لم يعد سرا

خاص- ثقافات

* خلود البدري

لم تكُن ممن يتقاعس عن أيّ عمل يُرى فيه جانب روحاني ، ولم تنقطع منذ فترة طويلة من أن يكون لها يد الخير على البعض ، طبعا بما تستطيع أن تُقدم منها ، دائما ، ما تهبه يُردّ إليّها أضعافا، لكن ، بشكل آخر، ليست صدفة بالطبع ، ولم يكُن سرا عن عائلتها الصغيرة ، فالكل يعلم ما تقوم به ، هي محاولة منها لزرع خصلة ترغب أن يتمسكوا بها مستقبلا ، لكن في بعض الأحيان تتثاقل عن أعمال تقوم بها ، ليس السبب ” التثاقل ” بالمعنى المفهوم للكلمة، لكن ربّما، يكون ” ضيق اليد ” كما تقول أمهاتنا ، يجعلها تركن إلى عدم الإيفاء بما وعدت نفسها للقيام به ، والتي عاهدتها بأن تدفع كفالة يتيم ، وما أكثرهم في بلادنا ، بعد هذه الحروب التي لم تخلص ولن ، الأمر بينها وبين ربّها ، لذا دأبت على تحديد مبلغ معين تُساهِم به ، في أحدى الجمعيات الخيرية المسؤولة عن العناية بهؤلاء الصغار ، لكن متطلبات بيتها، وبعض ديون كانت تعاني منها ، جعلت من موردها الشهري شبه مشلول عن الإيفاء ببعض الالتزامات ، مما جعلها تتهاون عن سداد ما كانت تقدمه كل شهر ، مرّ يوم وهي تعاني حالة من الضّجر والضّيق لا تعرف سببا لها ، حتى أنها أخذت تُخبِر الجميع بأنّها تكاد أن تختنق ، تتساءل : ما السر الذي جعلني أمر بهذه الحالة من السوداوية التي طالما حاولت الابتعاد عنها !؟ تصرّح لهم بما يجول برأسها من أفكار ، تقول: دائما تعتريني كآبة تمرّ على روحي كتحليق غراب بنعيق متواصل لفترة في سفوح الروح ، لكني أتداركه وأُسكِت هذا الصوت المزعج ، ألقمه حجرا فيهوي على جبال الخيّال الذي كنت أعيش فيها ، تذكرت أن نهار اليوم الأول من حصولها على أجرها الشهري مرّ بسلام ، لكنها فجرا بين يقظة ونوم وجدت نفسها تردد الآيات القرآنية ” بسم الله الرحمن الرحيم : فأما اليتيم فلا تقهر ، وأما السائل فلا تنهر ، وأما بنعمة ربك فحدث ، ..” . أخذت تُكرر هذه الآيات ، استغربت ، وبدأت تحدث نفسها: لِمَ هذه الآيات ، ولماذا تأتيني في نومي ، وها أنا أنطق بها في صحوتي !؟ وكأن روحها بدأت تتحشرج مبتعدة عن جسدها، همهمت: ربّما تكون للإنذار والتذكيّر !، استغفرت ربّها ، ومرت بخيالها تلك الطفلة الصغيرة التي كفلتها ، بوجهها الدائري بتقاطيعه الصغيرة ، طفولة تتلفح بقطعة من قماش ” الحجاب ” الذي يغطي شعرها ، ويخفي الجزء الأكبر من وجهها ، بالعباءة التي تُسدل على أطراف جسدها الصغير ، فلا يكاد يتبين منها غير ذاك الوجه الطفوليّ ، وتلك النظرات المنكسرة ، وكأنه يُردد قولا طالما مرّ على ألسنة الفقراء ” لو كان الفقر رجلا لقتلته “. استدركت ما مرّ بها، غلبها سيل دمع الندم ، خنقتها العبرات ، يومها لم تكن تعرف ، لماذا كان كل هذا القنوط يطبق بقبضته السوداوية على نفسها بالأمس ، ويكاد يُهشم قفصها الصدري ، وما الذي أصابها فجعلها تهرب من نفسها ، وهي طريقة تتبعها ، أن يكون السرير حصنا تلوذ به، تستلقي على فراشها وتجبر نفسها على النوم ، كأيّ طفلة صغيرة قد حان موعد نومها، لتتناسى ما يحلّ بها ، وغالبا ما كانت تصحو في اليوم الثاني، وقد خفّ الألم والضّجر الذي كان ينتابها . فجرا جمعت خيوط الرؤيا، وقد وضحت لها ، وهي تردد ” … : ” فأما اليتيم فلا تقهر ” .

شاهد أيضاً

يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت

(ثقافات) يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت حسن حصاري منْ يمُدُّ لي صوْتا غيرَ صوْتي الغائِب؟ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *