المدينة، الشعر، الحداثة، اللغة العربية، الربيع العربي، الأصولية،التصوف… *
تقديم :
ولد الشاعر محمد بنيس سنة 1948في مدينة فاس.أسس سنة 1974 مجلة الثقافة الجديدة،التي لعبت دورا فعالا على مستوى الحياة الثقافية المغربية،لكنها مٌنِعت سنة 1984 .أستاذ في جامعة محمد الخامس،بالتالي أنشأ بصحبة جامعيين وكتّاب،مؤسسة توبقال للنشر بهدف المساهمة في تحديث الثقافة المغربية.أيضا،يعتبر محمد بنيس عضوا مؤسسا لبيت الشعر في المغرب ورئيسه مابين (1996-2003).وجَّه سنة 1998 نداء إلى فديريكو مايور،المدير العام لمنظمة اليونسكو،قصد تخصيص يوم عالمي للاحتفال بالشعر،أعلن عنه يوم 15نونبر 1999 . عضو شرفي في الجمعية العالمية للهايكو، ومؤلف لأكثر من عشرين عنوانا.ترجمت بعض نصوصه وصدرت ضمن مؤلفات جماعية، ثم على صفحات مجلات وجرائد أوروبية، وكذا في الولايات المتحدة الأمريكية واليابان.منذ سنة 1995،صدرت له كتب ومساهمات له ضمن أعمال جماعية في فرنسا، وإيطاليا، وإسبانيا، ومقدونيا، وتركيا، ثم ألمانيا. التفت بنيس جهة الحوار والانفتاح، فبادر إلى ترجمة نصوص عبد الكبير الخطيبي،برنار نويل، عبد الوهاب المؤدب، ستيفان مالارميه وجورج باطاي. ترجمته لقصيدة مالارميه، المعنونة ب : (un coup de Dés)(رمية نرد) ،كأول ترجمة إلى اللغة العربية،صدرت في طبعة مزدوجة اللغة(باريس 2007)، بالتعاون مع إيزابيلا شيكاغليني وبرنار نويل.حصل على جائزة المغرب للكتاب (1993)،وجائزة الأطلس الكبير للترجمة(2000) ،وجائزة كالوبيتزاتي لأدب البحر الأبيض المتوسط (2006)،وجائزة فيرونيا للأدب العالمي(2007) ،وجائزة العويس للشعر (2007 دبي) ،والجائزة التونسية للثقافة المغاربية (2010) ،والجائزة الايطالية تشيبو العالمية للآداب(2011)،ثم أخيرا جائزة الشاعر ماكس جاكوب(2014) ، تثمينا لديوانه : المكان الوثني.
س-لمقاربة قصيدتك،يلزم الحديث عن فاس.باعتبارها أصل العالم والطفولة.ألا تكون القصيدة أولا بالنسبة إليك مدينة؟
ج-لايمكن للقصيدة أن تصدر سوى عن الكلام،الذي يعبر جسدا.ثم يستدعي المكان،أي مكان،الكلام الذي يحوله الشاعر إلى شدو للقصيدة.يظهر لي حسب هذا المعنى، أني من الذين تركوا القصيدة ترهف السمع إلى أصوات المدينة،وهي فاس،بالنسبة إلي.مدينة الولادة، لكنها بالأحرى مدينة الأشباح،العائدة دائما وباستمرار، رفقة أقوالها.خلال فترة شبابي الأولى،شكَّل الزمان علامة انتماء إلى العالم.أغوتني فكرة الزمان تلك،فتعلمت استشراف عالم أتنفس من خلاله الأزمنة الحديثة،ولن يكون سوى زمن الغرب.أن تكون عصريا، خلال تلك الحقبة التي أعقبت استقلال المغرب،مع الأخذ بعين الاعتبار مرحلتي العُمُرية حينئذ،يعني الارتباط بعالم خارجي نفتقده.بلدي،الذي يعيش آنذاك،عصرا من القرون الوسطى قاتما ومترهلا،تطلع إلى زمن يتسلل من هناك، أوروبا ولاسيما فرنسا.لكن القصيدة تمتلك أسرارا خاصة بها،تلزمني تعلم كيفية الدخول في تماس مع القول الشعري.كان تمرنا طويلا، اعترضت سبيله عراقيل.هذا المسار،المذهل جدا،دون أي طابع ساحر أو أسطوري،تبيَّنت معه مسارا آخر للوجود، المكان.لقد وجهتني القصيدة غاية حيز يحدد حياتنا وموتنا أيضا.يتعلق الأمر،هنا،بالقصيدة العربية السابقة عن الإسلام مع أستاذنا امرؤ القيس (توفي نحو 525).مع تلك القصيدة،سيمثل مقام الغائبين أول كلمة للقصيدة.بحيث بدأ امرؤ القيس قصيدته الكبيرة،ومعلقته الشهيرة،باستحضار المكان :
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل بسقط اللوى بين الدخول فحومل.
نداء إلى التوقف في مكان ملموس، معين،إنه مكان الحبيبة الغائبة.نداء المكان(أو أمره) إلى الكلام.حيث يبدأ هنا كلام الشاعر.المكان الفعلي لغائبة لاتشبه الآخرين.ثم يستتبع نداء التوقف،دعوة أخرى إلى ذرف الدموع التي تعلن عن حالة للعين موشكة على العمى.مع ذلك،لا يستند استحضار المكان (أو الدموع)على الحنين. لكنه إصغاء قبل كل شيء، باعتباره تحولا مجازيا للجسد.لذلك، أقول بأن الزمن يجعلنا نرى، ثم يقودنا المكان ثانية نحو الإصغاء.هاهو إذن طريق رُسم بهدف الإصغاء إلى مدينة فاس.وإذا كانت القصيدة مدينة،فإنها إما إصغاء أو ليست كذلك.والحال أن الإنصات إلى فاس، يعني استمالة أصوات هذه المدينة، وتحمس تلك الأصوات حيث تصادم الأزمنة،الواحدة بالأخرى.يشكل إرخاء السمع إلى فاس،عتبة أولى لقصيدتي،تبقى دائما كذلك.آخر مجموعتي الشعرية المترجمة إلى اللغة الفرنسية : ورقة البهاء. مثلت محاولة أرادت الحفاظ على حياة تلك الأصوات.إنها لا تغادرني سوى لتعود.لذلك أقول بأن فاس بالنسبة إلي،فضاء للنسيان، للمحضور، للغياب، وكذا الانعدام ثم الفراغ.أليس الإصغاء أيضا،مرادفا للارتعاد؟.
س- بدا شيئان من خلال جوابك أود التوسع فيهما.أولا صلتك بالتراث والحداثة. تتكلم فيما يتعلق بالشق الأول عن المعلقات وكذا القصيدة العربية السابقة عن الإسلام،ثم أوروباوفرنسا خاصة بالنسبة للجانب الثاني. هل بوسعك الاستفاضة إلى حد ما في الحديث عن القصيدة الجاهلية بالنسبة لنا غير المطلعين كثيرا على المجال،وبعد ذلك وضح لنا علاقتك بالحداثة الأوروبيةوالفرنسية.
