يحيى القيسي: كتاباتي تحتفي بالجمال وتنتصر لقيم الخير والنور

*القاهرة – عبدالفتاح الزغبي:

الروائي والإعلامي الأردني يحيى القيسي، بدأ الكتابة الصحافية الثقافية أولاً في مقتبل التسعينات، ثم انتقل إلى الإصدارات الأدبية بمجموعتين قصصيتين هما “الولوج في الزمن الماء” و “رغبات مشروخة” كما أصدر أربع روايات عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت وعمّان وهي “بعد الحياة بخطوة” 2017 “الفردوس المحرّم” 2016 “أبناء السماء”2010 “باب الحيرة”2006 إضافة إلى كتابين في الحوارات والترجمة.
عمل في الصحافة الثقافية في تونس والأردن، وراسل “القدس العربي” اللندنية في المجال الثقافي لعشر سنوات، كما عمل في وزارة الثقافة الأردنية مدير تحرير للمجلات الأدبية والفنية، ومديرا للنشر والدراسات، وانتقل للعمل في الإمارات العربية المتحدة في مجال التحرير والإدارة الثقافية منذ العام 2009، حيث عمل نائبا للمدير العام لهيئة الفجيرة للثقافة والإعلام.
أسس موقع” ثقافات ” الالكتروني للفكر والإبداع والفنون، المعروف عربياً العام 2012 ، وهو متفرغ حالياً للبحث والإبداع، حيث نال منحة التفرغ لكتابة الرواية من وزارة الثقافة الأردنية للعام 2018. حول روايته الأخيرة ” بعد الحياة بخطوة ” وجوانب من سيرته الثقافية أجرينا معه هذا الحوار.

ما الدلالة التي قصدت الاشارة لها من خلال هذا العنوان”بعد الحياة بخطوة” ؟
عنوان الرواية بالنسبة لي عتبة مهمة لفهم النص أو للإشارة إلى المضمون من أجل حفز القارىء على التوغل في النص، وبعد الحياة بخطوة هناك الموت الذي يقلق الجنس البشري بأكمله، وبالتالي فقد حاولت مقاربة هذا الموضوع الشائك بطريقة مغايرة لما وصلنا، معتمدا في ذلك على الكثير من القراءات الخاصة عن فلسفة الموت عند الشعوب القديمة والحديثة، وعن ما يسمى تجربة الاقتراب من الموت التي يصلها بعض المحتضرين، وأيضا التأمل الخاص بالموضوع، لهذا سيجد القارئ بأن الموت شيء آخر غير ما وصله عبر النقل في الفلسفات والمعتقدات البشرية المختلفة، وله أن يأخذ بهذا الامر كمعارف جديدة، أو يكتفي بالخيال الروائي ومتعة السرد.

العالم الآخر أو الحياة بعد الموت من أهم ركائز الأديان بشكل عام كيف استطعت الابتعاد عن الموروث الديني في هذا العمل؟
لم أقدم رؤية صادمة للحياة ما بعد الموت لما وصلنا عبر النقل الديني، أي لم أحاول استفزاز ايمان الآخرين بشكل مباشر، بل قدمت رؤية موازية، تأخذ روح النص، والاشارات والرموز دون العبارات، وتبني بالتالي معمارها الروائي والموضوعي الخاص، وللمتلقي أن يأخذ ما يريده منها أو يرفضه، المهم أن علينا ألا نركن إلى الجانب المطمئن من المعارف، ونأخذها بحذافيرها، بل وظيفة العمل الفني، ومن ذلك الرواية تقديم رؤية خاصة، والابتعاد عن السائد، على أن يشكل ذلك عملاً فنيا أولا وأخيرا مقنعاً، لأن الرواية في النهاية ليست كتاب تاريخ، ولا فلسفة، ولا علوم، إنما من حقها أن تأخذ ما تشاء من المعارف، وتقدم رؤيتها الخاصة بكل سلاسة للمتلقي.

