“الرجيف” للنوايسة: طقسٌ روائيٌّ مغايرٌ يلوذ بالإشارات والرموز

خاص- ثقافات

محمد جميل خضر*

من غير الشائع أن يلج قارئٌ ما إلى روايةٍ ما عبر إشاراتها.

في “الرجيف” روايته الأولى بعد عددٍ لافتٍ من الإصدارات النقدية والإبداعية (شعراً ونثراً)، يجعل الشاعر د. حكمت النوايسة، من الإشارات والرموز، روافع مُهِمَّةٍ في إطار فعل التلقي للرواية الصادرة مطالع 2017 عن دار الإسراء للنشر والتوزيع في عمّان.

منذ لحظة الاستهلال، لا بد أن يغمض القارئ عيونه إن لم يكن في وارده ملاحظة الإشارة الأولى الملصقة تحت عنوان الرواية مباشرة، وهي الإشارة التي أراد لغاية في نفسه ربما، أن يخفيها في الغلاف الأمامي للرواية، ويلصقها فقط في الصفحة الثالثة التي تُعَدُّ (عادةً) بمثابة غلاف داخلي ثانٍ للكتب والإصدارات، فنراه يضع اسم الرواية الرجيف، ثم يضع تحته مباشرة العبارة الآتية: “كأنّها لم تكن”. فمن هي التي كأنّها لم تكن؟ بطبيعة الحال، سيسرع القارئ الذي لاحظ العبارة، وليس لديه خيار (إن كان قارئاً منتبهاً) إلا أن يفعل، إلى اعتبار تلك التي كأنّها لم تكن هي الرجيف لا غيرها. ولكن من هي أو ما هي الرجيف؟ للحصول على إجابة عن هذا السؤال، فإن المتلقي بحاجة لإشارات جديدة، ورموز لاحقة لرمزية العبارة الأولى: “كأنّها لم تكن”.

في “نجواء” الصفحة السابعة من الرواية التي تقع عموماً في 188 صفحة من القطع المتوسط، يختبرنا الراوي بإشارة أخرى، فالإبداع كما يراه، على ما يبدو: مرانٌ عقليٌّ تأمليٌّ يسعى لتأسيس علاقة جدلية بين المرسل والمستقبل، إنها إشارة جاءت على صيغة ملاحظة ألقاها بعيداً هناك في الهامش المتواري خلف المتن، إذ يضع نجمة بعد كلمة “نجواء” (وهي بالمناسبة عنوان الفصل الأول من الرواية)، لينزل من ثمّ بهذه النجمة إلى أسفل الصفحة ويقول لنا/ لهم/ لي/ له المتلقي المفترض: “عزيزي القارئ: تستطيع أن تقفز إلى العنوان اللاحق (الزعيم) دون قراءة هذه النجواء، وما هي إلا أمانة كُلّفنا بوضعها في النص، واجتهدنا أن تكون هنا، ولك أن لا تقرأها”.

نحن بالكاد بدأنا تلمُّس ما يطلقون عليه الاستهلال، لنكون بسبب إشارات الكاتب ورموزه وتمارينه الرياضية النشطة منذ البداية، أمام إشارتين كبيرتين، تستدعيان الحيرة أكثر مما تستدعيان التشويق والفضول، دون إغفال الاحتمال الثاني، نحن، إذاً، وبقدرة قادر أمام مركبات تفاعلية سريعة متتالية قبل الدخول في السرد والتعرف على أبطال الرواية وأماكنها وعوالمها وغاياتها ولغتها: الحيرة، الإثارة، الفضول والإحساس بالحاجة إلى العودة مرّة ثانية إلى البداية: تقليب عكسي للصفحتين الأولتين، إعادة تأمل الغلاف الأمامي، (ربما عند صاحب فضول شرس إلقاء نظرة على الغلاف الخلفي)، الانتباه إلى أنّ “كأنّها لم تكن” ليست جزءاً أصيلاً عضوياً من عنوان الرواية، وما هي سوى لعبة يلعبها معنا صاحب النص، على طريقة عدِّد الفروقات السبعة بين صفحة الغلاف والصفحة التي تليها.

نعود لسؤالٍ جوهريّ ضروريّ من أسئلة التلقي العجول: ما هي الرجيف؟ أو من هي الرجيف؟ “غلالة الضباب” التي تلفّها كما يرد في الصفحة السابعة لا تعطينا جواباً مباشراً يشفي الغليل ويسهّل الأمور: “عليك أن تملك جناحاً خارقاً تهشّ به غلالة الضباب التي تلفّ الرّجيف من بعيد، عليك أن تقشّرها بعينيك كلّما اقتربتَ انزاحت قشرة”. ولا حتى هذا الاقتباس كاملاً يقول لنا من هي/ ما هي.