ج- تعتبر القصيدة العربية الجاهلية مصدرنا الشعري الأول،وموروثنا المشترك.تمثل بالنسبة للعرب ذات وضعية القصيدة الإغريقية لدى الأوروبيين،بل إنها أكثر قيمة بالنسبة لثقافتنا لأنها دليل على التميز.لقد جعل العرب من القصيدة نشيدهم ومعرفتهم، في نفس الوقت.لم يكن لنا، خلال تلك الحقبة، فلاسفة على غرار الإغريق أو الآسيويين.بل توفر لنا هذا الشدو الذي يصاحب الرُّحل في انتقالهم نحو تخوم الصحراء.هكذا،تحظى اللغة الشعرية،بمقام الأفضلية.لكن تجليها المشترك لا يخفي مع ذلك الأنا الفردية.حقيقة ”أنا”، تختلف مظاهرها من شاعر إلى آخر.وقوة هذه اللغة الشعرية واستثناؤها يمثلان المبررين الوحيدين اللذين قادا نحو أن يكون القرآن معجزة النبي، كتاب جاء مستندا إلى تلك اللغة،من أجل طرح تحدًّ أمام الشعراء كي يبدعوا سورة مثل السور التي يتضمنها، وبالتالي إثبات استحالة مضاهاته.من بين القراءات الأكثر إثارة لهذه القصيدة في فرنسا، يمكنني الإشارة إلى كتاب آلان باديو: (Petit manuel d’ inesthétique) . وَصَفتُهُ كذلك، ليس فقط لأنه اخترق تقليد النسيان، لكنه لازال يجرؤ على أن يجعل من القصيدة الغنائية للشاعر الجاهلي لبيد بن ربيعة(560-661بعد الميلاد) مجالا للمقارنة مع قصيدة (رمية نرد)لمالارميه.وهاهو مقطع لما كتبه باديو بهذا الخصوص : ((أعتقد، يلزم أن نقترح على الفكر خطوة إلى الوراء.نحو مشترك بين مالارميه وكذا القصيدة الغنائية خلال الفترة السابقة عن العهد الإسلامي،يعني الصحراء، المدى الرحب، المكان المجرد، الخلاء. ينبغي لنا مرة أخرى تجاوبا مع راهننا إعادة تأليف فكر للحقيقة يتمفصل على الخلاء دون المرور من رمز معلِّم ما. سواء المعلِّم المتخلى عنه ولا كذا المنبعث)).تكفي هذه الإحالة وحدها لإظهار بأن القصيدة الجاهلية (والقصيدة العربية عموما) ،ليست فقط مادة متحفية، نحتفظ بها ونستحسنها، بل قصيدة لا تنضب إمكانياتها ثم تسعى إلى التقريب بين ثقافات البحر الأبيض المتوسط. قصيدة سنكتشفها في أسفارها نحو التخوم. أما عن علاقتي بالحداثة الغربية،الأوروبية والفرنسية أو الأمريكية،فسأقف عند بعض نقط الاستدلال.حلمت منذ طفولتي،بالذهاب مثل باقي أطفال الغرب،إلى المدرسة،والمسرح،والسينما،والأوبرا،والمكتبات،والمتاحف،وكذا الملاعب الرياضية.لقد ترجم هذا الحلم،خلال شبابي،بتعطش إلى الثقافة الحديثة.كنت مقتنعا أن استلهام تلك الثقافة سيكون بالنسبة إلي حظا كي أتقاسم مع “العقول الحرة”(نيتشه)حياة مشتركة.إذن، بدون تردد،انقطعت إلى الحداثة،وأدبها،وفكرها وكذا فنها.لكن، الذهاب نحو حداثة من هذا القبيل ليس أمرا معطى.بل معركة ضارية، قبل كل شيء،ضد القيم السائدة داخل مجتمعي،ثم أيضا معركة ضد هذا المجال المراقَب الذي يبقيني الغرب في إطاره.إنها معركة مزدوجة، نحو ذاتي وكذا الآخر المهيمن.مع القصيدة،عثرت على المعنى الكامل لهذه الحرية.لذلك بقيت وفيَّا لها.علمتني هذا الحداثة دلالة الفكر المبدع.كيف ننتقل من الخضوع إلى الحرية. هنا يتجلى مفهوم الإبداعية،التي تبطل الموانع وتطور الحس النقدي . في إطار اختياري للحداثة، لم أعمل سوى على اقتفاء خطى الكتاب العرب الكبار،المنتصرين إلى ثقافة الحداثة والحرية.هؤلاء الكتاب،والشعراء،والروائيين الذين نجحوا في تحديث اللغة العربية،وإعادة قراءة الثقافة العربية القديمة،ثم زرع القيم التي تثير مخاوف المسيطرين على الأوضاع المحلية.يعني اختيار الحداثة، قيم قصيدة ومجتمع،تنمي ضرورة الحاجة إلى التيقظ عوض إخماده.في المقابل،أنك حداثي،لا يعني في كل الأحوال،أن تكون غربيا.الحداثة، بالنسبة إلي،ينبغي أن تكون اكتشافا منذورا كي يبقى إبداعا.من المستحيل إنكار اختلافي واختزاله إلى درجة الصفر.لذلك، يصبح ”تناول الأفضل” – أن تختار- مسؤولية المشاركة في حداثة جماعية،متحركة.بفضل ثقافتي، ولغتي، يمكن أن تصير هذه المساهمة ممكنة ضمن حداثة متحركة.والدلالة الإبداعية لهذا ”العيش المشترك”،حسب قيم مشتركة،تكمن في حرية النقد،الذي بدونها ستبقى الحداثة مرادفة لإضفاء طابع أوروبي-لاتيني على العالم.لقد ساعدتني الحداثة الفرنسية (بهذا الخصوص قصيدتها) كي أدرك المجازفات التي يجابهها شخص مشرقي.فشعراء فرنسا الحداثيين (حيث بودلير بمثابة الأب الرمزي) ،يعتبرون أصحاب لغة مزدوجة.وأدخلوا ب”ازدواجية اللغة تلك”حصة لغة الآخر ضمن ديكارتية لغتهم الخاصة : (( نستخدمها جانبا ثم نهديها أيضا إلى اللغة))،حسب كلمات مالارميه في ”أزمة الأبيات الشعرية”. إنه الدرس الذي استلهمته بالأحرى من هذه الحداثة.ينبغي البدء من تحديث اللغة العربية،دون تنازل،ضمن سياق ثقافتي الخاصة.تجلت ردة فعل اللغة من خلال الواحد، الخالص، المضيء، الجلي،المخبأ،ثم الأول والأخير.هكذا ارتكزت مسؤوليتي نحوها على عمل يتوخى تحديثها عبر ملاقاة الأجنبي،وليس هجره .إن التنازل عن لغتي الخاصة، اللغة العربية ، يعني ترك المجال إلى الأصوليين كي ينتزعونها ويحكمون عليها بالخضوع إلى عنف الظلامية.عمل كل كاتب عربي حداثي،يظل عملا لانهائيا حول اللغة، مادامت الذاتية لانهائية.هكذا،تخلصت من الفرانكفونية، ودافعت عن انفتاح الثقافتين العربية والفرنسية. بالتالي، الترجمات التي أنجزتها من الفرنسية إلى العربية، تجسد أحد أبعاد مشروعي لتحديث العربية.
س –هل يمكنك أن تسرد لنا أسماء بعض الشعراء والكتّاب الذين يشعرونك بأنك أكثر قربا منهم فجددوا اللغة العربية، ثم ردوا الاعتبار لهذا التراث القديم؟
ج-أنا سلفا من سلالة مجددي اللغة العربية :شعراء، مفكرون، روائيون، مترجمون، نقاد أدبيون، صحفيون.كل الأسرة الرمزية لكتّاب الشرق الأوسط،باعتبارهم جماعة الطليعة، ثم الكتّاب الجدد المغاربيين،الذين أتوا خلال مرحلة تالية،فتركوا بصمتهم الخاصة على لغتنا الحديثة.الاستشهاد ببعض الأسماء،سيكون موقفا غير منصف أو نزيه.لقد استحضرت هنا، أكثرها شهرة :طه حسين، جبران خليل جبران، توفيق الحكيم، مصطفى لطفي المنفلوطي،أبو القاسم الشابي، نجيب محفوظ، محمود المسعدي،عبد المجيد بن جلون، بدر شاكر السياب، أدونيس، يوسف إدريس، الطيب صالح، إميل حبيبي، سعدي يوسف، محمود درويش،جمال الغيطاني، صنع الله إبراهيم، محمد شكري،سعد الله ونوس،محمد زفزاف،واسيني الأعرج، سليم بركات، إلياس خوري،ثم قاسم حداد.شعراء وكتّاب جمعتني بهم صلات قرابة.يمثلون بلدانا وأجناسا متنوعة،كما ترجمت بعض أعمالهم إلى لغات عدة.أنا سعيد لكوني عاصرت بعض الكتّاب الكبار.بفضل قراءة نصوص هؤلاء أو إمكانية تقاسم لحظات حياة مع الذين عاصرتهم،أمكنني الإقرار باختيار يتمثل في اتباع سبيل الحرية،وهو مسلك الحداثة بامتياز. للأسف،لم يعترف دائما العالم العربي بمشروع هؤلاء المبدعين،بحيث تجاهلته البرامج التعليمية وكذا السياسات الثقافية.
س –تكلمت عن الأصوليين والظلامية التي تترصد اللغة حينما نتخلى عنها.كل لغة مهددة بخطر من هذا القبيل،لكنه سياق يتجلى ربما أكثر في بلدان اللغة العربية حيث يرسخ الديني حضوره بقوة.أن تكتب،بناء على وجهة النظر هذه،يعتبر إذن فعلا سياسيا تماما؟
ج-هو بالأحرى التزام نحو الحداثة.أرتاب من الأوصاف الاختزالية،حينما يتعلق الأمر بأحقاب تحولات جذرية في تاريخ الثقافات والشعوب.يمكننا القول أيضا بأن الكتابة فعل للمقاومة،تهيئ سياسة للحداثة والتي شيدها هؤلاء الكتّاب بشغف.إنه موقف منفتح لسببين :من جهة،يترك الذوات تعبر بدون شرط،ومن جهة ثانية،يحتفي باللغات والثقافات الأخرى داخل الثقافة العربية.بناء على وجهة النظر هذه،تقع على الكاتب العربي الحداثي مسؤولية جعل اللغة العربية حية بهدف استحقاق إرث ثقافة مستندة على الحرية والمغامرة.أيضا،لن يكون للإرث معنى إذا لم يتوجه صوب المستقبل،نحو الحوار مع اليومي،ولغات وثقافات أخرى.هذا الفعل المجدد الصادر عن كتابنا المحدثين ليس شيئا ثانيا سوى الذي طالب به دانتيDante من خلال هذه المقاطع الشعرية الشهيرة :هكذا تنبعث في الآن ذاته من الخشب المتكسر/كلمات ودم،أنا أترك الخشب/يسقط….إذن، الأصوليون،الذين يمنعون اللغة العربية كي تكون حية،مبتهجة وراقصة،يمثلون في نفس الوقت،أسوأ أعداء الثقافة العربية القديمة. من لا يترك لغة الحياة المعاصرة تتكلم في(وعلى)لغته، يعتبر جاحدا للماضي،ويصادره، متوخيا تركه عند مستنقع الجهل.فالدوغماطيقية والتعصب بمثابة المظهرين الأكثر تجليا للجهل.ينطوي إذن الحديث عن “سياسة للحداثة”على معنى أكثر اتساعا من مجرد الحديث عن السياسة فقط.سياسة الحداثة مقاربة نقدية لكلمات وقيم تتعارض مع اختيار حر لذاتية وكذا مصير.
س- تحدثت بعض نصوصك عن حالة الاحتضار التي تعيشها العربية حاليا في المغرب.عملك المعنون ب :نهر بين جنازتين.يكشف من بعض النواحي عن هذه الوضعية،التي تشغلك كثيرا….
ج-العربية لغة جسدي.لا أقاربها باعتبارها مجرد لغة للتعبير ولا كأداة لأي إيديولوجية.حينما ألج إدارة عمومية،مكتب بريد مثلا،ثم أخاطب الموظف باللغة العربية،ملتمسا منه الحصول على طابع بريدي، ثم يجيبني بالفرنسية، أشعر حينئذ باختلال يلبسني، يجف حلقي وينقبض صدري.الكلمات، كلماتي وقد افتقدت الهواء،استحال عليها الخروج . حبسة في اللسان،تصيبني بالشلل.البريد فضاء عمومي من بين مرافق أخرى : التخلي عن اللغة العربية،وُرث عن الاستعمار،ثم أضحى رسميا بعد الاستقلال،في إطار السياسة المسماة ازدواجية لغوية،التي تدحض كل الخطابات الرسمية،المستمرة في الكذب وهي توهمني بأن العربية لغتي.وضعية تحرم الجسد من هوائه،لا يمكنها أن تجعلني غير مكترث.وضعية تعكس وجها آخر للأصولية التي تذكرنا على الدوام بالجانب الديني للعربية.الإسلاميون،حيث لسان حالهم فرانكفونيين،يمنحون أنفسهم حق التكلم باسم العربية،لكنهم يوظفون بهذا الصدد لغة ميتة،فلم يبدعوا أي كلمة أو تعبير جديدين.ولأني شاعر،فاللغة بالنسبة إلي نَفَس بدونه يتوقف الجسد عن الحياة.ويتجه عملي نحو العمل كي تستمر هذه اللغة.القصيدة منبع لهذه الحياة الطويلة،شعلتها وقوتها.تبيان حالة هذا الاحتضار،في نهر مابين جنازتين، طريقة للتفكير ثانية،شعريا،في الحياة والموت،حيث تلتصق بجسدي، سواء الأولى أو الثانية.أليس تراجيديا بالنسبة لمن يسعى كي ينفتح على لغات أخرى أن يحرم نفسه من لغته الخاصة؟فضلا عن ذلك،إظهار حالة الاحتضار تلك تأسست على نقد مزدوج (نتذكر مفهوم “النقد المزدوج”لعبد الكبير الخطيبي)يستهدف الفرانكفونية والأصولية الإسلامية.ولكي أكون واضحا أكثر،أستعيد هنا صيغة شخصية يتجه الأمر وفقها إلى تحرير الفرنسية من الفرانكفونية.ثم إن الوقوف عند احتضار العربية لايسيء سواء إلى لغات أخرى، ولا أي شخص آخر،بل يعتبر ذلك دليلا على المقاومة.وأعرف أنها لا تتجاوز عتبة القصيدة.
س- مادمت تتكلم عن عملك الجميل :نهر بين جنازتين،حيث العنوان صريح – الحياة وسط الموت- أحببت أن أستعيد بهذه المناسبة مقطعا يعرض حسب القوة المميزة للغة الشعرية،ما أتيت على قوله لنا :“أهبطُ/ في الدم ذاته وفي الجنازة يفدون لكل شاعر متاهة كأن النهر لفظ شعشعاني وهتفتُ اتسعْ.فما على غيري ضاق ولا علي أحسست. حنجرتي خلاء كل حرف من حروفي صلصلة مسقوفة بالدمع وهذا النهر يتسع في المجهول”.لقد أحببت صورة :النهر”لفظ شعشعاني”.كما لو أن جل الماضي والمستقبل بأكمله يمكثان هنا في “اتساع” هذه اللغة،والقصيدة التي تصنع الحاضر،وتضعنا في الماضي،وتنفتح انطلاقا من هنا على المجهول…
ج- كلما قرأت قصيدة أساسية،سواء بالعربية أو لغات أخرى،أشعر بتفرد قوة اللغة الشعرية.قوة لا تعود إلى استخدام مفاهيم، كيفما جاءت .بل تنشأ ضمن حيز سابق عن مختلف اللغات،بما في ذلك اللغة الفلسفية أو العلمية،ومايتلوها.إن قوة كتلك تثير اهتمامي.في الغالب،يحدث معي أن تنتابني شكوك حول القصيدة وكذا وضعها بخصوص إنتاج المعنى.يضاعف عالمنا الحالي شكوك الشاعر،والتي لاأخشى من مواجهتها.شيء آخر مدهش :تقودنا القصيدة بدورها ليس نحو جواب،بل تلك القوة المتكررة ثم يتكرر معها ضياعنا وسط صحراء بلا أمد. أتساءل :هل نحن في حاجة إلى أجوبة، أو بمعنى آخر، طمأنينة في الحياة؟ تطلع من هذا القبيل ينطوي بالأحرى على طابع بيداغوجي: إنه يبرر الديانات،التي يعتبر لديها الوعد بحياة ثانية بعد الموت مسألة جوهرية، أو الإيديولوجيات التي تخلق بروباغندا السعادة كي تجعلك تؤمن بجرعاتها السحرية.يمثل النهر،باعتباره”لفظ شعشعاني “،مجال القصيدة،الذي يحملها ثم تفتحه القصيدة بدورها وتوسعه.يدين كل منهما بوجوده إلى الثاني.أيضا،يحمل كل واحد منهما الثاني نحو حدوده،التي هي المجهول نفسه.لا يمكنني أن أنتظر من القصيدة، بالنسبة إلي كما الآخر،سوى هذا الانفتاح وذاك الاتساع.أن يكون رحبا،هذا ما يمكننا التماسه من نهر ينساب في الحاضر ثم يبقي هذا الحاضر،مراعيا له ديمومته.تظل القصيدة حديثة دائما،نتيجة هذا الإشعاع.تظهر من خلال ذلك سياسة للحداثة.
س- لنتوقف لحظة،عند سياسة هذه الحداثة التي أتينا على ذكرها.ماهو تصورك للممارسات الثقافية والسياسية الجارية في العالم العربي؟
ج- ثورة الشباب،التي عرفناها منذ البداية تحت تسمية الثورة العربية،أو الربيع العربي،شكلت تعبيرا عن رفض صريح للأنظمة الاستبدادية والقمعية.لقد جسدت لدي،صرخة شباب لا يتحمل أبدا دولة الحقد والتهميش المتحكمة في حياته.شباب ينادي بالحق في الحرية.مما يظهر ارتباطه بدولة القانون،وحداثة تؤلف بين الحرية والديمقراطية والعدالة.مصدر خطاب هذا الشباب،طموح منبعث من عمق المجتمعات العربية.يهاجم بقوة الرؤية السلبية للغرب حول مجتمعاتنا.مع بداية تلك الثورات،حدث عقد جديد (أو هو بصدد الحدوث)بين السلطة والشعب عبر مواثيق جديدة.جرت انتخابات حرة،لكن النتيجة فوضت السلطة للإسلاميين،الذين يحظون بالأغلبية في مجموع بلدان شمال إفريقيا(بل وكذلك في باقي بلدان الشرق الأوسط ).توضح هذه النتيجة تبلور ثورة الشباب في الأماكن العمومية من طرف قوة غير منظمة،بينما الانتخابات اختيار يمر عبر قناة التصويت،ويمتثل لمنطق الجماعات الاجتماعية المنظمة.الإسلاميون، الذي كانوا مضطهدين(أو الأقل حظوة)لدى الأنظمة القائمة، صاروا أسياد اللعبة.لقد أضحوا كذلك ليس فقط جراء الاضطهاد لكن أيضا بسبب نفوذهم التنظيمي،ضمن صفوف الفئات المهمشة والطبقات المتوسطة الحضرية.شخصيا،لم أفاجأ.يتحمل الغرب والأنظمة العربية كاليسار المحلي مسؤولية هذا الصعود للمد الإسلامي.هل سخرية التاريخ أن نلاحظ هذه النهاية التراجيدية لثورة الشباب العربي؟أم نفس الصخرة التي اصطدمت بها جل الثورات ؟قبل الاستفاضة في التحليل،سيكون ضروريا الإقرار بأن وضعيتنا في غاية التعقيد.يلزم الابتعاد عن هذه الخطابات التي تذكي الخلط بين المسلمين و الإسلاميين، الإسلام والأصولية.أقصد هنا،تصورات الاستشراق حول الذهنية والشخصية والدين والثقافة الإسلامية.حسب هذا الخطاب،فالمسلمون والعرب غير ديمقراطيين بالفطرة،واستمروا طيلة تاريخهم،قَدَريين ومحافظين.تنطوي هذه الآراء التحقيرية على إدانة لكل ماهو إسلامي(أو عربي)،فتغذي جهل أو ضغينة خيال غربي مريض .وضع دال على أن شعرائنا الكبار،ثم مفكرين وعلماء يظلون مجهولين عند الغرب.إن كنتُ منحدرا من سلالة عائلة رمزية للكتاب العرب الحديثين،مسلمين ومسيحيين،دون أي فارق،فإني كذلك أنتمي إلى هؤلاء المسلمين والعرب الذين رحبوا بالفلسفة الإغريقية ومساهمتهم في تطورها،إبان حقبة كانت خلالها مذمومة بالنسبة للغربيين.لقد أبدعوا علم الجبر،كما أنهم أساتذة في المنطق والفلك،وأطباء، وعلماء،ومتصوفة كبار،ألهموا الحداثة الشعرية،الأدبية والفنية في أوروبا.استبعاد خطاب الاستشراق،وكذا افتراءاته بين ثنايا الخطابات السياسية والإعلامية، سيشكل أول خطوة نحو قراءة أكثر موضوعية لوقائع يعيشها العالم العربي حاليا.يمثل وصول الإسلاميين إلى السلطة،في المقام الأول،تعبيرا عن إخفاق سياسة التعليم التي اتُبعت منذ الاستقلالات، وكذا ارتياب الأنظمة من الثقافة العربية الحديثة،راهنا أو إبان مراحل سابقة.لقد جعلت تلك الأنظمة من التعليم وكذا الثقافة مجرد وسيلة لإعادة إنتاج الجهل والإذعان.أتحدث عن هذه الأنظمة دون نسيان دور الغرب الداعم لها، قصد الدفاع عن مصالحه وتأبيد هيمنته.ثم هاهو مآل واقعنا يشهد على كل ذلك! فاز الإسلاميون بالانتخابات، التي جرت بكيفية حرة وشفافة.نتيجة تجازف بإحباط كل من تخيلوا حياة تعكس مستوى تضحيات العديد من الأجيال.وضع، ينذرنا بأن الديمقراطية لم تُنجز بعد، وتقتضي طاقة فكرية جديدة،كي لاتجرفنا متاهة اللعبة السياسية والإعلامية. تبقى الإشارة أن الإسلاميين المغاربيين،سواء في تونس أو المغرب،استلهموا أساسا النموذج التركي.إنهم ”معتدلون” حسب التسمية المعطاة لهم حاليا في الغرب،والولايات المتحدة الأمريكية وكذا أوروبا.مما يعني أن مصالح الغرب(والقيم الأساسية)لن تمس.من المحتمل كثيرا أن يعيش الاقتصاد دفعة(حتى ولو كان تابعا للاقتصاد الأوروبي الذي يجتاز أزمة ظرفية)،وتغدو العدالة الاجتماعية أكثر من مجرد أمنية.انطلاقة لا تتعارض سواء مع العولمة أو الفرانكفونية.لاشيء يدلنا على نقيض ذلك.لكن ما يبدو لي مؤكدا أن هؤلاء الفاعلين السياسيين الجدد غير متصالحين مع المرأة، ولا يمنحونها حقها في المساواة مع الرجل.إنهم لا يتنازلون قط عن الحقل الثقافي،الذي لايثير بالضرورة حفيظة الغرب.يشكل مصطلح”حداثة”موضوع هجوم.إشارة موحية،لا يمكنني معها عدم سماع صرخة الاختناق التي بدأ يبعثها نساؤنا وكذا ثقافتنا الحديثة.الإسلاميون أعداء للحداثة بكيفية صريحة.مادامت تجسد حسب زعمهم ،تغريبا يهدد لأسباب عدة الاعتقاد الإسلامي.مؤلم هذا الخنق وكاذبة تلك المبررات.صحيح أن الثقافة العربية الحديثة لم يكن مرحبا بها جيدا من طرف الأنظمة السابقة،التي تعاملت بالريبة والحذر،مع الأعمال التي انحازت نحو الرؤية النقدية للقيم. أدب بأكمله استلهم ”جمالية للمعارضة”،حسب مفهوم يوري لوتمان،سيجد نفسه على الهامش.منذئذ، أقصيت الحداثة أكثر فأكثر. كتب، مسرح، موسيقى، وفن تشكيلي.والأكثر قسوة كذلك مصير الثقافة العربية الحديثة.هنا،تمثل اللغة العربية جليا حقلا للخصومات .أتحسس جسدها قد صار باردا،وجهها شاحبا،وتعاني من ضيق في التنفس.وأنا لست من الذين يقتنعون بإمكانية مقاومة جماعية منظمة.ماذا يعني ذلك؟ الصوت الذي أسمعه هو للمثقفين والكتّاب والفنانين،الذين تعلموا الانكباب فرديا،على عملهم بهدوء وتواضع،بعيدا عن كل مؤسسة.إن الدرك الذي ينتظرنا جميعا، بصدد الانفتاح أمامنا.أقصد هذا الإسلام الشعبوي، اللا تاريخي، الزاحف منتصرا، مستقطبا إلى صفه مزيدا من الأتباع.ثم سيجد الكاتب العربي الحديث نفسه وحيدا أكثر من ذي قبل.خوف، يكتسح بالتأكيد دلالة الكلمات ومعنى الحياة.في إطار ذلك،لا يمكننا دائما موافقة إدوارد سعيد، الناقد الكبير للاستشراق،عندما كتب عن الإسلام في الإعلام،بمناسبة مقدمة النسخة الصادرة سنة 1997،قائلا :((لا يعقل أن لا نحدد على نحو دقيق،حينما نتحدث عن الصراع القائم بين الإسلاميين ثم الأغلبية الساحقة من المسلمين،ثم نصرح بأن الأولين سيخسرون بفارق كبير)).
س– لنعد إلى القصيدة.المسألة الثانية التي التمستها عبر جوابك الأول،تشير إلى علاقتك بالإصغاء،التي بدت لي جوهرية.لانتوقف عن الترديد،منذ قرن تقريبا،أن القصيدة صورة،بالتالي إبصار :((ينبغي أن تصير عرافا)).نكرر هذه القولة لرامبو وبعده السورياليون،دون استيعاب ربما حقيقي لها.فيما يخصني،يظهر لي بأن الإبصار في القصيدة،إصغاء.أي أن الإصغاء يرى.ومايراه،يتجلى عبر اللغة.لقد أوضح موسى بن ميمون أن رؤى الأنبياء تتأتى من إرخاء السمع للغة تحديدا،والإصغاء إلى دوال.أقول باستمرار،القصيدة بالنسبة إليفضاء للتأمل،أشرع داخله في تفريغ ذهني (ذاتي من كل أثقالها المزعجة)،كي يتمكن شيء ما، صوت ومعه عالم،التبلور داخل هذا الفضاء الذي بات شاغرا.هذا ما يبدو لي،أنك تود التعبير عنه بطريقتك.
