طريق الحكمة، طريق السلام: كيف يفكّر “الدالاي لاما”؟ (3)

 

*ترجمة وتقديم : لطفية الدليمي

 

    يُعدّ الدالاي لاما إحدى أكثر الشخصيات أهمية في عالما المعاصر ، وتأتي أهميته من كونه يطرح مفهوماً للدين هو أقرب إلى النسق  المجتمعي – السايكولوجي – الثقافي المغاير للمنظومة اللاهوتية الفقهية المتداولة ؛ وعليه سيكون أمراً مثمراً الإستماع إلى آرائه التي يطرحها في شتى الموضوعات المهمة على الصعيدين الفردي والعالمي .

   أقدّم في هذا القسم ( وأقسام أخرى لاحقة ) ترجمة لأجزاء منتخبة من بعض فصول الكتاب المسمّى ( طريق الحكمة ، طريق السلام ) الذي أوشك على إتمام ترجمته .

   إعتمدتُ في ترجمة هذا الكتاب على النسخة الإنكليزية التي نشرتها دار نشر ( Crossroads Publishing Company ) عام 2004 .

                                                   المترجمة

 

                          الصُّوَر التي تُثيرُها البحيرة

 

   تطال الدهشة الناس في الغرب بين الآن والآخر بشأن الكيفية التي يجد فيها التبتيون قائدهم . كانت مهمة إيجاد ذلك القائد الروحي التبتي في العصور المبكّرة محصورة بحكومة لاسا* التي كان يُعهّدُ إليها تسمية الدالاي لاما الجديد في كلّ مرّة ، وطالما أنّ الدالاي لاما الجديد هو إعادة بعثٍ لسلفه المتوفّى فسيكون من الطبيعي أن يبدأ البحث عن الدالاي لاما الجديد بعد بضع سنوات من موت سلفه القديم ، وهكذا عندما مات الدالاي لاما الثالث عشر عام 1933 سمّت الجمعية الوطنية ( ريتينغ رينبوكي ) ليكون وصياً على الدالاي لاما خلال المرحلة الإنتقالية ، وفي السنتين اللاحقتين ذهب الوصيّ في رحلة حجّ برفقة عددٍ من أصحاب المقامات الرفيعة إلى بحيرة ( لاموي لاتسو ) المقدّسة في معبد تشوكوغيال الواقع على مسافة 150 كيلومتراً ( 88 ميلاً ) إلى الجنوب من العاصمة لاسا . يعتقد التبتيون منذ أزمان بعيدة أنّ هذه البحيرة المقدّسة تمنحُ كلّ من يخصّها بسؤال ملحّ يرتجي له جواباً رؤى وبصائر تفتح أمامه مغاليق عوالم أخرى غير عالمنا هذا ، وقد حصل أن رأى ( ريتينغ رينبوكي ) وحاشيته ثلاثة حروف تبتية تطفو على سطح ماء البحيرة : آه  ،  كا  ،  ما  ، ورأوا بين أشياء أخرى عديدة السقوف الذهبية والخضراء المتشققة الباهتة والعتيقة للمعبد بالإضافة إلى بيت ريفي مكسوّ ببلاطات تركوازية – زرقاء ، وقد بقيت رؤيتهم هذه سرّاً مكنوناً في بادئ الأمر .

   إنّ حكايات الرهبان الذين يمضون بعيداً للتجوال في ” أرض الصقيع ” القصية بحثاً عن الدالاي لاما القائد المنبعث من غياهب الموت  من خلال علامات ومعجزات محدّدة لهي أقرب إلى حكايات الجنيات الساحرات العجيبة بالنسبة إلى الغربيين ، وهي تذكّرٌنا بالأسطورة الإنجيلية عن ” ثلاثة رجال حكماء من الشرق ” إنطلقوا بحثاً عن المولود يسوع الذي باركته السماء ، وحتى في يومنا هذا لايزال الدالاي لامات يجاهدون في طلب الوحي من الوسيط ( نيكونغ ) بشأن أمور الدولة ، ويُنظرُ إلى ذلك الوسيط الروحي بقدراته الإستبصارية الهائلة باعتباره وسيطاً بين المملكتين الطبيعية والروحية ؛ لكن على كل حال فإنّ تينزن غياتسو ، الدالاي لاما الحالي ، لايفتأ يؤكّد بأنه لايحوز شخصياً مثل تلك القدرات الإستبصارية والتنبؤية .