هل هي حبّة برتقال بأكثر من قشرة تغري بأكثر من تقشير؟ هل هي غيمة مختبئة خلف قشور المدى؟ هل هي تلّة منسية في وهادٍ منسيٍّ ضاعت داخل حوامات الضباب الرتيب؟

يواصل النوايسة التورية، الاحتماء بإشارات تشرَّبها على مهلِ سنينِ القراءة واستجلاء حقائق الكون وأبجديات امتشاق موقف فكريٍّ أخلاقيٍّ جماليٍّ من المدى حوله ومتوالية الناموس وفرص نهوض أمّة ضيَّعها رجالُها.

وفي سياق مواصلته لعبة الرموز والإشارات، يزيد من غموض الرجيف: “عليك أن تراها مبطئاً كسائرٍ على ناقةٍ تعبةٍ لكي تدخلها بعد مغالبة وشوق؛ فأجمل الحقائق ما كان بعد مغالبة وشوق… قل هذا أو قل مثله لتكون الرجيف شائقة ماتعة” (ص 8).

فهل هي عروس سهرتنا مع كتابٍ مختلف؟ هل هي لغز؟ وكما نعرف يعشق أبناء القرى النائية لعبة الألغاز والذكاء الحاد كما بصرهم الحاد ومواقفهم الحادة وإقبالهم الحاد كفراً أو إيماناً، طلباً للرزق، أو تحقيقاً لغاية أو استبصاراً لنائبة من نوائب الدهر تحثُّ الخطى نحوهم.

وإذا بالجواب الذي يزيد من الحيرةِ حيرةً ومن الشوقِ سيفاً: “لا لغز ولا أحجية… فالرجيف في نفسك، ونفس العاشق بخيلة”. (ص 9).

ممعناً في تكريس الإشارات مدخلاً، يقول المحاوَر للمحاوِر: “اكتب لهم الحكاية، فإن نفذوا منها نفذوا، وإن لم ينفذوا فإنّك لستَ ملوماً”. (ص 9).

إشارة أخرى يبدو أن للنوايسة غاية في وضعها بين باقي إشارات روايته المحتفية بلوحةِ غلافٍ للفنان التشكيلي الأردني محمد الدغليس؛ إنها إشارة العلاقة الجدلية بين الكتابة والتدوين: “ليس الكتابة وإنما التدوين.. نحن خُنّا الحقيقة بالتدوين”. (ص 10). علماً أنه وفي إشاراتٍ قفزنا عنها، وردت في الصفحة الخامسة، وتحديداً في منطقة ما قبل الرواية، كان اقتبس لمدوّن اسمه حكمت النوايسة (أي أنه اقتبس من تدويناتٍ سابقةٍ له) ما يلي: “التاريخ لحظات منحرفة عن سير الزمن، والباقي تفاصيل”. ليرفع التحدي بعد ذلك إلى أقصاه قائلاً على لسان المحاوَر: “الحيرة مفتاح”. (ص 10).

ثم إن النوايسة لا يريدها حكاية مثل أي حكاية:

“- كان ياما كان…

– كلا.. فما كان كان، مالك وأهله؟

– يكون قد يكون… حسناً…

– هل الاستباق تدوين؟

– لا، الاستباق مهاد الكتابة، الكتابة اللاحقة، ألم يقل ابن خلدون: الظلم مؤذن بخراب العمران؟

– نعم، وما علاقة ذلك بما نحن فيه؟

– اقرأ كلامه جيّداً.. أدخل عليه (كان) مرّة، ويكون (مرّة)…”. (ص 11).

وما بين الفهم والجهل بما كان وبما سوف يكون، ينجح صاحب ديوان “كأنني السراب”، بجعل مدخل الرواية كما لو أنه الرواية كلّها، بغض النظر إن كان المتلقي قد أمسك بماهية الرجيف، أو تبيّنت له مصائر أهلها (الرجيف بحسب متابعة الرواية مدينة عربية في مكان ما بين العراق وبين الربع الخالي/ طفٌّ صخريٌّ يعدّ نهايةً لهضبةٍ من هضاب جبال الشراة وامتدادها.. شرقه سهول مؤتة). حيث يصبح تتبع أحوال سفيان السفياني (السماوي) وليلى ولبنى وغيهب السماوي (تارك بن متروك العربي) والزعيم القديم، والزعيم الجديد، وما جرى من أحداث، ومن تحرك من مجاميع، كله دون استثناء، كما لو أنه من نافل القول إن تمكّن المتلقي من القبض على مفاتيح الإشارات الأولى، لأنه إن فعل ذلك فإن الباقي تفاصيل، ألم يدوّن هو نفسه الرواي النوايسة: “التاريخ لحظات منحرفة عن سير الزمن، والباقي تفاصيل”؟

في متن الحكاية يحضر العراق تماماً كما يحضر الأردن، ففي حين تحضر العراق من خلال السماوة:

“- هل أنت من السماوة؟

– أي سماوة؟

– سماوة العراق.

– أعرف أن لا سماوة إلا في العراق، ولكنني أقصد تصغيرها بتنكيرها. ألا ترى أنّنا من حجاج الرجيف؟

– أرى، ولكن يا ولدي أعرف آخر يشبهك في السماوة.

– وثمّة من يشبهني في مصر أيضاً… اللهم إنّي حاج”. (ص 80).

فإن الأردن تحضر من خلال تقريب المكان الذي فيه الرجيف: جبال الشراة، بلدة مؤتة وموقع المعركة التاريخية هناك، عموماً هذا الطفُّ المرتفعُ فوق جلمود صخر.

الحكاية، كما يصف الراوي، هي “بنت الشغف والغضب والأمل” (ص 21)، وهي “حيّز الإنسان في الممتد من الزمان” كما في الصفحة نفسها، فهل يواصل النوايسة هنا نثر الإشارات كما لو أنها شواخص في الطريق إلى المعرفة؟ أم لعله، كما يستدرك بعد ذلك: يبدأ بتخفيف حمولة الإشارات والرموز لصالح السرد، مشتقاً من أساطير البيداء الواسعة، وظلال البيوت المزروعة فوق رمل الدروب، مادة حكايته، عن طفل ألقى تحية الصباح فور ولادته، وحلب عنزاً وهو ابن سنتين، وحفظ معلّقة زهير بن أبي سلمى وهو ابن أربع سنوات، ومعظم المعلقات وهو ابن ست، وحفظ القرآن الكريم وهو ابن عشر. عن ليلى أمه التي خبرت القيادة في ربعها. عن لبنى التي كان يمكن أن تكون أمّه. عن أبيه الضائع بين ليلى ولبنى،التائه في الجهات.

عن أحلام الناس بالمُلْكِ والسيادة، عن ولد يصير زعيماً في غير ديرته، فالسماوة هي مسقط رأس سفيان الذي ينصبه أهل الرجيف زعيماً عليهم لنباهته وسمات القيادة فيه، ويصير نسب بلدته الأم له وهو على قيد الحياة وأصغر من يمكن أن ينتسب له الناس (السفيانيّون) وهم في الأصل (السماويّون). لكن “الحقيقة تكتمل دائماً بما لا نريد” (ص 22)، وعليه فإن مفتاح الخفّة يلج دهاليز الحكاية التي تمتنع عن الإفصاح: هل بدأت أم انتهت؟ وحين يسأل المريدون المعلِّم الذي عاد إلى القرية بعد رحلة تعب، وبعد مشوار طويل من الآمال والأحلام: أين الرجيف في الخريطة؟ فإذا به يحرجهم بإشارة جديدة حول الخرائط والدموع وسفيان والنجواء والكتابة والتدوين: “نسي العصا التي كان يتوكأ عليها، ونسي أن يمشي مشية الكهول المتعبين، وغادرنا خفيفاً كمن نفض عن ظهره أحمالاً كثار… واحترنا: أنكتب أم ندوّن، أم نترك الحكاية كما حكاها الراوي… بعد تلك الحيرة هذا ما كان”. (ص 186).

يظهر النوايسة صاحب كتاب “جدل المبنى والمعنى في العمل الروائي”، قدرات لافتة في التنقل بين المبنى والمعنى، بين أن يلوّن اللغة ببعض حنينه للشعر، عندما يقص ويسرد ويروي، وبين أن يفرد الصفحات لعرض هواجسه العروبية الواضحة بسطوعٍ عندما يتوفر المتلقي الأمين الصبور.

وفي حين ينأى بنفسه عن استجداء التفاعل مع العالم الذي شيّده بوعيٍ بصيرٍ مستنيرٍ في رجيفه المشتهاة، فإنه يقترح، بالطريقة التي نسج من خلالها خيوط الرواية، شكلاً آخر للطقس الروائي: كتابةً وقراءةً وغايات.

*كاتب وإعلامي من الأردن

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *