أحيانا أفكر في ما لو أن بارعا اجتهد في لملمة مادته الغنية بصبر ورعاية مبالغ فيهما، وعلى مدى أربع سنوات حتى استطاع أن يمنح لذهنه قناعة أولى شكلتها متعة اللقاء بالمادة في جولات يصاحبها الشد والجذب بلمسات من عالم الإبداع وعالم الصناعة من خلال: التخطيط والفعل وبيع الحقوق والبث والتفتيش والمراقبة؛ وقناعة ثانية شكلتها متعة الوصول إلى النهاية وهي تخلف ورائها توترات مواجهة مرتقبة من نوعها أو من غير نوعها.
يقع ذلك في أحداث كثيرة تعرفها البشرية، وإن اختلفت مدة موسميتها ومجالاتها أهميتها الاقتصادية أو السياسية وحتى جاذبيتها. من تلك الأحداث، الأحداث الرياضية خاصة رياضة كرة القدم. إن ما يميز كذلك هذه اللعبة الشعبية، كون متابعة المباريات لا تستدعي فقط تفاعل الأيدي والأرجل والرؤوس، بل كذلك مخيلتنا. فأطراف المدرجات في الملاعب كأطراف المدرجات وراء الشاشات في المقاهي وفي المنازل وحتى الأماكن العمومية التي تجهز بشاشات ضخمة، ورائها صفوف متباينة منتظمة أو غير منتظمة من المشاهدين، كل منهم يتابع بخياله و جوارحه وروحه. فالخيال جزء من حقيقة مشاهدة المباريات الكروية. لكن أي خيال هذا الذي نحتاج إلى كشف سره؟
تبدو صعوبة هذا الموقف واضحة، خاصة وأن المسؤول غير ماهر في تحليل مباريات كرة القدم. لكن عندما يوقظ مخيلته يجد نفسه وجها لوجه مع هذا الموقف و عليه يكون مضطرا لقول ما هو مقامي، أي مناسب للمقام. لماذا لا نقبل توجيه السؤال إلى وجهة أخرى، أي ننظر في المشهد الكروي مثلما ننظر في أي حدث عالمي. فرغم أن هناك أحداث ثقافية وعلمية وأعياد سنوية و أممية، إلا أن حدث ” كأس العالم” لكرة القدم له وزنه الفريد، حيث لا يضاهيه إلا القليل من الأحداث العالمية الموسمية. و بذلك ننتقل من زحمة الكتابة عن شأن له أهله إلى الكتابة عنه من شأن خاص. ما الذي يجعل من حدث “كأس العالم” حدثا؟
هذه هي إحدى الأسئلة التي تبقى لنا من موضوع ” كأس العالم”، و هو يحافظ، كتبرير محايث صلب، على لباقة الطرح الذي سأعرضه. ربما نشبه في هذا المنحى، من حيث المبدأ، ما أقدم عليه جيل دولوز عندما كتب عن السينما من موقع فيلسوف، إذ فصل في مفاهيم لا تخص السينما وحدها، وهي من قبيل: الزمن، الحركة والصورة.
إذا كان كل حدث يتيح الحديث عنه تلقائيا، فهو لا يخلو من التحليل اللغوي كما يُقال؛ و إذا كانت ” اللغة هي التي تخلق الأحداث” كما يقول تودوروف، فإن التحليل اللغوي غير كاف لإشباع إرادة فهم ” الحدث”. ثمة تاريخ وسياسة وحياة جارية تمثل مجالات يمكن أن تسعفنا في فعل الفهم. فتحت رعاية الاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا) نقف أمام حدث له وزنه بالنظر إلى أبعاده المذكورة سلفا. فالحدث، في ما يعنيه لدينا في هذا المقام، هو مقاولة و استمرارية وجاذبية.
تطور مفهوم المقاولة مع نشأة الصناعات الحديثة، فتوسع إلى مجالات إنتاجية وإبداعية يفعل فيها الإنسان: منها الصناعات الصلبة والتحويلية وصناعة الفنون والمعرفة العلمية والأدبية وصناعة الرياضة… فحدث “كأس العالم” من حيث هو مقاولة وحدة للإنتاج تتأسس على شغل و مال وتجهيزات تقنية: هي ما يسمى عوامل الإنتاج. غايتها إنتاج منافع تتجلى في الفرجة الكروية، بجانبها خدمات لتلبية حاجيات المستهلك المتفرج. وتسعى هذه المقاولة من وراء ذلك إلى تحقيق أرباح.
مما يثيره هذا التحديد، أن المقاولة تقتضي كون المهندسين والتقنيين والمشْهِرين هم الذين يشكلون أهم حلقة في هذا الحدث. إن تاريخ هذا المحفل الدولي الكروي ليس بنية خالية من الذوات الفاعلة و لا هو بنية و نسق متعالي، بل هو حدث إنساني ملاصق للبشر في أفعالهم و علاقاتهم، أي هو نتاج لممارسة اجتماعية كروية. فالكرويون مع اختلاف مستوياتهم و طبقاتهم فاعلون ينتجون الحدث داخل ممارسة مبنية بدقة. فبداخل علاقات إنتاج تحمل بنية، يفعلون و يحولون و ينجزون واقعهم و مستقبلهم الكروي. نموذجا، يمكن تلمس هذا من خلال استثمارات الفيفا وتعاقداتها التجارية مع العديد من الشركات كشركات الملابس و مصممي ألعاب الفيديو.
تظهر المقاولة- البنية في الأخير كصورة تعكس العلاقات بين الفاعلين الكرويين وهي صفة أساسية يلزم فهمها لفهم طبيعة صفة المقاولة كبنية تلاصق مشاريعهم الكروية. بذلك، لا تحتل المقاولة مكان الفاعل الكروي و لو كانت المؤسس للمظاهر الشعبية لهذه اللعبة التي تصنع كذلك الكروي المحترف.
فالحدث – مقاولة يقتضي الاحتراف. والاحتراف سمة أساسية في هذا الحدث الموسمي الكروي. إذا كان للوقت له أهميته فلأنه يؤثر على معرفة الحاضر الذي سيستوعب مجريات الحدث. فتنظيم الوقت يجعل التفكير في الحدث من حيث هو مقاولة مرتبط بالحاضر المؤسس للمستقبل و هذا ما يفسر مواكبة حدث 2018 لأحداث مستقبلية في 2022 و 2026م، أو حتى 2030 في حال ما ضاقت الفرص على البعض.
الحدث، من ناحية أخرى، هو استمرارية. فالمتتبع للدورات الكروية العالمية لا يجد صعوبة في الدخول إلى طقس كل دورة والخروج منه، و لو كتب طقس كل دورة بإيقاع خاص، و رسم بألوان وطنية معينة، و تميز عن غيره بأنغام محلية أو مسروقة. إن كل تلك المؤثرات تضفي السلاسة والسهولة في الانتقال من دورة إلى دورة. وفي الغالب إن لغة التماسك هي السائدة في استخدامات المنظومة، فحتى لو كانت لكل مستضيفة طقوس خاصة، ربما تتفق أو تختلف عن طقوس مستضيفة أخرى، فهي في النهاية تضمن الاستمرارية. إن هذا الحدث لا يميط اللثام عن مستوى الثقافة الكروية فحسب بل هو عمل توثيقي يعبر عن الاستمرارية لكي لا يكون عرضة للتلف الممنهج.
تستند الاستمرارية على حقيقة مفادها استقلالية المؤسسة. فجهاز الفيفا في تنظيم شؤونه الداخلية، يكون في أمس الحاجة إلى “حرية مطلقة” دون التأثر بعوامل خارجية. فهي تعمل على ترسيخ مبدأ “الاستقلالية” التي ستمكنها من السيادة الكاملة على قرارتها. إن القيم الخاصة بهذه المقاولة ليست محلية أو محدودة. فهي لا تقتصر فعالياتها على نطاق الدول التقليدية المتقدمة، بل تعتبر نفسها، في إطار سياستها المغرية، منتمية إلى الجنس البشري بأكمله.
لهذا فمعادلة الاستمرارية تفرض وصف تدفق الإنتاج الكروي مع تحقيق نسب من المشاهدة العالية في كل دورة. إن كمية محفوظةً، مثل هندسة المشاهدة و حجز أكبر عدد من الكتل المتفرجة والشحنة التفاعلية بين المتابعين، تضمن استمرارية اللعبة مع عدم إغفال أية تفاصيل يمكن أن تزيد من حدة التنظيم و ضمان الفرجة. تضبط الاستمرارية من داخل مقاولة الفيفا ضمن مجال جريان الموانع المالية واللوجستيكية والاقتصادية والسياسية أحيانا.
وإذا كان مبدأ الاستمرارية من مبادئ الفلسفة الطبيعية التي عالجها أرسطو، حيث يقترح أن الأشياء في الطبيعة تخضع للتبدل التدريجي، فهي لا تتمثل فقط فيما صرح به الفيلسوف اليوناني، فحدث ” كأس العالم”، من منطلق التطورات التاريخية التي مر منها، ليس هو فحسب تبدل تدريجي أو مسلمة طبيعية أو حساب لمجريات حدث لا متناهي مفروغ منه، بل هو كذلك جدل بين المنظمين والمستضيفين، و استحضار للاحتمال المصاحب لذلك الجدل مع إعمال لنظرية السيناريوهات التي تصاحب فهم آليات تطور الأحداث المجاورة، حيث توضع إمكانيات إلغاء أو تحويل شرف التنظيم إلى بلد آخر. والحدث أخيرا، هو طفرات تواكب المستجدات العلمية والتقنية. فاستمرارية هذا الحدث تندرج ضمن استثمار الفرص التكنولوجية التي بالإمكان أن تجرى تحت ظل الأزمات السياسية والاقتصادية.
الحدث ـ جاذبية: في كرة القدم ثمة نوع من الجاذبية التي لا تقاوم تتشكل حولها. جاذبية قبل المباريات، مادام أن هذا الحدث يسيل لعاب الزعماء السياسيين والاقتصاديين و هذا جلي من حيث كون الحدث مقاولة، و جاذبية أثناء مجرياتها. في هذا المستوى الأخير، و بسببه، ننحاز قبل أن تبدأ المباراة، أو ننحاز إلى فريق على حساب آخر في وسطها، أو لا ننحاز مطلقا نشاهد المباراة و من يشاهدها. فالذين يشاركون من هذه القارة القريبة أو تلك البعيدة اتفقوا، بفعل الجاذبية، أن لهم طقسا كرويا أثناء اللعب، فقط يختلفون في شعاراتهم و ألبستهم و درجة شتائمهم، لكنهم لا ينفكون عن تسجيل حضورهم لتنشيط الفعل الكروي.
كان المؤلفون الموسيقيون كلما وقعوا في جاذبية كلمات موضوعاتهم أو إحدى جملهم الموسيقية، في مقطوعاتهم أو أغنياتهم، يعودون ليحكوا عن تلك الجاذبية. قد يقول أحدهم: ” كنت أجد ما يجذب أكثر من غيره في هذا”. و كنت أنا أنظر إلى مقطوعة أو أغنية أحدهم بحثا عن ما يجذب فعلا هذا الموسيقي أو ذاك، صورة كان أو مفهوما أو مكانا أو حركة أو تسلسل نغمي أو توافقي… و أتصور خيالات مفترضة عن ما يجذبه في كل مرة. و ما هو أكثر لمعانا، بالنسبة إلي، هو أن يكون الموضوع ذا فكرة مجردة أو إبداعية تحفز على الإبداع، أو ينطوي على حس و ذوق يجبرنا على الهدوء أو اختلاف يجبرني على إغلاق المذياع أو إيقاف الشريط… هذه الأوصاف هي ما يحدد لمعان المقطوعة الموسيقية أو الأغنية. مع ذلك فما أراه لا يلغي الجاذبية لدى الآخرين.
لكن ما علاقة هذا بحدث كأس العالم؟ كثيرة هي المباريات (التاريخية) التي أبهرت أصدقائي الذين أثق بذائقتهم الكروية. إذ رأووا فيها جاذبية إلى حد لا يمكن مقاومتها. لكن عندما قررت البحث عن بعض مشاهدها لم أشاهد ما يجذبني، أي لم أشاهد ربما المباراة مثلما شاهدوها، لقد حصل معي ما لم أتوقعه. هل هذا يعني وجود خلل أو عيب في التذوق الكروي، أقصد تدني الذائقة الكروية لدي أم لديهم؟ وأي كان، فالأمر لا يشغلني أكثر مما يشغلني الانصراف إلى النهاية.
إن تخيل وجود علاقة جاذبية بيني والمباريات يعيد إلي التوازن المؤقت والنسبي مع الجو العام للحدث الكروي العالمي. فأكثر ما أنجذب إليه، المباريات الحامية منها مباراة النهاية. إن الايمان بحرية الجاذبية على خط النهاية أكثر حرارة و صدقا. ففي المباراة النهائية هناك من ينادي بصوت سحري و أندفع كطلقة حرة لإيماننا أن ما سنشاهده يجب أن يشاهد و إلا نكون خارج الكرة الأرضية لمدة شهر. لا بد أن يكون هنا شيء من الحقيقة في النهاية. لكني لا أتجاوب مع الصوت السحري الهامس بل الصارخ المشدد على الحرص بحضور النهاية الذي ينمو بداخلي و بدواخلنا. ربما هذا النمو يخصني وحدي لا يشاركني فيه أحد لأن من سيشاهد النهاية، سيحسم إن كانت جاذبة أو نابذة. أ هي نهاية خلقت لدي قناعة بمتعة أم نهاية تخلق متعة التفكير في توترات المُشاهد تَرقّبا لأي حدث آخر؟