ج-تتوافق ثقافتنا المنتمية إلى البحر الأبيض المتوسط وتتكامل،دون أن تتحقق دائما إمكانية قصد تناول صميمي لأهمية تلك التوافقات أو التكامل على حد سواء.لنترك جانبا، في الوقت الراهن،هذا الجانب المعتم الذي يقتضي مراجعة لمعنى ما تسميه أوروبا،حداثة.أنت وأنا، جرت بيننا لحظات حوارية عبر قصائد، ولقاءات، وقراءات من طرف أقرب أصدقائنا، مثل برنار نويل،أنطونيو غامونيدا،هنري ميشونيك، وتبادلنا كتبا، وإن لم تترجم نصوصي سوى قليلا إلى الفرنسية.الحوار الذي باشرناه، بحرية وانفتاح، في ظل احترام متبادل للتراث الذي يحمله كل واحد منا.تأملك حول الإصغاء والإبصار، قريب جدا من تصوري.لكنه يقتضي من جانبي تدقيقا أكثر.تأثير الإصغاء حول رؤى الأنبياء،التي تكلم عنها بن ميمون،تعتبر صحيحة بالنسبة للإسلام اليهودية والمسيحية. طبعا، موسى بن ميمون(1204-1138)هو أندلسي من قرطبة،خلال الحقبة الإسلامية. كان عارفا جيدا بالإسلام وثقافته.لكن من جانبي، أتكلم عن القصيدة المنتمية إلى الحقبة السابقة عن الإسلام،بالتالي عن شاعر وتقليد شعري سادا تلك الفترة.هذا يعني بأني أدركت ثقافة الإصغاء بفضل تلك القصيدة.فقط الوحي الإسلامي غير المبعوث،من الجن مع شعراء الجاهلية إلى جبريل السماوي.من هنا الحيرة التي اختبرها العرب حين سماعهم القرآن.ودون فهم للفرق بين جبريل والجن،فقد اتهموا النبي محمد بأنه شاعر إلى جانب باقي الشعراء.اتهام جسيم،من وجهة نظر دينية،استبعده القرآن خلال مناسبات عدة :(( وما علمناه الشعر وما ينبغي له ))(الآية)،(( وماهو بقول شاعر)) (الآية) ،((ويقولون أئنا لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون ))(الآية).إن موسى بن ميمون ليس شاعرا،والتراث الشعري اليهودي،لم يسمح له باستحضار شعراء سابقين عن الديانة اليهودية وأساليبهم، نظرا لانتفائهم .مع الثقافة العربية، نصبح ضمن بعد وثني.لقد سادت اللغة العربية قبل القرآن،بحيث تواجدت مع القصيدة الجاهلية.إنها لغة الشعراء قبل أن تكون لغة النبي محمد أو الإسلام.خاصية،تقربنا من الإغريق،الذين غيروا كالعرب،الديانة دون مساس باللغة.إن اللغة مستودع للامرئي :((تغيير اللغة يعني تغيير اللامرئي))،مثلما أشار هيدغر،في كتاب لايحضرني للأسف عنوانه.الإصغاء إلى النداء الخارجي، خلال الفترة الجاهلية،بمثابة دعوة إلى النظر.وإذا انعدم حاجز بين أن تصغي وترى،فالإصغاء يخيف والإبصار يمنح المأساوي(الغياب)إلى نظرنا.مع ذلك ،يجد التصوف العربي مصدره في القصيدة الجاهلية مع احترامه للعقيدة الإسلامية.قصيدة ابن عربي، الأندلسي(1165-1240)،تبرهن على ذلك باستمرار.بل، ليس ابن عربي الوحيد.الكتابة،عند المتصوف العربي،إملاء يتلقاه من آخر إبان لحظة صفاء،من المتعالي.ثم يمتثل لأمر الكتابة.يلاحظ خلال فترة التلقين،بأن ما يكتبه يمنحه ما يرى.إذن الصوت الذي يسمعه جسدي المفرد والمتعدد،هو صوت أن تحس،المتعلق بالملموس،وكذا العالم المادي،الوحيد الموجود بالنسبة إلي.يمتد الصوت في القصيدة. يبعث على الخوف، إنه سديمي.تخلق الأقوال، داخلها صورا(مجازات)للمحسوس.أصغي بأذني الثالثة وأرى بعيني الثالثة.يجد اللامسموع واللامرئي،نفسهما جنبا إلى جنب،ضمن ما تعجز القصيدة عن وصفه.
س- هذا المسار قريب من التجربةالتي تستدعيها كلمة”المتعالي” التي وظفتها. لكنه تصوف لاعلاقة له بالديني،تصوف بدون إله.ما تفضلت به جيد جدا حينما تقول بأن إصغاءك يتعلق”بالعالم الحسي،الوحيد الموجود بالنسبة إليك”.ستكون،في المجمل،قرابة بين التجربة الشعرية والصوفية.وسيتجلى الفارق بينهما،أقل من ناحية طبيعته قياسا إلى درجته.ماذا تظن؟
ج- يعتبر اقتحام حدود الإصغاء نحو الرؤية إشارة على الولوج إلى المتسامي. نصل هنا،إلى هشاشة اللغة، وكذا مجازفة أن تفترض تخليها عنا وتتركنا وحدنا، تائهين.لنكن منتبهين إلى الحدود التي لا ينبغي الاستغناء عنها.يتلاقى المتصوف والشاعر، وتتماثل تجاربهما ولغاتهما.قرابة جلية.لكن كل واحد منهما يتبع سبله الخاصة.إن ما يميز الإصغاء والنظر،أحدهما كالثاني،يكمن في المعنى تحديدا.يبقى متعالي المتصوف للإثبات،بينما الذي أعيشه فمأخوذ بالمحو.تباين نوعي،أواصل باستمرار،ضبطه.هبة الفراغ،عنوان إحدى مجموعاتي الشعرية المترجمة إلى الفرنسية،مثلت تجربة للمحو،تبث القلق بين طيات الواحد والمفرد.تحث على معاودة الرحيل ضمن لانهائية الرحلات.ثم تصبح قرابتي بالمتصوف أكثر إبداعية،داخل مغرب سكنته على امتداد قرون،أقوال المتصوفة وموسيقاهم.
س – تميز تجربتا الإثبات والمحو، كما تقول،دلالة السعي الصوفي ثم الشعري.لكن أليس أولى إشارات الصوفي أن ينمحي- الخروج من الذات،والعالم وكذا اللغة الدوغمائية – وتحديدا انتشال ذاته من المعلوم،ثم ما يحتمل أن يكون”إثباتا”،منتقلا في المقابل نحو أرض المجهول،غير المسمى حيث بريق نور الحب؟انطلاقا من وجهة النظر هذه،لا يعتبر سلوكه مخالفا جدا لما يصدر عن الشاعر؟.
ج-توجد فعلا محاور التقاء عدة بين الشاعر والمتصوف،مثلما أشرت إلى ذلك.يدرك كل منهما اغواءات وكذا مجازفات أن يوحي له الآخر أو يلزمه بشيء ما.إذن امتثاله لخطى دربه الذاتي،بعد أن التقى أو (يلتقي)المتصوف،يعتبر الفعل الجوهري للشاعر.مما يدعوه إلى تيقظ دائم، وتفحص لحدود(التي لا ينبغي إلغاؤها)،انغلاقها وانفتاحها.وإلا سيفقد القول الشعري مجاله الخاص.يلزمنا ملاحظة هذا الفارق، وإن كان طفيفا جدا، بين محا وانمحى.أما حين الحديث عن الإسلام،فأقول بأن نقطة انطلاق المتصوف،تأكيده على وجود إله،حاضر كليا والإيمان بسره الخفي.إقرار يقود المتصوف كي ينمحي إراديا خلف الإذعان للإلهي ،وكذا قوله وأوامره.أود الاكتفاء بمتصوفين مسلمين استثنائين :منصور الحلاج (ولد سنة 857،وقتل سنة 922) ،ثم ابن عربي.بالنسبة للأول أورد القصيدة التالية :
عجبتٌ منكَ ومني يا منية المتمني
أدنيتني منكَ حتى ظننت أنك أني
وغبتُ في الوجد حتى أفنيتني بك عني
يانعمتي في حياتي وراحتي بعد دفني
مالي بغيركَ أنس إذ كنتَ خوفي وأمني
يامن رياض معانيه قد حوت كل فن
وإن تمنيتُ شيئا فأنت كل التمني.
التقارب،في الوجد،بين ”أنا” و”أنت” علامة عن انمحاء ”الأنا”التي لاتكتشف ذاتها إلا من خلال ”أنت”.ونتيجة فعل المحو،فقد أصبح مسموحا للمتصوف الدخول إلى الرياض.إذا وظف الحلاج كلمة ”روض”(بالجمع).فإنها رياض النوايا الإلهية حيث احتضن الحلاج ”كل فن”.التحول إلى هناك،بمثابة انتقال من المعلوم نحو الخفي.بينما تعني معانقة ”كل فن”،أن الحجاب والمعرفة، بالنسبة إلى الحلاج،متصلين ثانية فقط بالتسمية الربانية.مما يدفعنا إلى القول أن المعرفة لدى المتصوفة مصدرها الله وتتجه نحوه. يقول الحلاج :((لايحمل الله حجابا، المخلوقات حجبته)).
س- “كل شيء مصدره الله،ويعود إليه”،نعم.لكن لدينا هنا إثباتا للإلهي كانفتاح ويفترض رفضا للديني باعتباره انغلاقا.قرأت في ”قصائده الصوفية” : (( أنكرت ديانة الله،الإنكار/واجب بالنسبة إلي،وخطيئة عند المسلمين)).لقد أُحرقوا عندنا،لداع أقل من هذا!.
ج – ترجمة هذا المقطع الشعري من طرف سامي علي،أكثر دقة(وشعرية)مقارنة مع ترجمة ماسينون :”أنكرت الإيمان بالله، وهذا الإنكار واجب بالنسبة إلي/بينما، هو أمر يمقته كل مسلم”.لقد أوردت هذه الترجمة كي تساعدنا على الاقتراب من مفهوم الدين عند الحلاج،الذي نقف عليه،ضمن أشياء أخرى،مع المقاطع الشعرية التالية :
لقد تأملت المعتقدات وأنا أجهد نفسي كي أفهمها :
فوجدتها مثل أساس وحيد له تفرعات عدة.
لاتطلب قط من أي شخص تبني هذا الاعتقاد أو ذاك،
سيعرقل ذلك كل معرفة متينة
التمسْ منه بالأحرى أساسا يعبر لي عن كل المعاني السامية : هكذا سيفهم.
كلمة ”معتقدات ”مع ترجمة ماسينون(المسطَّحة جدا)،تحيل على”ديانات”حسب الترجمة الأصيلة إلى العربية.لقد بلور،الحلاج الصوفي العالِم،نظرية للدين،تتوخى التحرر من الانغلاق التيولوجي،في الديانات الثلاث الواحدية،الإسلام كاليهودية والمسيحية.بناء على هذا المنظور،ينكر الحلاج الدين كي يستوعب الإلهي،بأن فتح إثباته على الجوهري.الإقرار بالله، لكنه إله يأخذ هنا دلالة متعددة. إنه: ((الأساس الذي يوضح له مختلف الدلالات السامية)).نعم، التحرر من الدين.لكن من أجل إدراك الإلهي عبر كل الخلق.ليس التحرر من الدين إنكارا للإله.إذن، لا يناقض الانفتاح أبدا تأكيد انغلاق آخر.يقول الحلاج :((لا أرى شيئا، إلا أرى الله فيه)).
س- وابن عربي؟
ج-من جهته،يستند ابن عربي،على نفس مبدأ الإثبات، مؤكدا على أن مرجعيته تنطلق من القرآن.يقول بهذا الخصوص :((كل ما نتحدث عنه،خلال جلساتنا وعبر كتاباتنا،ينبثق من القرآن ونفائسه)).التأكيد على سمو الكلام الإلهي وكذا الاختيار الإرادي من أجل الامتثال له والانمحاء خلفه : ((ما يؤكده مشروعا، نعلنه كذلك، ثم ما أقر به اختيارا حرا، نثمنه أيضا ،وما استنكره ننكره، وما أمر به نوصي به ،ثم ما أظهره ملزما، نعتبره كذلك)).يعتبر شرط الإثبات والانمحاء، أوليين لعقيدة تلزم المتصوف بالامتثال لها كي ينتقل من المعلوم إلى المجهول.شخص لا يرى ما يُسمح له برؤيته ثم لا يسمع ما يوصى له بسماعه.يقول”Chodkiewicz “: ((لكي تنصاع العين للقانون،يلزمها تحويل مجرى نظرها عن أشياء محظورة أو تستحق اللوم،أو بشكل عام أكثر،ما يسليها)). ثم(( ينبغي على السمع رفض سماع النميمة، والأكاذيب، ثم أحاديث الزندقة أو تلك المحظورة)).الأمر الذي يفسر،لماذا :((لا يفتح القرآن ”ذخائره”سوى للذين يطبقون القاعدة التي أقامها :لاتتجلى إضاءات دون إذعان)).على العكس من ذلك،يرى الشاعر ما تقدمه له عيناه كي يراه ثم يرخي السمع لما تعرضه له أذناه،دون أن يكون في حاجة إلى تأييد ما يوجد خارج إطاره ذاك،أو سعيه نحو تطبيق قاعدة غير التي للقصيدة،على حد تعبير مالارميه في قصيدته”رمية نرد” :((لن يكون هناك مكان غير المكان))،أو باطاي حسب تأويل آخر للنفي أقل انقلابية :((لا يمكن للتجربة الداخلية الرهان على مبدأ، سواء مع عقيدة (وضع أخلاقي) ،أو في العلم(لا يمكن للمعرفة أن تمثل نهاية أو بداية) ،ولا من خلال بحث عن حالات تثري (الموقف الجمالي،التجريبي) ،فلا هاجس آخر لتلك التجربة أو غاية ثانية سوى ذاتها)).يتشكل خطاب الشاعر من خلال النفي. بحيث يطمس كل ما بوسعه أن يضلله عن مساره الخاص، ويحول دون ذهابه صوب اللا- معلوم أو التوجه(لاننسى أنه أفق يتمرد عن كل خطاب اختزالي !)نحو نور آخر، ليست فقط طبيعته مختلفة،مادام أنه أقصى حد للغة ويجسد لديها ما تعتبره مستحيلا. مع مقاربة كهاته، فالحدود بين الشاعر والمتصوف،مفتوحة ومنغلقة في الآن ذاته، وضع يقتضي تحديدا تيقظا،مادامت الكلمة فضاء مشتركا للكتابة لديهما.لقد توطد تاريخ بأكمله لذلك التيقظ بخصوص وجهة النظر هذه طيلة الحقب الكبيرة للثقافة العربية – الإسلامية.اعتُرف بتلك الحدود واحتُرمت .لم يزعم متصوف أنه شاعر،مثلما لم يتطلع شاعر جهة التخلي عن أرضه التي يملكها.تتواجد قصيدتي بين ثنايا هذا التيقظ.
س- المكان الذي تكلمتَ عنه،بخصوص القصيدة الجاهلية،ووصفته بفضاء الغائبين.يجسد في حقيقة أمره لا- مكانا.يتعلق الشأن بخلاء أراه بالأحرى من جانبي شرطا ضروريا لظهور هذا الكلام خلال لحظة نشأته أي القصيدة،أكثر من كونه فَقْدا.إن تحليلا نفسيا متداولا،لاسيما مع منظور جاك لاكان،سيركز في رأيي بشدة،على مفهوم الافتقاد بهدف تحديد التجربتين الشعرية والصوفية.ينطلق المتصوف بالتأكيد من غياب.لنأخذ النشيد الروحي ليوحنا الصليب .إن بدأ حقا بغياب(“لكن أين اختفيت/ وقد تركتني للألم صديقي”)فسيتحول بسرعة كبيرة إلى نشيد للحضور.العالم المستبعد،الملغى،يعود في امتلائه الملموس جدا :“صديقي الجبال والأودية مظللة في عزلتها /الجزر العجيبة/هدير الأنهار /هسيس الهواء المفعم جدا بالحب)).امتلاء عالم تغيرت هيأته بحضور الصديق الذي أسميه هنا”شوق”.حينئذ تصبح القصيدة غناء لانهائيا للشوق.هنا تكمن القصيدة،في تصوري:ضمن هذا التحول للفقد،والذي يشاركنا بالتأكيد،جوهريا في حياة ممتلئة جدا.هل تشاطرني الرأي؟
ج- نلمس مع هذا التحليل عالمين شعرين،مختلفين تماما : أحدهما ينهض على القصيدة الجاهلية،وهي قصيدة الإحساس والمرئي،أما الثاني فيعود إلى تجربة صوفية،مستلهمة من القصيدة الصوفية العربية-الإسلامية،لاسيما الأندلسية.ابن عربي،صوفي الحب،الذي استثمر القصيدة الجاهلية بخصوص رؤيته الصوفية، فانتقل بغير المسمى إلى ما يسمى ثم اللامرئي إلى المرئي.مجموعته الشعرية”ترجمان الأشواق” تشهد على ذلك.هناك من جهة،قرابة بين هذا العمل وكذا”الحياة الجديدة”لدانتي.ثم من جهة ثانية،صلته مع قصيدة يوحنا الصليب.لن أذهب حاليا بعيدا،من أجل شرح ملامح ذلك.أقتصر للتمييز بين الحقلين والممارستين،على ما يظهر لي أساسيا في القصيدة.لا أختلف مع ما تقدمتَ به حول الفَقْد وكذا لانهائية الرغبة داخل القصيدة.في المقابل،مصطلح ”الخلاء”،الذي وظفتَهُ،حسب معنى آخر في الثقافة الغربية،العائدة إلى الثقافة الإغريقية،غير المعنى الذي أعطيه له،انطلاقا من نقده ضمن مجال الثقافة العربية –الإسلامية. اشتغالي على اللغة،قَلْب قوانينها،ثم بثّ البلبلة في قيمها، لا أفعل بهذا الصدد سوى السعي وراء فكر حديث للقصيدة، دون نسيان ارتكاز عملي كي تستعيد الكلمات حالة صفائها.إنها منهجية شعرية تتوخى فتح ممرات يمنعها اللاهوتي،الكابح لكل ذاتية،ثم يحتجزها ويتركها خارج اللغة.ليس ممكنا تضمين الذاتية في اللغة إلا إذا استدعينا اللانهائي كمستقبل وصيرورة.أقصد بهذا أن الخلاء ليس ضدا للامتلاء،ولا نهايته. بل يعتبر شيئا ثانيا، مكتفيا بذاته، رافضا أن تحتجزه قوانين المنطق،التي يستحيل عليها تصور الخلاء سوى انطلاقا من الممتلئ. يرسم الشاعر طريقه الخاص دون أن يلتفت خلفه. يشتغل هذا الخلاء وحيدا، بغير علة ولا نتيجة.يعبِّد لنفسه طريقا له ثم يتيه وسطها.هكذا،لا يقودنا الخلاء نحو منابع الارتياح أو الطمأنينة.بل هو عنوان صحراء ستظل كذلك.بناء على لانهائية الرحلات صوب الصحاري اللامتناهية. لا يمكن لتجربة الفقد هاته،والتيه، والهذيان،مماثلة تجربة الصوفي المبشرة بالسكينة،والتي ضمن أشياء أخرى،يحافظ عليها كلام قائم سلفا، يكون معناه تحت تصرف أولئك الخاضعين للتشريع الإلهي.
انظرْ ترجمةَ الشاعر المغربي محمد بنيس الكاملة للحوار الذي آجراه معه الشاعر الفرنسي جاك أنصي، ونُشر بالمجلة الأدبية الفرنسية europe، في عددها المزدوج 1015-1016، نوفمبر 2013. الترجمة منشورة في مجلة نزوى، العدد 79، يوليو2014، ص. 123-139، تحت عنوان ‘في الثنيّات اللاّنهائية للكلام’.
انظرْ ترجمةَ الشاعر المغربي محمد بنيس الكاملة للحوار الذي أجراه معه الشاعر الفرنسي جاك أنصي، ونُشر بالمجلة الأدبية الفرنسية europe، في عددها المزدوج 1015-1016، نوفمبر 2013. الترجمة منشورة في مجلة نزوى، العدد 79، يوليو2014، ص. 123-139، تحت عنوان ‘في الثنيّات اللاّنهائية للكلام’.
انظرْ ترجمةَ الشاعر المغربي محمد بنيس الكاملة للحوار الذي آجراه معه الشاعر الفرنسي جاك أنصي، ونُشر بالمجلة الأدبية الفرنسية europe، في عددها المزدوج 1015-1016، نوفمبر 2013. الترجمة منشورة في مجلة نزوى، العدد 79، يوليو2014، ص. 123-139، تحت عنوان ‘في الثنيّات اللاّنهائية للكلام’.
انظرْ ترجمةَ الشاعر المغربي محمد بنيس الكاملة للحوار الذي أجراه معه الشاعر الفرنسي جاك أنصي، ونُشر بالمجلة الأدبية الفرنسية europe، في عددها المزدوج 1015-1016، نوفمبر 2013. الترجمة منشورة في مجلة نزوى، العدد 79، يوليو2014، ص. 123-139، تحت عنوان ‘في الثنيّات اللاّنهائية للكلام’.