خاص- ثقافات
* محمد آيت ميهوب
قلم مغموس في الماضي… كتابة متجذرة في الحاضر
“تغريبة أحمد الحجري”[1] رواية أصدرها الروائي التونسيّ عبد الواحد براهم سنة 2006 عن دار الجمل بألمانيا وقد اعتمد المؤلّف في كتابته هذه الرواية اعتمادا كبيرا وصريحا على نصّ قديم بعنوان “ناصر الدين على القوم الكافرين”[2] كتبه المترجم والرحّالة الأندلسيّ أحمد بن قاسم الحجري الأندلسي وروى فيه رحلاته عبر أوروبّا ومصر وبلاد المغرب بعد أن خرج من الأندلس إثر سقوط غرناطة وصدور قرار النفي. فالرواية هي إعادة كتابة لهذا النصّ القديم وبعث له في إطار أدبيّ جديد هو الرواية. فماذا فعل عبد الواحد براهم ليعيد إنتاج النصّ الأوّل ويحوّله من جنس في الكتابة هو أدب الرحلة إلى جنس حديث هو الرواية ؟ وما دامت الرواية إعادة كتابة لكتاب أحمد الحجري فإنّها قد دخلت معه في علاقة تناصية يدرج جيرار جونات أمثالها ضمن ما يسمّيه بـ”التطريس”[3]. فكيف كانت علاقة النصّ الوليد بالنص الأب؟ وهل ارتدت الرواية جلباب نصّ الرحلة ؟ أم تنصلت منه ؟ وإن تنصلت فهل استطاعت أن تلقيه عنها إلقاء كاملا كما تفعل الحيّة حين تجدّد جلدتها ؟ ولماذا هذه العودة من عبد الواحد براهم إلى التاريخ، والتاريخ الأندلسي تحديدا ؟ هل غايته وهو يحاور التاريخ أن يستعير سمت المؤرخ وأدواته وأهدافه أم كان يلازم موقع الروائيّ المتعامل مع التخييل وإن كانت مادته الأوليّة الوقائع التاريخيّة الثابتة ؟ وأيّ علاقة تراها تنعقد بين ماضي القصّة وحاضر القصّ ؟
تلكم هي الأسئلة التي نطرحها على رواية “تغريبة أحمد الحجري” ونرنو من خلالها أن نلّم بتحليل جوانب النص الأساسيّة الثلاث : التناص، وتعدّد الأجناس، وعلاقة التاريخيّ بالتخييليّ.
-
ملخص الرواية :
“أحمد الحجري” بطل الرواية شخصيّة مرجعيّة تاريخيّة لها وجود واقعي حقيقيّ. فقد ولد سنة 1570 بالحجر الأحمر غرب مدينة غرناطة وأدرك الأمر الصادر بطرد العرب جماعيّا من إسبانيا سنة 1609 في عهد فيليبّي الثالث بدعوى الحفاظ على الدين المسيحيّ. وقد ألّف الكتاب الذي أشرنا إليه آنفا “ناصر الدين على القوم الكافرين” وهو مختصر لكتابه “رحلة الشهاب إلى لقاء الأحباب”، وفيه عرض لرحلاته في أوروبا والمشرق والمغرب.
تبتدئ الرواية بحادثة بسيطة جدّا إذ يظهر البطل أحمد وأخوه وهما طفلان يلعبان في الحقل يجريان وراء أتان في يوم قائظ شديد الحرارة. وتخرج أمّهما “روزاليا” من البيت وتنهاهما عن اللعب وتحاول أن تردّهما عنه خوف الإصابة بضربة شمس، لكنّهما لا ينتهيان. فتغضب وتهدّدهما بالأب وتقسم بالله، وقد نطقت قسمها باللغة العربيّة بعد أن أفقدها الغضب حذرها واحتراسها. وبذلك يكتشف البطل الطفل حقيقته وحقيقة أسرته. وتكون هذه الحادثة البسيطة بداية انقداح الوعي لديه، فيعرف أنّه ذو وجود مزدوج، يحمل هويّتين في وقت واحد : هويّة سريّة داخل البيت، وأخرى علنيّة خارج البيت. ففي الشارع يسمّى فيليكس وفي البيت أحمد، في البيت لغته العربيّة وفي الشارع القشتاليّة، وهو مسيحيّ في الشارع أمّا في البيت فمسلم.
“لم يكن ما حدث أمرا عاديّا. كان زلزالا هزّ حياتي وفصمها منذ ذلك اليوم إلى شطرين : أحدهما جهري ظاهر معلن، والآخر مكتوم مستور مغطّى. صار لي اسمان ودينان ولغتان، ومن عجب أنّ هذا هو حال أفراد الأسرة جميعا دون أن أدري. هكذا كانت الأمور تسير وأنا لا أعلم. واليوم عرفت أنّ اسم روزاليا المنزلي هو وريدة، وأنّ النطق به خارج البيت أو أمام الأغراب ممنوع”[4].
وتفطّن الطفل إلى الوجود المزدوج الذي كان والداه يعيشانه :”كانت روزا كما يحلو لي أن أناديها، مواظبة على كنيسة الأحد، وعلى الصلوات الخمس في بقيّة الأسبوع. صليبها الذهبيّ يلمع على صدرها كلّما ظهرت للناس ثمّ يختفي في حين تخلعه وتمسح مكانه بماء الورد حين دخول البيت. أبواي مسيحيّان في النهار، ومن تقاة المسلمين في الليل. بهذه الطريقة ربّيانيّ، وفي هذه السبيل دفعاني بتوجيه خفيّ أوّل الأمر ثمّ بوضوح لمّا كبرت”[5]
إن نهي الأم ابنها عن اللعب وتحذيرها إياه من ضربة الشمس هما إعلان رمزيّ عن وصوله إلى زمن الوعي الشقيّ وتهيئة له لينضمّ هو الآخر إلى الحياة المزدوجة. فبدأ بتعلّم العربيّة وحفظ مبادئ الدين الإسلاميّ وتعلّم الحذر والحيطة والخوف من الواشين حتّى ولو كان طيرا وحيوانا. فذات مرّة قال الابن لأبيه وهما مسافران :”ليكن ما شئت يا شيخ العرب” فردّ الأب منتهرا :”لا تعد إلى مثل هذا الكلام وإلاّ سمعتك طيور السماء ووشت بنا”[6].
انتهى زمن اللعب والعبث وبدأ زمن الوعي، وانتقل الطفل إلى بطل تكوين ذاتي. فانفتحت بوّابة الأسفار بحثا عن معرفة الذات والعالم وسعيا إلى المغامرة. وبذلك كانت الرواية في قسمها الأكبر أسفارا تعقبها أسفار. سافر وهو طفل مع أبيه سفرته الأولى، سفرة اللقانة واسرتداد لباس الهويّة الأولى الجوهر، الهويّة السريّة. فحضر مع أبيه في إحدى القرى بعض الدروس الدينيّة والفقهيّة وتمّ في هذه السفرة ختانه. ثمّ تجوّل في المدن الأندلسيّة كطليطلة ووقف على حجم الدمار الذي لحق المعالم الإسلاميّة واليهوديّة أيضا :”وفي الحقّ لم يكن جوّ القرية ولا ما يروج فيها من أخبار المحاكمات والعقوبات ومصادرة الأراضي، ممّا يبهج النفس ويجعل إقامتنا مريحة. وآخر ما بقي في ذاكرتي ليلة طفنا نودع الأهل، منظر عجوز عمياء اشتكت لأبي ودموعها تنفر بغزارة من عينين فارغتين، كيف انتزعت منها محكمة دواوين التفتيش كلّ ما تملك لأنّها تذمرّت يوما من إقفال الحمّامات بحيث لم تجد أين تنظف جلدها المهترئ بمرض الجرب”[7].
اقترن تقدّم أحمد في السنّ بإيغاله في الأسفار والتعلّم. فسافر إلى غرناطة لطلب العلم فقها ولغة عربيّة، ومنها إلى طليطلة حيث تعلّم الترجمة وحفظ مبادئ لغات كثيرة كالقشتاليّة والبرتغاليّة والعبريّة والفرنسيّة، وتأثّر بتعاليم المصلح الديني لوثر، وواكب ظهور المطبعة ومارس فنّ التمثيل، وتابع اضطهاد الكنسية العلماء ورأى ما حاق بغاليلو.
وبعد أن أتمّ التحصيل العلميّ، استقرّ بغرناطة. ومات الأب فأجبرت العائلة على دفنه وفق التعاليم المسيحيّة. واشتغل في غرناطة أمين صندوق لبعض التجار ومترجم وثائق. واكتشف أحد الرهبان معرفة أحمد الحجري بالعربية فغنم من ذلك حظوة لدى القساوسة لتشجيعهم على الترجمة من العربيّة، فأصبح مبجّلا عندهم وهو ما جعله في الوقت نفسه معزولا من الأندلسيّين مرتابا به. رغم ذلك لم يطمئنّ أحمد الحجري إلى الاستقرار لاسيما بعد رحيل أخيه محمّد إلى المغرب. ففكّر في الهرب من غرناطة إلى مرّاكش صحبة صديقه عبد الرحمان المختصّ في فنون الزراعة. وهكذا وصل إلى مرّاكش بعد مغامرات كثيرة ومواجهة أخطار عديدة. فآنضمّ إلى ديوان السلطان أحمد المنصور واضطلع بترجمة مكاتيب السلطان وتعليم أبنائه اللغة الإسبانيّة. وقد استفاد من تشجيع السلطان العلم ومن الازدهار الاقتصادي الذي عرفته مرّاكش في عهده. وقد وصف السلطان بأنّه “خليفة العلماء وعالم الخلفاء” وفي بلاطه تعرّف إلى كثير من الرهبان والقساوسة المسيحيّين القاطنين مرّاكش فاستفاد من علمهم في اللغة اللاتينيّة وعلم الفلك.
ولم تكن مراكش إلاّ محطّة من المحطّات. فلم يلبث أن عاد إلى الأسفار، فزار أصقاعا من أوروبا بتوصية من السلطان لاستعادة أموال الأندلسيّين الذين سلبت أملاكهم عند تهجيرهم. فتنقّل بين إسبانيا وبلاد الإفرنج وهولندة، وتعرّف إلى امرأتين تركيتين أجبرتا على التنصّر بعد أن أسرتا وبيعتا لملكة فرنسا.
وحين بلغت أحمد الحجري أخبار مفزعة عن تدهور أحوال مرّاكش، فكّر في السفر إلى تونس لاسيّما وقد تناهى إلى مسامعه أنباء عن ازدهارها بعد قدوم العثمانيّين إليها. فوصل إلى تونس وتزوّج الفتاة التركيّة التي التقاها في أوروبا، واستقرّ نهائيّا بتونس مندمجا في الجالية الأندلسيّة التي لجأت إليها هربا من الإسبان. وهناك قام بزيارة إلى قرية “تستور” الأندلسيّة واطّلع على ما أحدثه الأندلسيّون في تونس من تطوير لفنون الزراعة والبستنة والمعمار.
بزيارة تستور تنتهي أسفار أحمد الحجري في الجغرافيا وتكتمل بالتوازي مع ذلك رحلته في ذاته، فيظفر في آخر المطاف وعلى نحو مفاجئ يشبه الحدس الصوفيّ باكتشاف جوهر كيانه والتعرّف إلى نفسه الحقيقيّة. فيعرّف نفسه في آخر الرواية بأنّه “كائن عالميّ ابن الإنسان مطلقا” يقول :”هكذا على غير انتظار، عثرت على هذه المقولة الفريدة النابضة بالصدق المحض، ممّا لم أقرأه في كتاب ولم أسمعه على لسان عالم ممّن ناقشتهم، وليس فيهم إلاّ الفرحان بما أوتي من علم قليل، المكتفي بما وجد عليه آباءه المسترحب لضيق حجره وانكماش صدره.. لم أسمع منهم من قال مرّة : أنا ابن آدم، ووطني الأرض، وما عدا هذا قيود وحدود. لم أسمع أحدهم قال : أرض الله للجميع وحيثما تولّوا فثمّ وجه الله (…) من حقّك رفض مواطنة تشتمك والاستغناء عن بلد أذلّك وأهانك وليكن عنوانك الأرض بوسعها، فرانشيسكو العالميّ… ساكن الأرض ها أنت ترفع رأسين تنسيني مرارة المنفى… أنا أحمد بن قاسم البيجارنو الحجري، الغرناطيّ، الأندلسي، المرّاكشي، المغربي، التونسي.
لا أدري أيّ نسبة هذه هي نسبتي ؟
ولا أيّ بلد سكنته هو بلدي ؟
ولا أيّ أرض وطئتها هي أرضي ؟
فلأكن أنا العالميّ ساكن الأرض… مثلك
يا فرانشيسكو الهائم بمخطوط على صولار
بين الجهات الأربع”[8]. (303-304)
هذه هي قصّة أحمد الحجري مع الذات والعالم والآخر، فيكف كانت قصّة عبد الواحد براهم مع الكتابة ؟
2– الكتابة والتطريس :
أ – تعريف التطريس:
التطريس لغة من طرّس الكاتب أي أعاد الكتابة على المكتوب ومنه الطرس وجمعه أطراس وطروس وهو الصحيفة التي محيت ثم كتبت[9].
أمّا اصطلاحا فالتطريس مصطلح حديث استعمله جيرار جونات في حقل الدراسة السرديّة ليعني به التداخل بين النصّ السرديّ ونصّ آخر سابق له. ولهذا المصطلح تشابك مع مصطلح التناص والفرق بينهما أنّ التطريس تناص مقصود أما النتاص فيكون مقصودا ويمكن أن يكون عفويّا. وكلّ فعل تطريسّ يتضمن علاقة مّا أو علاقات بين نصيّين هما نص مصدر (hypotexte) وهو النصّ الأوّل السابق ونصّ ناسخ (hypertexte) هو النصّ اللاّحق الذي أعاد كتابة النصّ المصدر[10]. وأبرز ضروب العلاقة بين هذين النصين علاقتان هما : المحاكاة والتحويل في آن معا.
ولنا في رواية “تغريبة أحمد الحجري” ألوان من هذه العلاقة المزدوجة التي أقامتها مع نصّها المصدر “ناصر الدين على القوم الكافرين”.
ب – المحاكاة :
*أقسام الرواية :
تكوّنت رواية عبد الواحد براهم من أربعة أبواب هي : “باب الأندلس” و”باب مرّاكش و”باب أوروبا” و”باب تونس”. هذه الأبواب تمثّل الخط العام الذي انتظم مسار حياة أحمد الحجري. وقد تضمّن كتاب “ناصر الدين على القوم الكافرين” ثلاثة عشر بابا اشتركت مع رواية عبد الواحد براهم في ثلاثة أبواب من أبوابها الأربعة. فقد عنون بابه الأوّل بـ ” في ذكر ما وقع في في مدينة غرناطة” وحمل بابه الثالث عنوان “في بلوغنا إلى مدينة مراكش” واتصل بابه الرابع برحلة أحمد الحجري في أوروبا فعنون بـ”في قدومنا إلى بلاد الفرنج”. وبذلك فقد اختلفت الرواية مع النصّ المصدر في بابها الرابع، إذ لا نجد في كتاب أحمد الحجري وفي ما رواه من سيرته حديثا عن رحلة مّا قام بها إلى تونس.
*السرد :
قام السرد في رواية “تغريبة أحمد الحجري” على سرد بضمير المتكلم وهو النمط السرديّ نفسه المستعمل في كتاب “ناصر الدين على القوم الكافرين”. ولا شكّ في أنّ تفسير محاكاة الرواية النصّ المصدر النمط السردي إنّما يعود إلى قيامها مثله على اعتماد الشكل السيرذاتي في الكتابة.
*المكوّن الحدثيّ :
إنّ أغلب الأحداث التي تكوّن منها نسيج الرواية مشترك بينها وبين النصّ المصدر، يستثنى من ذلك رحلة أحد الحجري إلى تونس. ذلك أنّنا نجد في الرواية حضورا للأحداث الأساسيّة التي تكوّنت منها سيرة أحمد الحجري الذاتيّة : الولادة، التعلّم، السفر، المغامرات، المناظرات، اللقاءات بالرهبان والملوك.
*المادّة الفكريّة والدينيّة والتاريخيّة :
تضمّنت الرواية نصوصا مطوّلة كثيرا أخذت بحذافيرها من كتاب “ناصر الدين على القوم الكافرين”. فنجد في الرواية نقلا للنصوص الدينيّة المأخوذة من الإنجيل والتوراة التي استشهد بها أحمد الحجري وهو يحاور الرهبان المسيحيين ويناقشهم. واستعارت الرواية من الكتاب المصدر أيضا رسالة أهل الأندلس للسلطان العثماني سليمان القانوني، ومرسوم الملك فيلبيّ الثالث المنظّم لتراتيب تهجير الأندلسيّين إلى المغرب سنة 1609. وحوت الرواية كذلك المقاطع الطويلة التي ترجمها أحمد الحجري عن بعض الكتب القديمة.
هذه القرائن على محاكاة نصّ عبد الواحد براهم نصّ أحمد الحجري تبعث في نفس القارئ الانطباع بأنّ النصين متعالقان شديد التعالق، منصهر أحدهما في الآخر فكأنهما نصّ واحد في متنيين اثنين، وتدفع القارئ فعلا إلى الاستغراب والتساؤل : لماذا أعاد عبد الواحد براهم كتابة النصّ المصدر، نصّ أحمد الحجري ؟
بيد أنّ التمعّن في النصّ الروائيّ، ابن القرن الحادي والعشرين يبيّن لنا مظاهر اختلاف شديد بينه وبين نص ابن القرن السابع عشر.
ج – التحويل :
*السرد :
في كتاب أحمد الحجري ثمّة راو واحد بطل مهيمن على السرد هو مركز التبئير وكلّ ما يأتينا من معلومات نابع منه ومنته إليه. فكان التبئير تبئيرا داخليا بما أنّ الشخصيّة هي التي تروي. لكنه تبئير داخلي يرتدي كساء التبئير الصفري حينا والتبئير الخارجي حينا آخر بما أنّ الراوي الشخصيّة قد ينقلب راويا عليما بكلّ ما يتعلّق بدقائق العالم المرويّ، وقد يعجز أحيانا عن النفاذ إلى أعماق الشخصيات فيكون التبئير خارجيا وبذلك ضاقت مساحة الرؤية السرديّة كثيرا.
أمّا في رواية عبد الواحد براهم فلئن واصل أحمد الحجري هيمنته على السرد، فإنه قد تنازل عنها في مناسبات عديدة فاسحا المجال للشخصيّات الأخرى كالأم والأب وعبد الرحمان والمرأة التركيّة. وبذلك تنوّع التبئير وتعدّدت درجاته من تبئير صفري، فتبئير داخلي، وتبئير خارجي، وتعدّدت تبعا لذلك زوايا النظر.
ولعلّ تفسير ذلك يعود إلى عاملين : عامل أوّل يتعلّق بجنس الكتابة فنص أحمد الحجري سيرة ذاتيّة متمحورة حول الأنا الراوي الذي لا يستطيع أن يروي إلاّ ما يعرفه، بينما نصّ عبد الواحد براهم رواية تستثمر إمكانيّات سرديّة أوسع من تلك المتاحة للسيرة الذاتية. أمّا العامل الثاني فيتّصل بطبيعة العلاقة التي يرنو كل راو إلى بنائها مع قارئه. ففي حين غلب البعد الوعظي التعليميّ على علاقة راوي كتاب “ناصر الدين على القوم الكافرين” فكانت الرؤية ضيّقة أحاديّة الجانب، نزع راوي “تغريبة أحمد الحجري” إلى تغليب البعد الحواريّ في علاقته بالقارئ فجاءت الرواية متعدّدة الأبعاد متكسرة الزوايا.
*الخطّ الزمنيّ :
الخطّ الزمنيّ في نص أحمد الحجري واضح المسار يسير إلى الأمام أبدا، تحكمه في امتداده الخطيّ ذاكرة الراوي الذي يستحضر أحداث حياته صعودا من الماضي إلى الحاضر، ومن الطفولة إلى الكهولة، ومن لحظة الحياة إلى لحظة الكتابة. أمّا في رواية عبد الواحد براهم فالسرد يميل في كثير من الأحيان إلى تكسير خطيّة الزمن القصصيّ بالاستباق حينا، والارتداد حينا آخر.
*الأحداث :
لئن حافظ راوي “تغريبة أحمد الحجري” على الأحداث الرئيسيّة التي اشتمل عليها نص “ناصر الدين على القوم الكافرين”، فإنّه قد فسح المجال للتخييل الروائيّ ليضيف أحداثا جديدة لم ترد في النصّ الأصليّ. من ذلك الحادثة المركزيّة التي انطلق منها السرد في بداية الرواية وهي لعب البطل وأخيه خارج البيت، وحادثة قدوم أحمد الحجري إلى تونس وسفرته إلى تستور، وحادثة تزوّجه من تركيّة.
*الشخصيّات :
كثير من الشخصيّات التي كانت هامشيّة في نصّ أحمد الحجري ذكرت فيه ذكرا عابرا، أضحى لها في رواية عبد الواحد براهم دور بارز في الأحداث. ونذكر من هذه الشخصيّات الأم روزاليا والصديق عبد الرحمان والمرأة التركيّة. وقد أضاف الراوي شخصيّات لم يكن لها وجود في النصّ الأصلي منها شخصيّات “خيرو نيمو”، ومصطفى آغة، ومصطفى كردناش.
*الأسلوب :
يكاد الأسلوب في نص أحمد الحجري يكون سردا مطلقا قائما على اختزال الأحداث، ممّا جعله يسقط في العرض التقريري المباشر. أمّا الأسلوب في نص عبد الواحد براهم فقد استفاد ممّا يميّز أسلوب الرواية من تنوّع وتعدّد ومراوحة بين السرد والحوار والوصف، وتوظيف للحوار الباطنيّ، وتطعيم السرد بالشعر.
هذه القرائن على تصرّفات النصّ الناسخ في النصّ المصدر تؤكّد أنّ نصّ “ناصر الدين على القوم الكافرين” لم يكن إلاّ تعلّة لإبداع نص جديد، وليس منتهى غايته أن يعيد كتابة نصّ أحمد الحجري. وبذلك نجد أنفسنا بإزاء نصّ ثالث يسبح في برزخ رقراق متقلقل بين نص أحمد الحجريّ ونصّ عبد الواحد براهم.
3- تعدّد الأجناس الأدبيّة :
هذه الرواية نصّ جمع ونصوص تتواشج في ما بينها، وأطراف من أجناس أدبيّة مختلفة متنوّعة مشاربها، لكنّها في النصّ متآلفة متناغمة غنم فيها الروائيّ من رحابة الجنس الروائيّ واتساعه ومرونته ما سمح له بأن يحتضن في نصّه نصوصا شتّى وألوانا مختلفة من الكتابات.
أ – أدب السيرة الذاتيّة :
تحضر في رواية “تغريبة أحمد الحجري” عناصر فنيّة كثيرة تشي بانفتاحها على أدب السيرة الذاتيّة. فاعتماد السرد بضمير المتكلم، والتمحور حول شخصيّة مركزية تسرد سيرة حياتها كاملة من الولادة إلى الكهولة، وتحديد زمان الولادة ومكانها تحديدا دقيقا، والارتكاز على أحداث الطفولة المؤثّرة في تكوين الشخصيّة، والاعتماد على الذاكرة، كلّ ذلك يكشف أنّ النص الروائي قد استوعب النصّ السيرذاتي وأعاد إنتاجه بأدواته السرديّة والفنيّة نفسها.
