطاع الإنتاج الروائي في العالم العربي بلورة خطابه المختلف والخاص الذي يميزها من غيرها من الفنون المتقاطعة معها؟

– أعتقد أن هناك روايات عربية أهم من روايات كثيرة تترجم إلى العربية، وتأتينا اليوم من دول العالم. كما أن الرواية العربية أصبحت عربية فعلاً، لأنها تكتب في كل بلادنا العربية، ولم تعد مقصورة على بلدين أو ثلاثة.

> كيف يكون الحب شريراً، بحسب عنوان ديوان لك؟

– أظن أن أي إجابة هنا ستكون ناقصة، لأن الديوان هو ما يفسر ذلك عبر مئتي صفحة، أو عبر ستين قصيدة تقريباً، لكن كلمة الشرير هنا، لا تأتي بمعناها السلبي المُطلق، فهي أيضاً تفيد التحبب، كما نصف طفلاً ما بأنه شقي، من دون أن يعني ذلك أنه خارج على القانون!

> هل تعتقد أن الكتابة تتحدى النسيان؟

– لا أستطيع أن أعتقد فقط، بل أستطيع أن أرى النتائج، وأنا سعيد بحجم انتشار كتاباتي بين الناس وتأثيرها فيهم، بخاصة فئة الشباب، هذا أمر يؤكد لي جدوى الكتابة جمالياً وإنسانياً ووطنياً.

> هل تؤمن بما يسمى الإلهام؟ أم إنك من الذين يعتقدون أن الكتابة ممارسة شاقة وبذل مجهود جبار؟

– الإلهام موجود دائماً، لكنه خاطفٌ كالبرق، أما العمل والجهد فهما الغيمة والمطر والحراثة والزرع، وبغير هذه العناصر لا يمكن أن يكون الإلهام رافعة إبداعية، إنه الشرارة لا أكثر.

> هل يغير الانفجار الرقمي وجه العالم كما فعل اكتشاف الطباعة من قبل؟ هل يتحكم العالم الافتراضي بما يحيط بالإنسان في عالمه الواقعي ويبقيه سجين تفاصيله وأدواته؟

– ما حدث من تغيرات في السنوات العشرين الماضية غيّرنا كثيراً، وإذا قِسنا الأمر استناداً إلى هذا التغيّر، وفي ضوء التسارع الكبير، فإن المستقبل سيغيرنا ويغير حياتنا أكثر فأكثر، وفي كل مكان في هذا العالم، وإذا فكرنا أكثر بحجم التردّي في الحياة البشرية والدمار المتواصل الذي تشهده الأرض ومناخها، فإن هذا الكوكب الصغير الجميل ومَن عليه في مهب مستقبل سنجد أنفسنا فيه في أضيق الزوايا. هذه هي الأمور التي دفعتني إلى كتابة رواية عنّا في المستقبل، هي «حرب الكلب الثانية».
_______
*الحياة

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *