المستقبل كتاريخ معكوس!

*إبراهيم نصر الله

كثيرة هي الأسئلة التي لم يزل المرء يبحث، باجتهاد حتى، عن نصف إجابات لها، ولا أقول إجابة كاملة، فكل إجابة تُضْمر في داخلها نقصًا ما، كلما وجدت هذه الإجابة سؤالاً مفتوحًا يتربص بها.
هناك أسئلة مفتوحة، لا تتوقف عن طرح نفسها علينا، مهما جمّعنا أنفسنا في إجابة نتطلع أن تشفي غليلها، ولعل تاريخ العالم حافل بهذا، وفي مختلف العلوم، حيث نفاجأ دائمًا بحلول لمشكلات وقضايا كبيرة مختلفة عن تلك التي ظننّا لعقود أنها الصحيحة.
الأسئلة بهذا، كالنهايات المفتوحة في الروايات والقصص والأعمال السينمائية، أيضًا، تظلّ تُقلِّبنا ونُقلّبها لزمن طويل، وكلما اعتقدنا أننا بلغنا شاطئها اكتشفنا أننا أسرى تلاطم أمواجها.
لأعترف هنا أنني أخشى الوصول إلى إجابات أقولها تكون مرضية لغيري! لأن ذلك يعني أنني انتهيت من طرح ذلك السؤال الذي طرح عليّ، وأنه لم يعد يؤرقني، أنه انتهى، مات، كما لو أن الإجابة التي توصلتُ إليها خالدة!
هل يمكننا اعتبار الإجابات المفتوحة، التي لا تكتفي ببلاغة منطقها في لحظة ما، نوعًا آخر من الأسئلة؟
على المستوى الإنساني، في ظني أن كثيرًا من الأسئلة تظلّ تُطرح علينا؛ ففي كل مرحلة من مراحل حياتنا نعثر لها في داخلنا على إجابات أخرى. سؤال الزمن مثلاً، إذا أطل في مرحلة العشرينيات من عمرنا، أو أوائل الثلاثينيات، يبدو سؤالاً مبالغًا فيه، فيه كثير من البذخ، عكس ما يحدث حين يطلّ علينا السؤال نفسه في مراحل متقدمة من العمر، أو في لحظات المرض والخطر، لنجد في محاولتنا الإجابة عنه، حقيقة تقول لنا كم تغيّرنا.
تخشى الإجابات الواثقة، والعليمة، والمتعالمة أكثر، ولكنك لا تستطيع الجهر بذلك كلما سمعت أحدًا يجيب، أو سمعت نفسك تجيب!
عدم القناعة بإجابتك أو إجابات غيرك يعني البحث الدائم، وفي ذلك حيوية روحية وفكرية، وتواضع إنساني، وسعي لرفض القبول بإدخال كل سؤال تتمّ الإجابة عليه إلى مجمدة الثلاجة، بل تركه طليقًا.
كل هذه الخواطر أثارتها فكرة (الرواية والتاريخ)، وهي فكرة قلّبها النقاد ومنظّرو الأدب، والكتّاب طويلاً؛ اختلفوا، واتفقوا، وتقاطعوا، وفي كل نتيجة وصل إليها أحدهم عِبرة تؤكد أن السؤال ما زال يُطرح، وأنه نهِمٌ، لا يستطيع أن يكون أسير سُبات شتوي طويل أو قصير.
متى يمكننا مثلاً أن نُطلق على لحظة ما اسم «لحظة تاريخية»، أو نعتبرها جزءًا من التاريخ؟ هل تلك التي مرّ عليها عشرة قرون؟ (100) عام؟ (20) عامًا؟ أسبوعًا؟ أم (24) ساعة؟ أم ساعة؟
هل رواية المستقبل هي نموذج أو فرع من الكتابة التاريخية، باعتبارها تاريخًا معكوسًا؟!
وهل تلك الرواية الخيالية المتقاطعة مع واقعها، المكتوبة عن الحاضر، ستغدو تاريخية بعد حين، لأنها ستتحول إلى وثيقة عن زمن ما، ليس شرطا أن يكون زمن حرب أو سِلم أو سواهما، أو بناء أو هدم، بل وثيقة عن كيف كان يفكر الناس، وكيف كانوا يحسّون؟ مع أن كل عمل جيد، في ظنّي، يحتضن الأزمنة الثلاثة: الماضي، الحاضر، المستقبل.
هل تكون الرواية تاريخية لمجرد أننا نكتبها اليوم عن الأمس؟
ماذا عن قراءة ما نكتبه اليوم، عن اليوم، هل ستحيلها القراءة غدًا إلى رواية تاريخية؟
هل تاريخ القراءة أو زمن قراءة النص هو في النهاية ما يحدد إن كانت الرواية تاريخية أم لا؟ بمعنى أن مسرحية إغريقية، حينما كُتبت لم تكن تاريخية، لكنها اليوم غير ذلك بالنسبة لنا.
هل الرواية التاريخية استعادة للتاريخ أم إعادة كتابته برؤية اليوم، وإذا كان الأمر كذلك هل يبقى تاريخًا، أم يتحوّل إلى حاضر باعتبار الرؤية معاصرة؟
حين نستند إلى مرجع تاريخي ونستعين به بما يتوافق مع رؤانا، ونُبعد ما لم يتّفق مع رؤانا، هل نكون بذلك نكتب رواية تاريخية أم أن انحيازنا المسبق، لأفكارنا ومصالحنا وأهوائنا، يُضمر، تلقائيًا، تشكيكًا في نزاهتنا؟!
هل توقُّع التاريخ القادم أكثر مصداقية من استعادة ما مضى منه؟!
إذا كان كل مؤرخ قد كتب التاريخ مدفوعًا بحبه لشخصية ما، حقبة ما، أو كراهية لها، أو تشكيك فيها، بمعنى إذا كان كاتب التاريخ محكومًا بالأهواء والمصالح، فهل نحن بالضرورة، كأدباء، نستند إلى تأريخ زائف بالضرورة؟ وإذا كنا كذلك، فكيف يمكن أن نقول إننا نقدم كتابًا ينتمي للحقيقة؟ وهل يمكن أن تكون الكتابة عن تاريخ المستقبل هي الأكثر نزاهة، لأننا نطرح رؤية خيالية، سينفيها المستقبل (كتاريخ قادم) أو يؤكدها؟
هل يحدّد تاريخ النشر تاريخية الرواية، بمعنى أنها تنتمي للتاريخ ما دامت نُشرت في القرن الثامن عشر، مثلاً، ماذا عن رواية لم تزل تُقرأ بعد مائة عام من كتابتها بلهفة قرائية، هل هي رواية حديثة ما دامت قادرة على محاورة أزمنتنا الحديثة؟ والرواية التاريخية ليست هي الأحداث الكبرى، وحسب.
هناك أسئلة كثيرة تطرح علينا، وأحيانًا أخشى الوصول إلى إجابات لها! كما أشرت في البداية، لأن وصولي إلى جواب يعني أنني سأتوقف عن طرح السؤال، وأقبل بإجابتي كحقيقة، وهذا أمر مفزع لي! لأن كل إجابة قانعة بذاتها، ماحية لمساحة ما من عقل صاحبها، وهذا ما يفعله السؤال القانع؛ ومن المفارقات أن من معاني قَنَعَ، يَقْنَعُ، قُنُوعاً، في لسان العرب: ذُلَّ! وقَنَعْتُ إِلى فلان: خَضَعْتُ!
وبعد:
قبل ثلاثين عامًا كتبتُ:
لاهثًا أركض
قاطعًا العمر بين سؤال وآخر
باحثًا عن إجابة أستريح على عتباتها قليلاً
لأواصل أسئلتي!
_______
*القدس العربي

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *