نفحات من كتاب “جوهر الحياة” للنيّل أبو قرون: الدين دعوة أخلاقية لإصلاح المجتمع وليس لإقامة دولة سياسية

 

خاص- ثقافات

محمد أمين أبو العواتك*

 

نواصل المسير في رحلة الاستنارة إلى جمال وكمال رسالة الأخلاق التي بُعث سيدي رسول الله صلوات ربي وبركاته عليه ووالديه وآله لإتمامها، فكان مثالها الباهي، أدّى أمانتها على الوجه الأتمّ والأكمل وهو قدوتها الممدوحة ومرجعيتها، لذا كان المدح الإلهي له بالأخلاق        (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ).. لا بالعلم رغم أنَّه (مدينة العلم) وفي ذلك إشارة لأولي الألباب.

وما كانت الرسالات السماوية جميعها إلا نسخاً من دين واحد هو الإسلام (إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ) لأجل خلق المجتمع الفاضل، ومقصدها جميعاً الأخلاق وليس الحكم السلطاني أو إقامة الدولة والعدوان على الآخر، لأنَّ أمر الدين كله لا إكراه فيه ولا عدوان إلا دفاعاً ضد معتدٍ.. والهيمنة المذكورة للهدي الإلهي الخاتم ما هي إلا  لشموليته لكل الرسالات السابقة وليس إلغاء لها.. فأهلها مأمورون بنص القرآن الكريم بإتباع ما أُنزل إليهم (وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ..) و (وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ..)، فالمرفوض هو (التفسير الخاطئ) من الأتباع في كل الرسالات  السماوية وهو (التحريف) في كلام الله، فالرسالات نزلت صحيحة كما أمرنا الله بالإيمان بأنبيائها وبكتبهم.. ولكن (لتتبعنّ سُنن الذين من قبلكم شبراً  بشبر..)!!

فتبيان هذه الكتب موجود في القرآن الذي ما فرط الله فيه من شيء.. فالأنبياء جميعاً هم أحبُّ خلق الله إليه، وهم قمة أممهم وقمة الأخلاق في من بعثوا فيهم، ويستحيل أنْ يكون هناك من يفضلهم في أممهم وإلا لكان هو الرسول!!

 فهم مرجعية الأخلاق والبيان مع كتبهم السماوية فحاشاهم البلاغ الخاطئ أو مخالفة الحق في ما بعثوا به، فلنراجع الأخطاء في ما يوجد من إساءات بحقهم.. فلا تنفك الرسالة عن الرسول وما الآفات التي دخلت علينا إلا من هذا الباب، وهو فصل الرسول عن الرسالة فإثبات العصمة للنبي الأكرم من الثوابت مع الكتاب (.. وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ..).. فالرسل هم كلمات الله التامّات، وهم الذين يختطون الطريق لمن بعثوا فيهم سيراً إلى الله، فهم (الشرعة) والذي يختط الطريق لا يقال له إنَّه يخطئ فالذي يخطئ هو المُتبِع له.. لذا التزام معية الأنبياء بها النجاة حتى لا نكون كالحواريين الذين قال لهم عيسى عليه السلام (..قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ..) ولم يقولوا نحن أنصارك إلى الله.. وهو ما فعلته بلقيس ملكة سبأ عندما قالت (.. رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)، وهو أمر متسق مع (.. اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ)، والهدي الذي أنزل إليهم كتباً سماوية وعلماً هو (المنهاج) المضمن في رسالاتهم السماوية المختلفة (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا).

فالتشريعات، والمشار إليها بالحكم، لا تعني الحكم السلطاني الذي فهمه البعض خطأ واختطفوه لإكراه الناس باسم الله حكماً سلطانياً عدوانياً لا يختلف نوعاً عن الذي أزال سلطانه سيدي رسول الله يوم فتح مكة عندما قال لهم: (اذهبوا فأنتم الطلقاء)، ولم يكره أحداً على قول (لا إله إلا الله)، فكان أنْ أزاح طاغوت السلطان في مكة ليختار الإنسان ما يشاء ( .. فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ).. فكان فتحاً للحرية والتبشير برسالة الأخلاق وليس للسلطان.. فالحكم المشار إليه في كل آيات القرآن والكتب السابقة هو التشريعات، وهي ما أنزلها الله تعالى وأهميتها لضبط المجتمع في حالات تجاوز الأخلاق، وهو فعل القضاء، ولا علاقة لها بالحكم السلطاني، لذا رسالة الإسلام دين ودعوة أخلاق لكل البشرية وهي الطريق الأوحد لعالمية الرسالة الخاتمة وشموليتها للعالمين (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ)، ولا يتأتى ذلك إلا بانتهاج مقصدها، وهو الأخلاق، والتمثُّل به قولاً وفعلاً وإيماناً، وهي التقوى التي هي ترك كل ما يخالف الأخلاق.

فأرسل الله سبحانه الرسل عليهم السلام بالبلاغ (.. مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ)، القصد منه السلوك بقيم أخلاقية سامية خطها الله سبحانه لخليفته الإنسان في الأرض لإعمارها، فجاءت الشرائع لمراعاة الانضباط في السلوك، في التعامل الأخلاقي الذي يؤهل الإنسان للحياة الخالدة، وهذه القيم التي جاء بها الرسل بالبلاغ هي التي تحفظها التشريعات، وسمى الله هذه التشريعات حكماً فقال تعالى على لسان موسى عليه السلام: (فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ)، وقال تعالى: (وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا..) وقال عن يحيى: (..  وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا)، ولم يكن موسى ولوط ويحيى عليهم السلام حكاماً على تلك البلاد وهو تشريع يتعامل به الفرد ويتحاكم إليه الناس لضبط معاملاتهم ولا يعطي أفضلية لأحد على الآخر ولو طبق هذا التشريع في دولة فلا فرق فيه بين الأمير والخفير ولا توجد فيه امتيازات لمن يطبقه.. قال تعالى: (إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا..) فحكم النبيين الذين أسلموا هو التشريعات التي أعطاها الله لهم ويتعامل بها الناس في المجتمع وتحكم معاملاتهم، وما على الرسل إلا إبلاغهم بها ليحتكموا إليها لا ليتسلطوا بها عليهم، والرسل هم مرجعية الناس في التعامل بها وتطبيقها وهو أمر مقيد بالتقاضي والمعاملات وشؤون الحياة التي تقع تحت مظلة هذه التشريعات.

لم ترد كلمة حكم في القرآن إلا بمعنى التقاضي لكن بعض الناس خلطوا بين هذا النوع من الحكم والسلطة السياسية جهلاً أو قصداً مبيتاً ليحرّفوا الدين عن صراطه المستقيم وطريقه الحقيقي قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى المَلإِ مِن بَنِى إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِىٍ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ في سَبِيلِ اللهِ)، فهذا يوضح أنَّ النبي لم يكن حاكماً سلطوياً، لذا طلبوا منه أنْ يبعث لهم ملكاً فجهل من يقول إنَّ الإسلام الذي جاءت به الرسل هو حكم سلطوي، فالرسل لا يدخرون سبيلاً في توصيل الرسالة الناس الناس بقصد إخراجهم من الظلمات إلى النور ولا يتم ذلك بتكوين حكومة دينية لإجبار الناس وإكراههم على ما جاءوا به، ولا يطلبون بذلك سلطة أو حكماً للسيطرة عليهم ولا أجراً كما فهم الجاهلون أو المحرّفون عن قصد الذين قالوا إنَّ الدين دولة وسلطة ربانية لقهر الناس سياسياً باسم الله، فالحكومات التي ينشئها الناس لإدارة دولتهم هي حكم مدني يتعارفون عليه، فإذا طبقت الحكومة التشريعات التي جاء بها الرسول لا تسمى هذه حكومة دينية ولا يعطيها ذلك صفة القداسة ولا يعطي رئيسها الحق في التشريعات الدينية ولا يعطيه امتيازات دينية سلطوية، ولا يكون بصفته رئيساً للحكومة هو المسؤول عن عقائد الناس، فالشريعة قانون يطبقه القضاء على رئيس الحكومة وغيره.

والتشريعات ليست هي كل ما بعثت به الرسل إنَّما هي الجزء من الرسالة الذي ينظم تعامل الفرد مع نفسه ويحفظ التعامل بين الناس لخلق المجتمع الفاضل، فالبعثة كما وضحها سيدي رسول الله صلى الله وبارك عليه ووالديه وآله (إنما بُعثت لأتمم صالح الأخلاق)، وذلك يؤكد أنّ بعثات الرسل السابقين كانت صالح الأخلاق وأنَّ بعثته صلوات ربي وبركاته عليه ووالديه وآله أتت لتتمم صالح الأخلاق

والرسل عليهم السلام لسماحة أخلاقهم لا يتعاملون مع من أرسلوا إليهم بالشريعة فحسب، بل بالعفو والحلم والإحسان وعظيم الأخلاق، فالله سبحانه يبعث رسله بصالح الأخلاق وبقانون الشرع الذي سماه الله حكماً لأنَّه يتحاكم إليه الناس ويحكم معاملاتهم المدنية والجنائية وأحوالهم الشخصية، ويؤتي الله رسله مع ذلك علماً يتسامى فوق التعامل بالحقوق يتميز به الرسل عن من أرسلوا إليهم (وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا..) فالاحتكام إلى الشريعة هو الحد الأدنى من التعامل بالرسالة ليتساوى الجميع في التعامل بها للحفاظ على الحد الأدنى من الأخلاق، وذلك بالحفاظ على الحقوق المدنية والجنائية والشخصية.

يعرف الأخيار من الناس بالسمو فوق المطالبة بالحقوق الشرعية ويقولون: (حسبُك من البخل ألا تبقي من حقك شيئاً) فترى فيهم (.. الْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)، فكلما يوجد مخالف لنص (إنَّما بُعثت لأتمم صالح الأخلاق) في الموروث لا عبرة به، بل هو من المنكرات والقاعدة الذهبية هنا أنَّ كل علم لا يدعو إلى صالح الأخلاق إنَّما هو فتنة مهما زينه صاحبه بما يلفت الأنظار بغير المألوف.. ونتنسم نفحات عبير كتاب (جوهر الحياة) للمفكر والمجدد الشيخ النيل أبو قرون.

الصالحون هم الذين يسعون لخلق المجتمعات الفاضلة بسلوكهم اقتداء بمن بُعث ليتمم صالح الأخلاق التي دعا إليها كل الرسل وهم الذين بهم يتم إصلاح المجتمع وتنوير الناس وتذكيرهم بما جاء به الرسل من كيفية إحسان التعامل وتبصيرهم أنَّ نهاية الحياة أمر حتمي وعمر الإنسان فيها قصير ونهايته أمر يقيني، والصالحون هم الذين (.. لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)،  والصالحون هم الأعلى مقاماً حتى أنَّ الرسل باستثناء محمد صلى الله وبارك عليه ووالديه وآله يسألون الله أنْ يدخلهم في عباده الصالحين والالتحاق بهذا المقام الأسنى الذي ليس فوقه مطلب  فقال عن يونس عليه السلام (فاجتباه ربه فجعله من الصالحين) وعن يوسف عليه السلام (.. توفني مسلما والحقني بالصالحين) وعن سليمان عليه السلام (..وادخلني برحمتك في عبادك الصالحين)، وهم في أمم كل الرسل والدخول في الصالحين يكون بالرحمة المهداة سيدي رسول الله لأنَّ الله سبحانه وتعالى قد أخذ العهد على كل الأنبياء بالإيمان بمحمد لأنَّه خاتم الأنبياء ومصدق لكل الرسالات السابقة ومبين لها. فالإنسان عليه أنْ يعيش حياته في هذه الدنيا فيما يوفر له السعادة في التعامل مع الناس بالخلق الحسن والحب والإيثار وهذا هو العمل الذي يفيده في الدنيا وفي الآخرة لقول الحبيب المصطفى (أقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحسنكم أخلاقاً) في أعظم المجالس وأعلاها في الآخرة وهو المجلس المحمدي العظيم.
___________

‎* إعلامي من السودان

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *