حوار مع نجيب محفوظ: حينما يُحرم كاتب كبير من الكتابة*

خاص- ثقافات

ترجمة: سعيد بوخليط

تقديم : على جانب من نهر النيل، في القاهرة الحديثة، يعيش رجل كهل يبلغ من العمر89 سنة ،لم يعد اليوم يمتلك قط قدرة  كتابة سوى ”أحلام ”(توفي نجيب محفوظ عام 2OO6).وصف جميل قياسا لمعاناة كبيرة.لأن نجيب محفوظ، أب الرواية العربية والحاصل على جائزة نوبل للأدب سنة 1988 تثمينا ل”ثلاثيته”،حكاية أسطورية سردتها آلاف الصفحات عن عائلة من القاهرة تمتد لثلاثة أجيال،صار حاليا عاجزا تماما عن الكتابة.لقد طعنه أحد المتطرفين بسكين أسفل رقبته شهر أكتوبر سنة 1994،فأصيبت يده اليمنى بالشلل.توقف نجيب محفوظ مدة ثمان عشرة شهرا قبل عودته ثانية كي يخط وإن بكيفية خرقاء،حروفا مقروءة.مع ذلك،قدرة إمساكه بالقلم لن تتجاوز هذه المرة ثلاثين دقيقة متواصلة.نتيجة ذلك،لم يعد في وسع الكاتب المهذار(صاحب 53رواية و5 مسرحيات)تدوين سوى حكايات مقتضبة جدا،وكذا ”دُرَر صغيرة “، حسب وصف صديقه محمد سلماوي، المؤلف المسرحي،الذي حضر بدلا عنه في ستوكهولم لتسلم جائزة نوبل.

صار المظهر الجسماني لنجيب محفوظ ضعيفا، شبه أصم،ونظارتي مكفوف،سوداويتين كبيرتين،مما جعل مظهره أشبه قليلا بالموسيقي ري تشارلز.هكذا، توقف تماما طيفه النحيل عن التجول  بين دروب القاهرة القديمة، حيث ولد وظلت منبع إلهامه.مع ذلك، نجيب محفوظ، الذي ارتاد المقاهي باستمرار،وكان يعقد مرة في الأسبوع صالونا أدبيا عموميا،يرفض التنحي. خلال كل ظهيرة – ماعدا السبت الذي يخصصه للزيارات – يمسك أصدقاؤه بيديه مسرعين به فعليا جهة مقهى فندق كبير.تقلصت، حلقة أصدقائه الحميمين.بدأ الموت يباشر عمله.الطرش، العمى يقيدان حريته.مع ذلك، فهذا الرجل الكهل، المتمتع بلطف كبير، وهشّ  مثل قصب يبذل قصارى جهده كي يظل منتصبا، يبدو أنه لازال مسكونا برغبة مذهلة نحو الحياة. تتجلى شخصيته الساخرة، فهو حكَّاء شهير للنكتة، افتُتِن أهل القاهرة بطبيعة ردوده السريعة الحاذقة،ودوي قهقهته الساحرة.بالنسبة لمواطنيه،ليس فقط نجيب محفوظ مجرد مَعْلَمة أدبية،بل يعتبر هذا الأستاذ رمزا للتسامح أمام التعصب الديني. بسب عدم قدرته على الكتابة، يواصل كاتب القاهرة كل خميس علاقته الطويلة مع قراء الأهرام اليومية المصرية العريقة،بإطلالته من خلال حديثه السياسي – الأدبي الذي يدلي به إلى محمد سلماوي.

مرتديا قميص نوم حريري كحلي اللون،فوق بيجامة مُخطَّطة،فالرجل الذي أخضع كل حياته لنظام دقيق حد الهوس،فتح فجأة الباب وفق الموعد الذي حدده لزيارتنا، قائلا:((أنا في انتظاركم)).

س- كيف جاءتكم رغبة الكتابة؟

ج-صدفة.كنت في سن الثانية عشر حينما لاحظت خلال فترة الاستراحة المدرسية زميلا يقرأ كتابا مغايرا لمقرراتنا المدرسية.استفسرته، فأجابني : ((إنها رواية.سأمدك به)).منذ لحطة قراءتها لم أتوقف عن القراءة إلى أن ضعف بصري.وأنا طفل، كنت أعيد استنساخ مجموعة من الحكايات، ثم أضع اسمي بدل أصحابها الحقيقيين(يضحك).عندما بلغت التاسعة عشر،بدأت أكتب.

س –متى بدأ اهتمامكم بالكتابة حول الفئات الشعبية في القاهرة،وماهي الفكرة التي وجهتكم بهذا الخصوص؟

ج-يعاين الكاتب ما يجري حوله، يرى أشياء كثيرة، ثم يروي وقائع معينة.لا أضع هذا المسار تحت تسمية من التسميات :شيوعية ،اشتراكية…أحب فقط العدالة والحرية. تساءل زملائي،سنوات الستينات :((ماذا يلزم اختياره : تبني الحرية والتضحية بالعدالة،أم على العكس من ذلك،تطبيق عدالة صارمة مقابل استبعاد الحرية؟)).لقد أظهرت وقائع الحياة سداد وجهة نظري.فبعد سنوات من القمع،استعادت عدة شعوب الحرية،والأخيرة ليست أبدا غيابا للعدالة.

س- ينعتونكم ب”زولا اللغة العربية”.ماذا تعتقدون؟

ج-نعم قرأت زولا، بلزاك ،ديكنز… هؤلاء أساتذتي،وأنا مجرد تلميذ لهم،بالتالي لا أعرف تحديدا أي واحد منهم ألهمني.

س- كتبتم روايات واقعية،ثم بعد ذلك شرعتم في الاشتغال على روايات فلسفية.لماذا؟

ج- إنه تطور الحياة.نتطلع لها بداية ثم نشرحها ونتأملها.

س – شغلت السياسة دورا مركزيا بين طيات كتاباتكم.ألم تختبروا التجربة قط؟

ج- لا أنزع أبدا إلى لقاء الحشود وتدبيج الخطابات.أنا لست خطيبا شعبيا.ينصب شغفي الأساسي على الأدب،وأراقب بعيدا مجريات السياسة.

س – كيف عشتم حقبة عبد الناصر؟

ج-أنا مؤمن بالديمقراطية وأرفض كل سلطة تناهض هذا المبدأ.كان نظاما قاسيا نحو كل من هاجمه: الشيوعيون والإخوان المسلمون.لم أنْتمِ إلى أي من هذين الحركتين.أدركَ النظام صدق انتقاداتي ولم تعترض سبيلي أي مشكلة.أعتقد، بأن عبد الناصر ميزته جوانب إيجابية،لكني تحسرت كثيرا لأنه قيَّد الديمقراطية،لذلك لم تصمد إيديولوجيته.

س- ماذا تبقى من الناصرية؟

ج-(يضحك بقوة) : الناصرية، ماذا يعني ذلك؟

س-هل كان بوسع تاريخ مصر أن يسلك طريقا آخر؟

ج- بالتأكيد.لو امتلك الملك فاروق شخصية مختلفة، لاهتدت البلاد بدورها إلى مصير ثان.لو تحلت سياستنا بحداثة أكثر،لم نكن لنحتاج للدعم الأجنبي،وسنتطور بكيفية طبيعية، دونما الإقدام على خطوة انقلاب عسكري.

س-خلال سنوات الثلاثينات والأربعينات،جسَّدت مدينة القاهرة في أعين الغربيين،حقبة أسطورية،متوهجة…  

ج-فعلا.تميزت القاهرة آنذاك بكونها مدينة صغيرة،أنيقة، ورائعة،أرست معالمها عمارات فاتنة.أيضا،كانت الأحياء الشعبية تنظف مرتين في اليوم الواحد.

س –إبان سنوات الثلاثينات،أراد المثقفون المسلمون تحديث المجتمع. هل تشاطرون طموحا كهذا؟

ج-بالتأكيد.كل الرواد الذي تعلمنا منهم،أساتذة تفكيرنا(طه حسين، عباس العقاد، حسين هيكل ، سلامة موسى)،تبنوا دعوة تحديث المجتمع ونهضته،وإمكانية تغيير مصر والسعي نحو تطويرها.هكذا صار الأمر تقريبا منذ محمد علي.جزء مهم من هؤلاء المثقفين اتسموا بالاعتدال فحاولوا استلهام الغرب أو التطلع صوب وجهته، مع احتفاظهم بالمجدي ضمن حضارتنا.بينما اتسم فريق ثاني بالتطرف،وانقسم إلى فئتين : رفض بعضهم كل ما يأتي من الشرق،بما في ذلك مصطفى كمال أتاتورك تركيا،بينما امتنع فريق آخر تماما عن كل ما يصدر عن الغرب.

س- لماذا توقف هذا الطموح الإصلاحي؟

ج- حينما انكمش هذا التوجه المعتدل للحداثيين جراء أسباب سياسية،خاصة فساد النظام،لحظتها شرع الإسلاميون في احتلال المكان.لقد  نسينا تاريخنا وعاداتنا.النتيجة الحتمية،حينما يفشل الماسكون بزمام أمور السلطة،ينقلب النجاح حليفا لخصومهم .

س- حاليا، هل ينبغي السماح للإسلاميين كي يشاركوا في الحياة السياسية؟

ج-هل أدخل وأخرج الناس حسب أهوائي (يضحك).

س- لكن ماذا ينبغي على الدولة القيام به؟

ج-إذا استطاع الإسلاميون ولوج الحياة السياسية،فذلك يعود إلى مفعول قوتهم،أما إن عجزوا وتنحوا جانبا،فلأن قوة الآخرين فاعلة،لاسيما جهاز الدولة.

س- نعود إلى الحديث عنكم.كنتم كاتبا مشهورا،ومع ذلك بقيتم موظفا في الإدارة قصد تأمين دخل لمواجهة تكاليف الحياة.كيف استطعتم التوفيق؟

ج-تمتعتُ بصحة جيدة.أغادر مكتب عملي الإداري وأعود إلى البيت في حدود الساعة الثانية ظهرا.بعد وجبة الغذاء والقيلولة،أنكب على العمل حتى منتصف الليل،وقد قسمت مدة البرنامج بالتوازي بين الكتابة والقراءة.

س-لو وفرت لكم مؤلفاتكم كثيرا من المال،هل كنتم لتكتبوا أشياء مختلفة؟

ج-بالتأكيد.

س- مثلا؟

ج– وحده الله يعلم (قهقهة طويلة).

سأشرفتم خلال حقبة معينة،على الرقابة السينمائية.ألم تكن مهمة مزعجة جدا؟

ج-انصب عمل الرقابة على الأفلام، والمسرحيات…وليس النصوص الروائية.لم أكن مستبدّا،بالعكس أظهرت انفتاحا كبيرا.

س- هل توقعتم حصولكم على جائزة نوبل؟

ج- لا، لا.هناك كتاب آخرون استحقوا بامتياز هذه الجائزة.طه حسين، العقاد، توفيق الحكيم . لقد حظيت بجوائز مصرية، ولم يكن طموحي يتجاوز ذلك السقف.بالتالي،لم يلتفت تفكيري قط جهة نوبل.أتذكر،أني كنت أغط في نوم القيلولة،حينما أيقظوني كي يزفوا إلي الخبر.

س – لم تكترثوا أبدا لمكانتكم المرموقة عالميا،بحيث سافرتم خارج مصر لثلاث مرات لا أكثر،بل ولم تنتقلوا قط إلى صعيد مصر ؟

ج- قضيت ثلاثة أيام في يوغوسلافيا،وأخرى باليمن،ثم انجلترا من أجل إجراء عملية جراحية.

س- وفرنسا؟

ج- لا،أبدا .لقد دعاني فرانسوا ميتران إلى زيارتها،في طريق عودتي من ستوكهولم.لكني،لم أذهب قصد تسلم جائزة نوبل.

س- بهذا الخصوص،ما الدافع وراء عدم ذهابكم إلى ستوكهولم كي تتسلموا الجائزة شخصيا؟

ج-كنت متعبا.لم أعد أسمع جيدا،بحيث إن توجه إلي شخص بالكلام،لا ألتفت إليه.لذلك، قد يعتقدون بأني شخص غير مهذب .

س – ماهي أصعب لحظة خلال مسار حياتكم؟

ج- كثيرة هي اللحظات.

 س-ربما محاولة الاغتيال؟

ج-نعم.لقد حرمت من المشي الذي كنت شغوفا بممارسته.لم يعد بوسعي المشي كثيرا،مما زاد حالتي الصحية سوءا. أصلا كان سمعي وبصري ضعيفين،ثم استفحلت حالتهما.أصبحت عاجزا عن القراءة، ومشاهدة التلفاز،ولا الذهاب إلى المسرح والسينما،ثم توقفت تقريبا عن الكتابة،والحال أنه يستحيل علي تخيل وجودي دونها.الوضع صعب جدا.

*الهامش :

Le point : 22 janvier 2007.  

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *