*هاشم صالح
في النهاية لا يصح إلا الصحيح.«فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض».صدق الله العظيم. هذا ما يمكن أن نقوله عن تلك المغامرة الجنونية الهائلة للزعيم الصيني الأشهر في التاريخ المعاصر: ماو تسي تونغ.
فلولا تطرف سياساته وعماه الأيديولوجي الماركسي اللينيني لما كانت هذه العودة المحمودة إلى فيلسوف الصين الأكبر على مدار العصور: كونفوشيوس. وبالتالي فرب ضارة نافعة.
هل نعلم بأن «القفزة الكبرى إلى الأمام» التي انتهجها ماو تسي تونغ كسياسة اقتصادية كارثية كلفت الصين 45 مليون ضحية؟ ومعلوم أنها جرت بين عامي 1958- 1960.
ثم تلتها «الثورة الثقافية البروليتارية الكبرى» بين عامي 1966- 1968 وكلّفت الصين أيضا بضعة ملايين إضافية.
وهكذا خرجت الصين مستنزفة تماما من تلك المغامرات العشوائية المؤدلجة.
وكانت الصدمة من العنف والعمق إلى حد أن خليفة ماو تسي تونغ السيد دينغ هزياو بنغ انقلب على السياسة السابقة رأساً على عقب.
وعلى هذا النحو جعل من الصين القوة الاقتصادية العظمى الثانية في العالم في ظرف سنوات معدودات.
ماذا يعني كل ذلك؟ إنه بكل بساطة يعني أن الأيديولوجيا والشعارات الطنانة الرنانة لا تطعم خبزاً.
بيان التحطيم
لكي نفهم الصين الحالية ينبغي أن نأخذ كل هذه الحقائق بعين الاعتبار. ولكن لنذكّر بما حصل ولو بسرعة شديدة.
يقول البيان الذي أصدره ماو تسي تونغ آنذاك: إن الثورة الثقافية البروليتارية الكبرى تهدف إلى تصفية الأيديولوجيا البورجوازية، وزرع الأيديولوجيا البروليتارية محلها.
كما وتهدف إلى تغيير الإنسان الصيني في العمق، وتحقيق ثورته الايديولوجية واستئصال جذور النزعة التحريفية، وتهدف أيضا إلى ترسيخ النظام الاشتراكي وتطويره.
ثم يضيف البيان مهدداً متوعداً: ينبغي أن نحطم مسؤولي الحزب الذين انخرطوا في خط الرأسمالية.
وينبغي أن نحطم كل الأكاديميين والمثقفين الرجعيين الكبار المنتمين إلى الطبقة البورجوازية.
وأخيراً ينبغي أن نستأصل كل الفكر والثقافة والأخلاق والعادات والتقاليد القديمة الخاصة بالطبقات الاستغلالية.
انتهى نص البيان.
نلاحظ أن الفقرتين الأخيرتين تشيران إلى كونفوشيوس دون ذكره بالاسم.
ولكن الشيء الذي حصل هو أن كونفوشيوس هو الذي استأصل الشيوعية الماوية وليس العكس! فاليوم أصبح من التابوات المحرمات أن تذكر موضوع الثورة الثقافية وصراع الطبقات في الصين.
وذلك لأن هذه الثورة «اللاثقافية» في الواقع تمخضت عن دمار وخراب.
العدو الأول
ولكن يبقى السؤال مطروحاً: لماذا عادت الصين إلى تراثها القديم متجسداً في شخصية حكيمها الأكبر كونفوشيوس؟ نقول ذلك وبخاصة أنه كان ممنوعا ذكر اسمه منعاً باتاً طيلة العهد الشيوعي.
فماو تسي تونغ كان يعتبره شخصاً رجعياً ينبغي استئصاله من ذاكرة الصين واحلال الفكر الماركسي – اللينيني كليا محله.
يقول لنا البروفيسور الكندي دانييل أ.
بيل المتخصص بالشؤون الآسيوية والأستاذ الزائر في جامعة بكين ما فحواه: لو قال لنا أحدهم قبل خمسين سنة بأن الصين ستعود إلى كونفوشيوس وأن فكره سيصبح رائجاً «على الموضة» لاعتقدنا بأنه شخص مجنون، وحتما لضحكنا عليه وشككنا في إمكانياته العقلية والنقلية.
والسبب هو أنه كان يمنع ذكر اسمه منعا باتا في عهد ماو تسي تونغ.
بل وكان أي مثقف إذا ما ذكر اسمه أو أعلن إعجابه به يغامر بنفسه ويقوم بعمل انتحاري، فقد كان يمثل بالنسبة للعهد الشيوعي المادي العدو الرجعي الأول الذي تنبغي محاربته بأي شكل.
بل وظهرت صورة شخصية لماو تسي تونغ على واجهة إحدى الجرائد الثورية الكبرى، وهو يعلن نزع الهيبة القداسية عن حكيم الصين الأعظم.
ولكن الآن ماذا حصل؟ لقد انقلبت الأمور بمائة وثمانين درجة، وذلك لأن الشيوعية ما عادت تجذب الناس ولا تقنعهم، بل إنها تنفرهم وتقززهم.
على أي حال بما أن الكونفوشيوسية تشكل جوهر التراث الصيني، فإن عودة الحكيم الشهير أصبحت ممكنة.
بالطبع، فان بعض المؤدلجين من ديناصورات الماوية الذين لم ينقرضوا حتى الآن لا يزالون يقاومون مثل هذه العودة.
وهم يشكلون الرعيل القديم الذي لا يزال يحن إلى عهد ماو تسي تونغ.
ولكنهم على وشك الأفول.
فهم يشكلون الفئات المعمرة أو المهترئة من أعضاء الحزب الشيوعي الذي يضم ما لا يقل عن 76 مليون عضو!، ولكن الأعضاء الشباب متحمسون لعودة كونفوشيوس.ويبدو أن الرياح تمشي في اتجاههم، وكذلك حركة التاريخ.
الفيلسوف الحامي
والآن لنطرح هذا السؤال: لماذا كل هذا الإقبال على كونفوشيوس بعد طول هجران؟ لماذا أصبحت الصين الشيوعية تفتخر به بعد طول احتقار؟ من المعلوم أنهم سمحوا بإخراج فيلم سينمائي يستعرض سيرة حياته وأعماله.
كما وفتحوا ما لا يقل عن 511 معهد كونفوشيوس في شتى أنحاء العالم، وذلك على غرار معاهد غوته المنتشرة أيضا في كل البلدان.
وهذا يعني أن كونفوشيوس أصبح مفخرة قومية للصين، كما أن غوتة مفخرة قومية للألمان.
وتهدف معاهد كونفوشيوس هذه إلى تعليم اللغة الصينية للأجانب، بالإضافة إلى التعريف بالثقافة والآداب الصينية، كما أنها تشكل جسراً حضارياً بين الصين وبقية دول العالم.
نعود إلى السؤال مرة أخرى: لماذا كل هذا الإقبال على كونفوشيوس؟ والجواب لأن الصينيين يعتقدون أن أفكار كونفوشيوس تجعل التلامذة أخلاقيين محبين للفضيلة والنزاهة والاستقامة. وهي القيم التي ركّز عليها كثيرا في تعاليمه.
وهي موجودة أيضا في تراثنا العربي الإسلامي الكبير.
كما وتجعل أفكاره النظام السياسي نفسه أكثر أخلاقية وأبعد ما يكون عن الفساد.
ولكن هناك سبباً آخر لا يقل أهمية إن لم يزد هو التالي: يعتقد القادة الثقافيون والسياسيون الصينيون أن المثل العليا التي نادى بها كونفوشيوس تحمي الصين من التأثير الضار والمنحرف للحضارة الغربية.
إنها تحمي الأجيال الصينية من إغراءات الحضارة الغربية وانحرافاتها وصرعاتها وشذوذاتها.
ومن يستطيع أن يقف في وجه كل ذلك سداً منيعاً ويحمي الصين إن لم يكن كونفوشيوس التقي الورع الفاضل؟ وهذا الأمر ينطبق أيضا على التراث العربي الاسلامي.
فهو الذي يحمينا من كل هذه الانحرافات والشذوذات.
لنتفق على الأمور هنا: هناك جوانب إيجابية رائعة في الحضارة الحديثة.
وهذه لا يرفضها الصينيون، على العكس تماما.
ما يرفضونه هو الجوانب السلبية الأخرى التي ذكرناها.
كونفوشيوس وديكارت
لكن لنعد إلى الوراء قليلاً.طيلة القرنين التاسع عشر والعشرين كان المثقفون الصينيون مبهورين بالغرب تماما كالمثقفين العرب بدءاً من عهد محمد علي الكبير.
وكان هذا الانبهار شيئا اجباريا في الواقع نظرا لتفوق الغرب على الحضارات الشرقية كلها من جميع النواحي.
ولكن بعد أن سيطر الصينيون على العلم والتكنولوجيا والصناعة وآليات الاقتصاد الحديث فإنهم ما عادوا مبهورين به كما في السابق.
ما عاد الغرب هو الأستاذ وهم التلاميذ.
عصر الإذلال والاحتقار الامبريالي الاستعماري انتهى إلى غير رجعة.
ذلك أن الصين في طورها لأن تصبح القوة العظمى الأولى في العالم وتنتقم من كل هذا الإذلال التاريخي.
ويتوقع أن يتحقق ذلك نحو عام 2050 أو حتى قبل ذلك.
أما الآن فهي القوة العظمى الثانية بعد أميركا.
واسمحوا لنا أن نسجّل هنا الملاحظة التالية: إن عودة الصين إلى تراثها الكونفوشيوسي والطاوي العميق أصبحت تقلق الغرب وتزعجه فعلا.
لماذا؟ لأن ذلك يعني أن الصين شبّت عن الطوق وتحررت من ربقة الغرب وهيمنته، ولم تعد بحاجة إليه كما في السابق.
فعندها كنوز تراثية وثقافية وروحانية تكفيها وتغنيها عن هذا الغرب المتغطرس المتعجرف.
ولكن يبقى هذا السؤال مطروحاً على المثقفين الصينيين مثلما هو مطروح على المثقفين العرب: كيف يمكن التوفيق بين التراث والحداثة في أفضل ما أعطته؟ بمعنى آخر: كيف يمكن التوفيق بين كونفوشيوس وديكارت؟ أو كونفوشيوس وكانط، ناهيك عن هيجل ونيتشه وهيدغر وبيرغسون وبول ريكور وهابرماس وكل الفلسفة الحديثة؟ هذا هو السؤال المطروح عليهم وعلينا.
ولكن هناك ميزة للصينيين: وهي أن العودة إلى تراثهم القديم لا تسبب لهم أي مشكلة، على عكسنا نحن.
كونفوشيوس والنزعة الإنسانية
ينبغي العلم بأن كونفوشيوس هو المعادل لأفلاطون في آسيا. وهو مبجل ليس فقط في الصين وإنما في سنغافورة وكوريا وفيتنام وأجزاء أخرى عديدة من القارة الآسيوية. البعض يختزله إلى مجرد حكيم قديم يقدم المواعظ والنصائح فقط. ولكنه في الواقع بلور فلسفة أخلاقية محكمة وناضجة تماما. وفي هذه الفلسفة التي سبقت المسيح بخمسة قرون ونصف القرن نلاحظ أنه يحترم الآخر المختلف ويدعو إلى معاملته بمودة وعناية. إنه يحترم إنسانية الإنسان أيا كان. ولهذا السبب يمكن القول بأن الكونفوشيوسية هي عبارة عن نزعة إنسانية حقيقية. فهو يقول في كتاب «المحاورات» الشهير ما فحواه:
«تصرف مع الآخرين بلطف وبشكل أخلاقي دون انتظار أي مقابل».
«عامل الآخرين كما تحب أن يعاملوك».
«إذا التقيت بإنسان فاضل فحاول أن تتشبه به. وإذا التقيت بإنسان تافه فحاول أن تبحث عن نواقصه في ذاتك».
«الإنسان الطيب لا يطلب شيئا إلا من نفسه. وأما الإنسان الرديء فيطلب كل شيء من الآخرين».
وأخيرا: «كونوا وسطيين معتدلين في كل الأمور».
وهذا يشبه مقولة التراث عندنا: «خير الأمور أوسطها»
كما ويشبه قول أرسطو: «الشجاعة هي حد وسط بين التهور والجبن».
و«الكرم حد وسط بين الإسراف والبخل».
________
*الاتحاد الثقافي
مرتبط