ب – أدب الرحلة :
الرواية حافلة بوصف المدن والطرقات وذكر تفاصيل المناخ والتضاريس وتحديد المسافات الفاصلة بين محطّات الرحلة التي قطعها أحمد الحجري بين المدائن الأوروبيّة :”باريس هي دار سلطنة الفرنج وبينها وبين رُوان ثلاثة أيام. هي مدينة طويلة عريضة، بيوتها عالية أكثرها من أربع طبقات، وكلها عامرة بالسكان، وديار الأكابر من حجر منجور قد اسودّ لونه لطول الزمن. يقول النصارى إنّ أعظم مدن الدنيا القسطنطينيّة ثم مدينة باريس ثم مدينة لشبونة”[11]. ويصف في موضع آخر من الرواية جولته بين القرى الأندلسيّة في تونس :”بعد مرورنا بعدد من القرى الأندلسيّة المنشأة حديثا مثل نيانو وتركي وبليّن وصلنا إلى قرنبالية فلم تقع عيني فيها إلاّ على خضرة الزياتين المصفوفة باستقامة كأنّما خطّت بالمسطرة وعلى الأرض الطريّة المشغولة بالفؤوس حتّى هشّت ولانت وبينها أحواض الخضر المبلّلة بماء يجري قربها في قنوات، يتابعها النظر فيراها منحدرة من حنايا ذات أقواس تأتي إلى المزرعة من جبل قريب مجاور”[12].
ج – الوصف المعماري :
ازدحمت الرواية بمقاطع كثيرة توقف فيها خطّ السرد وانقلب الراوي وصافا دقيقا ذا خبرة طويلة بالمعمار، تسنده ثقافة تاريخيّة وجغرافيّة وحضاريّة عميقة جعلته قادرا على التمييز بين طرائق البناء ودلالات المواد المستعملة وأشكال المعمار. فوجدنا في فصل “ذكر قدومنا إلى باريس”[13] وصفا مطوّلا لطرق البناء في فرنسا، وكذلك فعل في وصف معمار هولندا في الفصل المعنون “في ذكر بلاد هولندة”[14]، وأطال في وصف قلاع اسبانيا، وفي فصل “تونس على أيّام يوسف داي”[15] وصف بدقة المعالم الإسلاميّة في تونس في تلك الفترة.
د – المناظرات الدينيّة :
في الحوارات الكثيرة التي جمعت أحمد الحجري بالرهبان المسيحيّين واليهود والمنجّمين مادّة دينيّة وفكريّة ثريّة جدّا على جانب كبير من الدقّة والعمق تعود مصادرها إلى النصوص الدينيّة الأولى، التوراة والإنجيل والقرآن”[16].
على هذا النحو من انفتاح الرواية بل قل “أكلها” أجناسا أدبيّة أخرى، ينقلب النصّ الروائي التخييلي محفلا وملتقى للأجناس الأدبيّة. ومثلما أنّ أحمد الحجري كان يسافر من بلد إلى آخر ويعبر من بحر إلى آخر، كذلك كان المؤلّف عبد الواحد براهم يتنقّل من جنس أدبيّ إلى آخر، ويعبر من ضرب من ضروب الكتابة إلى آخر.
وكان ثمرة كلّ ذلك أن غنم النص الروائي تعدّدا وثراء معرفيّا وتنوّعا في وجهات النظر وتناغما بين تعدّد مصادر المعرفة من جهة، وتعدّد أبعاد الرؤية الفكريّة والإيديولوجيّة التي يكرّسها النصّ للعالم من جهة أخرى.
4– محاورة التاريخ :
أ – الطابع التاريخي:
صلة رواية “تغريبة أحمد الحجري” بالتاريخ واضحة ثابتة لا لبس فيها ممّا يسمح لنا بيسر أن ننعتها بالرواية التاريخيّة. ومظاهر هذه الصلة عديدة نذكر منها:
-
الشخصيّة الروائيّة ذات حضور مرجعيّ تاريخيّ.
-
الأطر الزمانيّة والمكانيّة أطر تاريخيّة تحضر في النص التخييليّ بصفاتها القديمة.
-
الأحداث القصصيّة منصهرة في أحداث تاريخيّة معروفة.
-
عدم توقف الراوي عن تقديم معلومات تاريخيّة هي بمثابة الأوتاد دورها أن تجذّر النصّ التخييليّ في تربة الماضي. وقد تعلّقت هذه المعلومات بأسماء الملوك وذكر الحروب وتحديد التواريخ الزمنيّة الشهيرة والحاسمة في حدوث التحوّلات الكبرى سواء في حياة الراوي أو في تاريخ الأندلس والمغرب كقول الراوي :”ولدت عام انهزمت ثورة غرناطة ووضعت السلاح وأخرج المسلمون منفيّين إلى قشتالة وغيرها مسلوبين، مصادرةً أموالهم وأملاكهم. وصار عمري عاما عندما انهزم الأتراك العثمانيّون في معركة “ليبانتي” وبلغت العامين عند افتكاك الإسبان لتونس من العثمانيّين. وانتظرت مع بني قومي نجدة وعد بها الأسطول العثماني. لكنّها لم تظهر في صيف 1577 ولا في شتاء 1578 ولا في ربيع 1579″[17].
-
ازدحام الرواية بأسماء الأعلام التاريخيّين كهنري الرابع، وفيليب الثاني والثالث، وألفونس فرديناندو، وايزابيلا، وعثمان داي، ومصطفى آغة…
إنّ هذه القرائن تتضافر لتشدّ النص إلى حضن التاريخ والمرجع وتؤكّد أن التاريخ هو المصدر الأوّل الذي استند إليه المؤلّف. ولكن رغم ذلك فالنصّ روائيّ تخييلييّ بالدرجة الأولى. يشهد على ذلك ما رأيناه من حضور واضح لا لبس فيه لأدوات السرد الروائيّ من مراوحة بين السرد والوصف والحوار، وتنويع في أشكال التبئير، وتوسعة لدائرة الرؤية، واستثمار للحوار الباطنيّ. بيد أنّ إجراء فنيّا آخر عمد إليه راوي “تغريبة أحمد الحجري” غلّب الطابع التخييليّ في النصّ، ومكّن المؤلّف من محاورة التاريخ لا نقله، ونعني بهذا الإجراء : تخييليّة التاريخ.
ب – تخييليّة التاريخي :
اتخذ تخييل التاريخي[18] في الرواية وجهين : إسناد أحداث تخييليّة إلى شخصيّات تاريخيّة كإقدام السفير “بلاّش” على تيسير أمر تهريب أحمد الحجري المرأتين التركيتين اللتين تعيشان في رعاية ملكة فرنسا من باريس إلى لاهاي[19]. أمّا الوجه الثاني وهو مقابل للوجه الأوّل فهو : إسناد أحداث تاريخيّة لشخصيّات تخييليّة. من ذلك منح الراوي مصطفى كردناش وهو شخصيّة تخييليّة لا وجود لها في كتاب “ناصر الدين على القوم الكافرين” ، مكانة رفيعة لدى يوسف داي جعلته صفيّا له ومستشارا في اتّخاذ قرار الحرب :”أما عن يوم المعركة فقال الحاج مصطفى :”دعاني يوسف داي في الصباح الباكر فوجدت الوزير عليّ ثابت سبقني عنده وكان في حال من الغضب لا توصف. اندفعت الأوامر من فمه قاطعة عاجلة : استنفار جميع القادرين على السلاح، جلب كلّ العساكر من المدن القريبة، طلب المساندة من قبائل البدو وخاصّة أولاد سعيد(…)”[20].
ج – لماذا استدعاء التاريخ ؟
من المؤكّد أنّ الأهمّ من إثبات صلة الرواية بالتاريخ هو أن نتساءل عن رؤية المؤلّف لعلاقة الرواية بالتاريخ، وغايته من استحضار التاريخ. فهل كانت رؤيته رؤية المؤرّخ ؟ وهل كانت غايته غاية المؤرخ ؟ هل التاريخ هنا مادّة للقصّ والرصد والتحقيق الموضوعي كما هو الشأن عند فريق من المؤرخين؟ أو إنّ التاريخ مادّة للاعتبار والاتعاظ وتأمّل أحوال الأوّلين كما هو الشأن عند فريق آخر ؟ أو إنّ للمسألة وجها آخر مختلفا تماما ؟
إنّ تأمّل طريقة التعامل مع التاريخ في رواية “تغريبة أحمد الحجري” يؤكّد أن استحضار التاريخ في هذا النص لا يهدف إلى عرضه ولا الاعتبار به، وإنّما غايته الأولى محاورته ومناقشته وطرح أسئلة الحاضر وهواجس الذات اليوم في مطلع القرن الحادي والعشرين.
يبدو ذلك واضحا في خصائص الفترة التاريخية المختارة مهادا للسرد : فهي لحظة زمنيّة اتّسمت بضعف جزء مهمّ من العرب (الأندلس) وانهيار حضارتهم، مقابل تجبّر الغرب وتنّمره وعبثه بحقّ الآخر في الاختلاف وفي أن تكون له لغة خاصّة به ودين يميّزه.
على أنّ هذا الضعف لم يكن مقتصرا على الأندلس فقط. فلم يسلم بقيّة العرب في مغارب العالم العربيّ ومشارقه ممّا حاق بالأندلسيّين من تشرذم وتشرّد. فما حلّ أحمد الحجري ببلد من بلاد العرب حتّى لمس آثارا لتصدّع البلدان وتفتّتها، ورأى احتدام الصراع الداخليّ بين العرب أنفسهم كشأن المعركة بين الجزائريين والتونسيّين التي قادته الصدف بأن يعيش معمعانها.
في الطرف الآخر من العالم، نرى في الرواية اشتداد نزعة رفض الآخر لدى الغرب وتنامي العداء لكلّ ما مثّل اختلافا عمّا يعتنقه الغرب من دين وفكر ورؤية للعالم. وكان تجسيد كلّ ذلك تدمير الإسبان للمعالم الإسلاميّة في الأندلس، واضطهادهم المسلمين واليهود، وتقتيلهم كلّ من تكتشف محافظته على إسلامه ولغته العربيّة، ومصادرة حريّة الرأي والتعبير، والتعامل المصلحيّ المنفعيّ مع عدد ضئيل من سكّان الأندلس هم أولئك المترجمون فقد استبقتهم السلطات الإسبانيّة ومنعتهم من مغادرة الأندلس بغية استغلالهم لترجمة ذخائر خزائن الكتب العربيّة. ولن يخفى عن القارئ هنا تشبيه المؤلّف تصرّف الإسبان مع المترجمين في القرن السادس عشر بتصرّف الغرب اليوم مع العلماء العرب الذين يغريهم بالاستقرار في مختبراته وبلدانهم، قاطعا الصلة بينهم وبين أوطانهم العاجزة أصلا عن أن تقدّم لهم شيئا.
ولنا أن نقيس على علاقة التشابه هذه كلّ المعطيات التاريخيّة الأخرى التي انتقاها المؤلّف انتقاء. ذلك أنّه لا يقف من التاريخ موقفا موضوعيّا، بل إنّه ما حصر الزمن القصصيّ في هذا الحيّز التاريخيّ المرجعيّ إلاّ لشعوره بالتشابه بينه وبين الفترة التاريخيّة التي يعيشها هو بوصفه تونسيّا عربيّا مسلما في نهاية القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين. فسعى كلّ جهده أن يبعث القارئ على الانتباه إلى علاقة التشابه والتقاطع هذه بين زمن القصّة، الزمن التاريخيّ المرجعيّ، والزمن الروائيّ التخييليّ، وزمن الكتابة المرجعيّ. وقد أشار محمد القاضي في دراسة له اتخذت رواية “تغريبة أحمد الحجري” مدارا لها، إلى هذا التوظيف المخصوص للتاريخ في تضاعيف النص الروائي فقال:” ما لا يمكن ان نغفله هو قدرة المؤلف على تحيين النص التاريخي واستدعائه لا من باب إحياء الماضي من منظور سلفي، ولا لإعلائه حتى يغدو صورة للحقيقة المطلقة التي تقنع الرواية بدور التعريف بها والدعوة إليها، بل استجابة لقضايا العصر الكبرى قضايا التسامح والحوار وإن كانت لغة العنف اليوم لا توفر المجال لذلك”[21]
على هذا النحو فالانفتاح على التاريخ انفتاح كنائيّ دوره الإشارة إلى الماضي لا لمعرفته أو الاتعاظ به، بل لاتّخاذه مرآة تكشف أدواء الحاضر. ويبدو ذلك صريحا في نزوع الراوي إلى التعسّف على التاريخ سالكا مسلكا ثانيا معاكسا لمسلكه الأوّل، فتحوّل من نقل الماضي إلى الحاضر، إلى نقل الحاضر إلى الماضي معتمدا الإسقاط التاريخيّ. وذلك بتحميل أحداث الماضي أبعادا ودلالات حضاريّة حديثة هي ابنة الحاضر وذات صلة بقضايا فكرية وسياسيّة ودينيّة وفلسفيّة لم تظهر إلاّ مع القرن العشرين. وبذلك رأينا أحمد الحجري ابن القرن السادس عشر يتحدّث عن حريّة التفكير ويجعلها شرطا أساسيّا لتحقّق الازدهار الاقتصادي. وقد اتّسم أحمد الحجري طيلة الرواية بخصال التسامح والرغبة في محاورة الآخر والاقتراب منه والأخذ عنه بما يجعله أقرب إلى مفكّر تنويري من مفكري تيار الإنسانويّة الغربيّة الحديثة منه إلى فرد ينتمي إلى القرن السادس عشر، هذا فضلا عن أنّ أحمد الحجري الشخص التاريخيّ صاحب كتاب “ناصر الدين على القوم الكافرين” بعيد جدّا عن التحليّ بهذه الخصال. ونراه في سياق آخر يتكلّم بلسان مصلح عربي من مصلحي عصر النهضة في أواخر القرن التاسع عشر، ناقدا انتشار مذاهب التصوّف واستفحال الشعوذة في المجتمعات العربيّة، ساخطا على انشغال العلماء المسلمين بالمناقشات الفقهيّة الجانبيّة وتركهم مهمّة إصلاح الأحوال ومقاومة احتلال النصارى للثغور. ومرّة أخرى نلفيه يتحدّث عن إخوانه الأندلسيّين المهجّرين، فيستعمل مصطلحا حديثا غريبا عن زمنه هو “الشعب”: “قلت لعبد الرحمان : ماذا جرى لشعبنا حتّى انحطّ إلى هذا الدرك الأسفل ؟
-
هل نسيت جحيم ديوان التفتيش وما تركه من تشوّهات في النفوس والأرواح ؟ ثم ما هذه غير فلول وذيول من شعبنا، غابت عنها الرؤوس المفكّرة والعقول المدبّرة.
-
بل اختفت منها القيم الرابطة والقواعد الضابطة. فهم وإن سكنوا مدينة اسمها الرباط، فهم حزمة بلا برباط”[22].