   بالعودة إلى رؤية ( ريتينغ رينبوكي ) في بحيرة لاموي – لاتسو المقدّسة والتي من خلالها تمّ تنصيب الدالاي لاما الجديد في تلك الأيام الخوالي من ثلاثينيات القرن العشرين ، يقول الدالاي لاما بطريقته الأيقونية المعهودة التي تخالطها روح الدعابة المحببة : ” ربّما هذا شكلٌ قديم من التلفاز !! ” ؛ لكن من الصحيح أيضاً القول أنّ التبتيين ، وخلال قرون من التدريب والمران الروحي ، طوّروا لديهم قدراتٍ تقنية في ( الباراسايكولوجيا ) التي قلّما خضعت لبحث علميّ رصين . يبقى الأمر بالنسبة إلى اللامات أصحاب المقامات الروحية العليا محض مظاهر ثانوية لأنهم معنيّون في المقام الأوّل بالإستحالات الروحية التي تسعى نحو بلوغ هدفها الجوهري المتمثّل في الشفقة المفعمة بالحبّ تجاه كلّ الكائنات .

         مسبحة الصلاة ، عصي المشي ، واللاما القادم من سيرا

 

   مع مقدم عام 1937 أرسِلت فرق إستكشافية عديدة للبحث عن الأبنية التي شوهدت على سطح البحيرة المقدّسة ، وطالما أنّ رأس جثة الدالاي لاما الراحل الثالث عشر – الذي كان لايزال ماكثاً على عرشه – كان متوجهاً نحو الشرق ؛ فقد ركّزت فرق البحث جهودها في ذلك الإتجاه . وجد ( كيتسانغ رينبوكي ) ومجموعة البحث العاملة برفقته من معبد سيرا مصداقاً للرؤية المقدّسة في معبد ( كومبوم ) بسقوفه الخضراء المذهّبة ، ووجدوا كذلك بيتاً ريفياً مكسواً بالبلاطات التركوازية ومطابقاً لتلك الرؤية في قرية تراكستر المجاورة في مقاطعة آمادو في دوكام الواقعة إلى الشمال الشرقي من العاصمة . قبل أن يدلف الرهبان الثلاثة إلى البيت الريفي إستبدل ( كيتسانغ رينبوكي ) أرديته الرهبانية البوذية بأردية خادم بسيط واحتفظ بمسبحة صلاة الدالاي لاما الثالث عشر الراحل معه .

   عندما جلس الخادم المفترض على أرضية المطبخ في المنزل الريفي سرعان ماظهر صبي يدعى ( لامو ثوندوب ) يبلغ من العمر عامين إثنين – هو مولود في 6 تموز 1935 – وقفز بكلّ ثقة ليتوسّد حضن الخادم ، وراح من فوره يمسك بمسبحة الصلاة المخفية . وعد رينبوكي الطفل بمنحه تلك الخرزات الملظومة مع بعضها فيما لو إستطاع معرفة هويته المخفية ، ومن غير أي تردّد أو طول تفكّر وتقليب للنظر أجاب الطفل : ” اللاما القادم من سيرا ” ، وفي عبارة متصلة أضاف لما سبق إسمي الرجلين الغريبين الآخرَيْن ، ثمّ أعقب هذا سلسلة من الإختبارات المتتالية .

   عُرِضت أشياء أصلية تخصّ الدالاي لاما الراحل بالإضافة إلى نسخ أخرى تشبه تماماً نظائرها الحقيقية على أنظار الصبي : كان ثمة مسبحتان سوداوان ومسبحتان صفراوان بالإضافة إلى عجلتي صلاة ** ، ولم يلقَ الصبي أية صعوبة تذكر في إختيار الأصلية وتمييزها عن تلك المقلّدة ؛ لكن حصل أن تردّد الصبي قليلاً مع إثنتين من عصي المشي غير أنه اختار العصاة الأصلية في نهاية المطاف . أعتبِرت هذه الإختبارات برهاناً إضافياً على أنّ الصبي ينبغي أن يكون الدالاي لاما  المنبعث من جديد ، والحقّ أن كلتا العصاتين اللتين عُرضتا على أنظار الصبي كانتا تعودان للدالاي لاما الثالث عشر ؛ لكنّ العصاة التي إختارها الصبي ظلّت ملازمة له على الدوام ( بعد أن صار الدالاي لاما الرابع عشر ، المترجمة ) ، أما العصاة الأخرى فقد تخلى عنها بعد حين قصير .

                   ” سيّد اللوتس البيضاء ” يعتلي العرش

 

   إقتنع الرجال الثلاثة أنّ المقاطع المقدّسة الثلاثة التي شاهدوها على سطح البحيرة المقدّسة لها معانٍ محدّدة : المقطع ( آه ) يشير إلى آمادو Amado ، والمقطع ( كا ) يشير إلى كومبوم Kumbum ، والمقطع ( ما ) يشير إلى معبد ( كارما بولباي دورجي Karma Polpai Dorje ) ، وهذا الأخير هو المعبد الذي ظلّ الدالاي لاما الثالث عشر ماكثاً فيه بعد رحلة عودته من الصين . ترسّخت قناعة الرجال الثلاثة من خلال هذه العلامات – وعلامات أخرى إضافية – بأنّ هذا الصبي ينبغي أن يكون الدالاي لاما الرابع عشر ، وقد واجهوا عبء مفاوضات شاقة مع الحاكم المسلم للمنطقة والذي كان يبسط سلطته على المنطقة المحيطة بِـ ( تراكستير ) بتفويض من السلطات الصينية ، ولم يمكنهم جلب الصبي معهم  إلا بعد دفع فدية باهظة . كان الصبي بعمر الخامسة آنذاك ، وانتقل برفقة عائلته إلى العاصمة عام 1940 .

في العاصمة لاسا خُلِع على الصبي إسم ( تينزن غياتسو ) واعلِن عنه رسمياً بأنه الدالاي لاما الرابع عشر ، وفي اليوم الذي إعتلى فيه العرش خُلِعت عليه أوصاف عديدة : سيّد اللوتس البيضاء ، جوهرة تحقيق الأمنيات ، الجوهرة الظافرة ، السيد الذي لايضاهيه أحد ،،، ، أما التبتيون فيكتفون بوصف قائدهم بمفردة ( كوندون Kundun ) التي تعني ( الحضور ) . شرع الصبي الآن في مسار رحلة لن تلبث أن تواجه عمّا قريب الكثير من المهمّات السياسية الشاقة .

                          قبّعاتٌ صفراء ٌ وقُبّعات حمراء

   لأجل أن نفهم بطريقة أفضل الدور الذي ينهض بعبئه الدالاي لاما فإنّ من المهمّ إلقاء الضوء على بعض المفاهيم الأساسية . الدالاي لاما هو القائد الروحي والسياسي في الوقت ذاته للتبت ، وبالإضافة لذلك هو رئيس ” مدرسة الطهرانيين الأفاضل ” – الغيلوغباس Gelugbas ، ويسمّى هؤلاء أيضاً ( القبّعات الصفراء ) بسبب لون أرديتهم ، أما رئيس المدرسة الرئيسية الثانية المسمّاة ( مدرسة الكاغيو Kagyu School ) أو ( القبّعات الحمراء ) فهو الكارمابا*** ، والكارمابا الحالي السادس عشر هو ( أورغين ترينلي ) ، الشاب اليافع ذو الأربعة عشر عاماً ، الذي خلع عليه الدالاي لاما هذا اللقب عام 1992 . حصل مع نهايات عام 2000 أن ترك الكارمابا السادس عشر حياة المعبد التبتي في تسورفو الواقع على مرتفعات الهيمالايا إلى الشمال من دارماسالا الهندية ، وكانت رحلة الكارمابا شبيهة برحلة الدالاي لاما عام 1959 .

    إنّ كلا هذين القائدين الروحيين ( أي الدالاي لاما والكارمابا ، المترجمة ) هما بمثابة بوذا الحيّ Bodhisattvas بالنسبة إلى البوذيين ؛ إذ أنهما الكائنان الوحيدان اللذان بلغا مرتبة ( التنوير الكامل ) الذي يمكّنهما من الدخول في حالة اللذة الروحية القصوى ( النيرفانا Nirvana ) بعد موتهما ولكنما آثرا التخلي عن بلوغ هذه الحالة بسبب حالة التعاطف Karuna التي تجعلهما يرحّبان بالإنتظار حتّى تتحرّر كل الكائنات الأخرى ( من ربقة القيود الدنيوية الآسرة ، المترجمة ) . يعدّ هذان القائدان الروحيان إعادة إنبعاثٍ لِـ ( تشينريسيغ Chenresig ) شبيه بوذا الحي ، وتعني مفردة Bodhisattva Chenresig النظر بعيون نقية لايشوبها التشويش ، أما تشينريسيغ ذاته فهو القدّيس الراعي لِـ ” أرض الصقيع ” – التبت ، ويعتقد التبتيون بوجود رابطة قوية تربط كلّ الوقائع الجوهرية والشخصيات المهمّة مع فعاليات تشينريسيغ ، ويرى التبتيون في الملك سونغتسين غامبو ( 620 – 649 ) – الذي يدعونه أيضاً أب الشعب التبتي – تجسيداً حياً لروح تشينريسيغ . يبدأ الطريق إلى تمثّل روح بوذا الحيّ مع السعي وراء روح التنوير Bodhichitta  ، مصحوباً بنذر الروح لمواصلة هذا الطريق Pranidhana  .

* لاسا Lhasa : هي العاصمة الإدارية لمنطقة التبت التي تخضع لحكم جمهورية الصين الشعبية . ( المترجمة )

**  عجلات الصلاة Prayer – Wheels : أسطوانة موضوعة على محور عمودي متحرك ، تُصنع في العادة من المعدن أو الخشب أو الحجر أو القطن الخشن ، ويحوي سطحها الخارجي تقليدياً على نصوص بوذية مقدّسة مكتوبة بالسنسكريتية . ( المترجمة )

*** الكارمابا The Karmapa : لقب ديني شبيه بالدالاي لاما . ( المترجمة )

___________
*المصدر: المدى.

 

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *