تتهاوى على كنبة الصالة بعد خروج الطبيب, زائغة النظرات, مصعوقة بزخم كلماته حول حالة زوجها الصحية التي أخذت تدق ناقوس الخطر. يعود ومعه الأدوية التي أحضرها من الصيدلية ليجدها في حالة انتحاب مزرية, يجلس قربها, محاولاً مواساتها وبعث القوة فيها, فما تخبئه الأيام المقبلة يتطلب صبراً أكثر من كل ما مضى, أساها يحثه على قول المزيد, وإن عرفت إنه لن يغير من الأمر شيئاّ, احتوت نظراته شدوه قسمات وجهها, بروز ذلك العِرق الذي يتوسط جبهتها العريضة, وتهدج صدرها, باكتنازه الجميل أمامه.
رأسها مثقلة بما تحمله من هواجس, فألقت بها على كتفه, مغمضة العينين المحمرتين من طول السهر, يحيط ظهرها بذراعٍ متبرئة من أدبه الجم, وربما تحفظه أحياناً في تعامله معها, رغم كثرة تردده عليهما وجو الألفة المرحة الذي تشيعه سخريته ومزاحه المحبب في جلساتهم الطويلة.
و كأنه قد أدمن التلصص عليهما, عندما يباغتها من تفتحت زهرة قلبها بين يديه, من قبل أن تكمل المرحلة الثانوية, يدفعها فوران شهوته بسرعة إلى حنو أحضانه، على ذات الكنبة الواسعة, يُسقط ماسكات شعرها, يفك أزرار قميصها، أو جلبابها، رغم دلال ممانعتها. في كل مرة يود ملازمة مكانهما, لكنها تصر على الذهاب إلى غرفتهما وغلق الباب, ثم الاستلقاء تحت الأغطية, رغم خلو الدار من سواهما, بعد وفاة والدته, يسخر من تشبثها بخجل أيام شهر العسل الأولى, وتقليديتها التي تفرض على شبقه طقوساً معينة لا تتغير أبداً, بينما تعلو ضحكاتها المثيرة مع اهتزاز جسدها بين ذراعيه.
يحتد من تحتهما صرير الكنبة التي كانت قد طلبت من زوجها، قبل مرضه المفاجئ ومجهول السبب لكل الأطباء الذين عاينوه, أن يأتي بمن يصلحها, أو ليستبدلاها بأخرى, لكنه يرفض الاقتراح الأخير بعناد طفل عصي عن الترويض. خبط كفيها القوي, الأقرب إلى اللطم, يتوالى على كتفيه, وما ألفت من أنات زوجها واستغاثته تتناهى إلى مسامعها, ما أن رفعت رأسها, تسترق النظر نحو باب الغرفة الموارب, كما لو كان سوف يزفر آخر أنفاسه مع تنامي شهقتها الكبرى, يرفع وجهه مبهوتاً عن صدرها, ظنت أن حدة صرختها سوف توقظ صاحب عمره من نومه, وتسوقه للنهوض من سريره والسير بخطىً واهنة, أمست تعينه عليها, لاستطلاع الأمر.
بصوتٍ يأسره شدوَه لدى حديثها مع زوجها, الذي لا تنفك عن مناداته (حبيبي) ترجوه الرحيل. يحاول احتواء انفعالاتها لما أشاحت بوجهها المتجهم عن نظراته, ولكنها لم تعاود احتضانه مجدداً, راحت أظافرها تندس في كتفيه, وكأنها تود تمزيق لحمه, حتى بدا الأمر أشبه بمحاولة اغتصاب, ينتفض عنها متألماً, كاد يسقط على الأرض, تستأنف نحيبها, فتحيل وجهها عن فحولته المضطرمة أمامها, يدنو خطوةً منها, أخذ نشيجها يحتد, لم يجد بداً في النهاية من ارتداء قميصه ورفع بنطاله إلى خصره, ثم الخروج راكضاً نحو دار أهله القريبة, يتعثر في الظلمة, وكأنه يغادر أحد أحلامه العبثية التي سرعان ما تغيب عن ذاكرته بعد استيقاظه, أو أنه يفيق من هذيانٍ خلَّفه إسرافه في شرب الخمر, منذ طلَق زوجته, بعد قصة عشق عاصف جمعهما, وضيق مستمر من بساطة العيش معه, بغرفته الصغيرة في بيت أهله, دون أن تشعر بالأمان مع شخصٍ يهتم بمزاجه ورغباته الآنية أكثر من أي شيء آخر, قد ينفق من أجلها كل ما لديه من مال, وإن اقترضه من صاحبه الذي يعرف تماماً إنه لن يستطيع سداده, فيما لم يكن يستقر في أي عمل أكثر من عدة أشهر.
استيقظ من نومٍ أقرب إلى الغيبوبة, غط فيه بسرعة, بعد أن زرقه الطبيب بحقنةٍ قوية المفعول قبل عدة ساعات, سخر تارةً وامتعض تارةً أخرى من عربدة ذلك الحلم المجنون الذي سطا كسربٍ من الغربان المتوحشة على دماغه الصاخب بالطنين غير المحتمل.
لم يعرف كيف يستطيع مواراة الاضطراب الذي يسبر نظراته دون أن تلاحظ شيئاً منه لدى دخولها الغرفة, استلقت إلى جانبه, دنت منه, ولم ينبس أيٌ منهما بكلمة, أو تتواجه عيونهما المكللة بالنعاس, احتضنا بعضهما بقوةٍ لم تبالِ بضعف جسده, ثم دفنت رأسها سريعاً في صدره, كدأبها في الآونة الأخيرة, كما لو كانت تود الإصغاء إلى دقات قلبه وتردد أنفاسه، ود معانقتها بشغفٍ لم يعرفه من قبل, إلا أنه وجد أصابع يده تسعى للبحث في انحناءات جسدها, وكأنها تود استنطاق أضلعه, ثنايا ثيابها, وخصل شعرها التي لم تعد تدس الماسكات البلاستيكية فيها, عن أي أثرٍ لحمى شبق صاحبه على بعد خطوات عدة, دون أن يهجس ما يدب في أوصالها من ارتخاءٍ لم تشهده منذ عدة أشهر, كان يدفعها إلى التشبث بتلكما الكتفين الدافئتين أكثر فأكثر, وكل شيء مغيبٌ عنها، حتى الدمع, فيما كانت الكنبة لا تنفك عن إصدار صريرها الحاد, دون أن تحاول استراق النظر نحو باب الموت الموارب.