هل يمكن القول إنّ روايتك الجديدة تشكّل رباعية مع ما سبقها من ناحية مناخاتها وانشغالاتك فيها؟
انشغلت في رواياتي الثلاثة “باب الحيرة” و”أبناء السماء” و”الفردوس المحرّم” بموضوعات تتعلق بالعوالم اللامرئية أو الميتافيزيقا، إضافة بالطبع إلى البحث العلمي في أسرار الكون، وما يتعلق بالسيطرة على البشر ليغدو قطيعا يساق حسب ما يريده من يحكمهم بشكل سرّي، إضافة إلى البحث عن جذور هذه الميتافيزيقا في التراث العربي والإسلامي بشكل خاص، وقد وجدت ذلك جلياً عند المتصوفة وإرثهم الغني الذي وصلنا. لهذا فإن “باب الحيرة” مثلا انشغلت بسؤال الشكّ والإيمان، والبحث عن اليقين عبر شخصيتها الرئيسة، فيما جاءت “أبناء السماء” لتبدأ حفراً معرفياً في إمكانية الإيمان عن طريق العلم والاقتناع وليس عبر الإيمان النقلي التقليدي، وركّزت “الفردوس المحرّم” على ضرورة أن ينتبه البشر إلى إمكانية التضليل الكبير الذي حدث لهم فيما وصلهم من العلوم، وأيضا في تزوير التاريخ، حيث قدمت الرواية مقاربات جريئة وجديدة لفكرة نشأة الإنسان على الأرض، أي فردوس آدم المفقود وأين هو، وما جرى في تلك الحقبة المبكرة للبشر، ضمن رؤية سردية تشتغل على عناصر التشويق وحركة الشخصيات والمخيال الجامح، أما الرواية الجديدة فهي مختلفة تماما عما سبق من ناحية الشخصيات والهواجس والانشغالات، لكنها تلتقي مع ما سبق من ناحية المناخ العام أي بحث الشخصيات عن المعرفة واليقين، وهذه المرّة عبر سؤال عن الموت المحيّر وأسراره.

البحث عن سؤال الحياة
ما الذي قادك إلى الاهتمام بالموارئيات والعوالم غير المنظورة في رواياتك، هل هو قلق داخلي منذ الصغر أم رغبة جامحة بالمعرفة واسرار الحياة ؟
منذ صغري وأنا دائم البحث عن سؤال الحياة، وأسرارها، وما وراءها، وهذا الأمر قادني شخصيا إلى التقلب في أفكاري بين الشك والإيمان، وبين القلق، والاطمئنان، وقد تنقلت بين الإيمان التقليدي القائم على الموروث من الأهل والمجتمع القروي المحافظ إلى الشكّ الديكارتي وأفكار نيتشة وماركس، خصوصاً مع التأثر بالأدباء اللادينيين خلال التسعينات مع انطلاقتي الأدبية في القصة القصيرة والصحافة الثقافية أولا ثم الرواية لاحقاً. بعد تلك المرحلة الثانية بدأت بالشكّ مجددا بهذه الأفكار المادية التي بلا أمل ولا تقود إلى شيء غير الهباء، وكان أن وجدت نفسي مطمئناً إلى المرحلة الثالثة التي تزاوج بين العلوم الحديثة وبين الروحانيات والتصوّف والإيمان القائم على التأمل والمعرفة والاقتناع العقلي.لهذا يمكن القول إن رواياتي رافقت تطوراتي الروحية، ونضجي المعرفي، وأنا بطبيعتي أؤمن بالرواية التي تقدم المعرفة وليس الحكاية فحسب، فالرواية وعاء ضخم لاستيعاب طرح الأسئلة الوجودية الكبرى، والبحث الدائم، كما أنني أدرك أن الكتابة نوع من الخلق، لا يجوز العبث به، أو صنع كائنات مشوهة من خلالها، لتزيد القبح في هذا العالم. الكتابة التي أتبناها تحتفي بالجمال وتنتصر لقيم الخير والنور، لا كتابة الحضيض السفلية التي تجعل الحياة أكثر سوءاً مما هي عليه.

تكتب عن وقائع وأحداث تمزج بين الواقع وبين الخيال العلمي. هل تفكر بمدى إقناع القارئ بالأحداث وأنت تكتب؟
أكتب من دون سطوة من القاري عليّ أو تدّخل، وأحاول قدر الإمكان الهروب أيضاً من تنظيرات النقاد، وتأطيراتهم للأعمال الأدبية ضمن آفاقهم النقدية ودروسهم الأكاديمية، ومع ذلك أدرك بعد نحو ثلاثين سنة من الكتابة أنها عمل شاق، ويحتاج نضجا معرفيا وخبرة، وبالتالي فإنني أراقب ما أكتب جيداً، أي أضع رقابة داخلية من خلال خبراتي وقراءاتي الكثيفة، فالرواية عمل أدبي أولاً وأخيراً، فيها من الخيال والتحليق في عوالم مثيرة ومشوقة للقارئ الكثير، وثمة أساليب للسرد، وتقنيات ولغة صحيحة وفي مكانها المناسب، وحوارات وأفكار ومعارف، وكل هذه العوامل يجب أن تكون متقنة وفيها روح خلاقة وإبداع جديد.الكتابة لا تأتي من فراغ بل تحتاج إلى خبرات مقطرة وقراءات كثيفة ورؤية فكرية خاصة بالكاتب لينقلها للقارئ، ولهذا أترك الأمر للقارئ ليحكم على العمل وليتفاعل معه بطريقته أو يرفضه إن أراد. في النهاية لا يوجد قارئ واحد ولا ناقد واحد بل لكل ذوقه الخاص، ومعارفه المسبقة، وأنا أحترم وجهة نظره في النهاية، لكني لا أكتب إرضاء له، ولا تحت ضغط منه.

التابو الفكري
تكتب في منطقة تقترب أحيانا من التابو كأن تجعل الانسان يعيش حياة أخرى بعد حياته الارضية فاما الارتقاء وإمّا الحضيض. ألا تخشى من ردة فعل متطرفة من أولئك الذين ينصبون أنفسهم حراسا على الفكر؟
– رواياتي كلها بالمناسبة مفخّخة بالتابو الفكري، وهي تقدم وجهة نظر مغايرة لما وصلنا من اجتهادات الأقدمين، ولكن هدفها ليس الاصطدام مع هذه الطروحات ولا نقضها بل تقديم رؤى مغايرة تحاول أن تجد لها مكانا في عقول القراء. قلت فيما سبق إنني أؤمن بالرواية المعرفية وليست رواية الحكاية فحسب، أي الرواية التي تقدم الفكر السلس للقارئ، عبر حكاية وشخصيات وحبكات وتقنيات سردية، وبالتالي يمكن للرواية أن تساهم في تغيير المجتمع ولو بشكل بطيء، ويمكن لها أن تكون رافداً إبداعياً للفكر النظري الجاف، وحين أنشر عملاً لا أسعى للدفاع عن طروحاته الفكرية وما يتضمن من رؤى قد تكون صادمة لبعضهم ومرفوضة من آخرين. في النهاية ستجد الرواية قراءها المتحمسين لها ولو بعد حين، أما ما يتعلق بحراس الأفكار المتربصين بالخارجين عن فكرهم، فأتمنى أولاً أن يتورطوا في القراءة المعمقة والمتأملة في الأعمال الأدبية، وعندها من المؤكد أنهم سيتغيرون.
وفي كل الأحوال أرى أن على الأديب أن يقوم بدوره في مواجهة الفكر المتطرف من خلال كتاباته ومقالاته بشكل غير مباشر، وأن لا يركن إلى أن المجتمع سيتغير من تلقاء نفسه.
هل استعنت بمصادر معرفية او سواها وأنت تؤثث معمار روايتك. أقصد المنحى الفلسفي او سؤال الرواية او مقولتها؟
القراءة المعمقة في مثل هذه الموضوعات التي تتناولها الرواية مسألة مهمة، وأيضا مشاهدة الأفلام الوثائقية، والتأمل أيضا، كلها مسائل تسبق الكتابة، لأني أجد أن الروائي في حال بدء الكتابة سيكون تحت تأثير كل خبراته وقراءاته وخياله الخصب ليؤثث عالمه الروائي. في الحقيقة منذ سنوات طويلة وسؤال “الموت” يؤرقني، وقد اطلعت بالطبع على المدونة التراثية الاسلامية في ذلك، إضافة إلى رؤية بعض الفلاسفة الغربيين والشرقيين له، كما انشغلت طويلاً بمشاهدة بعض تجارب “الاقتراب من الموت” التي مر بها بعض الأشخاص الذين خضعوا لعمليات جراحية صعبة، أو اختبروا الموت من خلال غيبوبة طويلة، وبالتالي ما كتبته في الرواية مقاربة خاصة لهذا الموضوع المؤرق لبني البشر، وأنا أؤمن بها، فالحياة تستمر، والموت وهم، وخاص بالجسد المادي فقط، وهذا ما تقوله العلوم الحديثة أيضاً، فالمادة لا تفنى ولا تستحدث بل تتحول من شكل إلى آخر، والجسد المادي يتحلل، لكن الجسد الأثيري باق، بكامل وعيه. صدق ذلك من صدق، وكذبه من أراد.
ماذا يشغلك اليوم ؟
انشغلت خلال السنتين السابقتين بانجاز رواية التفرغ الإبداعي لوزارة الثقافة بعنوان “حيوات كامنة” وهي تنشغل بموضوع الحيوات السابقة التي من الممكن للإنسان أن يكون قد عاشها على الأرض من قبل، وبالطبع فقد ربطتها بالحاضر، واشكالياته، وكل رواياتي السابقة كما أشرت منشغلة بالواقع مثلما هي تغوص بعيدا في الخيال، وآمل أن انتهي منها مع نهاية شهر اغسطس المقبل، وتنشرها الوزارة في العام 2019. إضافة بالطبع إلى تفرغي لقراءات معمقة في التصوف سيأتي ثمارها في العام المقبل ان شاء الله.
_______
*السياسة.

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *