تودوروف.. الخوف ابن القرن 19

القاهرة- يعتبر «إدجار آلان بو» هو الأب الشرعي لنوع من الكتابة يبعث الرعب في نفوس القرّاء، وقد قال عنه شارل بودلير: «ما من أحد حكى بأكثر من هذا السحر، استثناءات الحياة الإنسانية والطبيعية» كما أن دستويفسكي كتب يوماً: «إن بو، على الدوام يختار تقريباً الحقيقة الأكثر استثناء، يضع شخصيته في الموقف الأكثر استثناء، على الصعيد الخارجي أو السيكولوجي».
وفي كتابه «مدخل إلى الأدب العجائبي» الذي ترجمه إلى العربية «الصديق بو علام» يحلل «تودوروف» قصة لإدجار آلان بو، عنوانها «اندحار منزل أوشر» حيث يصل السارد إلى المنزل مدعوّاً من طرف صديقه «رودريك أوشر»، الذي يلتمس منه أن يبقى معه بعض الوقت، رودريك كائن مرهف الحساسية، عصبي، ويحب أخته، المريضة مرضاً فتاكاً، تموت بعد بضعة أيام، وبدلاً من أن يواريها الصديقان التراب، يضعان جثمانها داخل سرداب من سراديب المنزل، تمر بعض الأيام، وذات مساء عاصف، وبما أن الرجلين يوجدان في غرفة يقرأ فيها السارد بصوت عالٍ قصة فروسية قديمة، إذا بالأصوات الموصوفة في الوقائع تبدو كأنها رجع للأصوات المسموعة في المنزل، وفي النهاية ينهض رودريك أوشر ويقول بصوت لا يكاد يسمع: «لقد وضعناها حية في القبر».
وإذا بالباب ينفتح، والأخت تنتصب على العتبة، يرتمي الأخ والأخت في أحضان بعضهما، ويهويان هالكين، فيهرب السارد من المنزل في اللحظة المناسبة والذي يتهاوى في المستنقع المجاور، ويفسر تودوروف هذه القصة بأن للغريب هنا منبعين: الأول متشكل من مصادفات (فهناك منها مثل ما في قصة فوق – طبيعي مفسر) هكذا يمكن أن يظهر انبعاث الأخت وانهيار المنزل بعد هلاك ساكنيه فوق – طبيعيين، لكن «بو» لا يغفل تفسير هذا الحدث أو ذاك عقلانياً، يكتب عن المنزل: «لعل عين ملاحظ دقيق كانت ستكتشف شقاً لا يكاد يستبين، يبدأ من سقف الواجهة، ويفتح طريقاً متعرجاً عبر الجدار، وكان يمتد إلى أن يضيع في مياه المستنقع».

يرى تودوروف أن في «اندحار منزل أوشر» ما يربك روع القارئ، هو الحالة المرضية للأخ والأخت، في مكان آخر ستكون مشاهد فظاظة الالتذاذ بالشر والجريمة، تؤدي الدور نفسه، فالشعور بالغرابة ينطلق إذن من الموضوعات المذكورة.
يشير الناقد الكبير إلى الموضوعات التي يعالجها الأدب العجائبي ومنها: «الأشباح الحديثة – الشيطان وحلفاؤه – الحياة فوق الطبيعة» وهناك أيضا بشكل تفصيلي: مصاصو الدماء، الشبح العائد، الذئب، الساحرات والسحر، الشبح الحيواني، الأجزاء المنفصلة من الجسم البشري، اضطرابات الشخصية، وهناك من يقدم تصنيفاً أكثر تفصيلاً في موضوعات مثل: الميثاق مع الشيطان ومثاله فاوست، الروح المعذبة التي تقتضي تحقق فعل معين كيما تحقق راحتها، الشبح المحكوم عليه بسباق غير منظم وأبديّ ومثاله «شبح الموت الأحمر» لإدجار آلان بو.
يوضح تودوروف أنه يجب قراءة رواية عادية (غير عجائبية) لبلزاك مثلاً، من البداية إلى النهاية، لكن إذا قرأ الإنسان بدافع نزوة ما، الفصل الخامس قبل الرابع في رواية عجائبية، فإن الخسارة لن تكون بنفس الضخامة.
من هنا – كما يرى تودوروف فإن القراءة الأولى والثانية لحكاية عجائبية، تخلق انطباعاً مختلفاً (أكثر مما هو عليه بالنسبة لجنس آخر من الحكي) وتصبح القراءة الثانية لا محالة ما وراء – قراءة، ميتا قراءة، أو قراءة واصفة، يتم بيان إجراءات العجائبي بدلاً من تلقي سرّه.
كما أن الحكي العجائبي ليس وحده الذي يؤكد زمن التلقي أو الإدراك في الأثر الأدبي، فالرواية البوليسية ذات اللغز تشدد عليه أكثر، وطالما أن هناك حقيقة يتعين اكتشافها، فإننا نكون بإزاء سلسلة صارمة لا يمكن تبديل أدنى حلقاتها، ولهذا السبب بالذات لا نعاود قراءة الروايات البوليسية.
يستشهد تودوروف بمقولة بلانشو: «إن الفن يكون حقيقياً بما يكفي لجعله سبيلاً، ولا واقعياً أكثر لكي يتحول إلى حاجز أن الفن هو «كأن»
(أداة تشبيه) معينة»، لكن تودوروف يواصل: «إن خاصية الخطاب الأدبي هي أن يذهب إلى الماوراء (وإلا فلن يكون ثمة داعٍ لوجوده)، أن الأدب مثل سلاح فتاك بواسطته تحقق اللغة انتحارها، موضحاً أن القرن التاسع عشر كان يحيا في ميتافيزيقا الواقعي والمتخيل، كما أن الأدب العجائبي ليس إلا الوعي السيئ لهذا القرن، لكن اليوم لم يعد بمقدور الإنسان أن يعتقد بواقع مستقر خارجي، ولا بأدب ما هو إلاّ نسخ لهذا الواقع.
في الأخير يمكن تعريف «العجائبي» كما يراه تودوروف، بأنه يتميز باقتحام موضوع أو شيء غير مألوف لحقل الواقعي، المشوش أولاً، ثم المحول إلى الأساطير التي يثيرها العصر الوسيط، بواسطة العجيب، وسرعان ما انتشر العجائبي في الأدب الغربي، واتخذ شكل التخييل العلمي فيما بعد، كما أنه يلهم فن السينما بكثرة.
يضع تودوروف ثلاثة شروط للعجائبي: أن يحمل النص القارئ على اعتبار عالم الشخصيات، بوصفه عالم شخوص حية، وعلى التردد بين تفسير طبيعي وتفسير فوق طبيعي للأحداث المدوية، ثم قد يتوحد القارئ مع الشخصية.
_______
*الخليج الثقافي

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *