سيبقى الأمر سراً محفوظاً في مفاصل صناعية أوصلت بركبتي خواكين.
وفد الناس في اليوم التالي للحادثة إلى منزل دونيا إلينا، العجوز التي تقطع عشرة كيلومترات يومياً لشراء حبوب القهوة من المزارع المحيطة ببلدتها ريميذيو، لتبيعها للأهالي بخمسين بيسو كوبيا. تُعرف دونيا إلينا بسيدة القهوة وأحياناً بالحانوتي، لأنها تملأ كميات القهوة في أكياس بيضاء غير شفافة خوفاً من افتضاح أمرها لدى السلطات، التي تمنع الأعمال الخاصة. الجميع يعلم ذلك، بمن فيهم السلطات، رغم أن أفرادها يشترون من دونيا إلينا خارج أوقات العمل، لكن ادعاء الخوف من السلطة بالنسبة للسلطة يبقى أمراً مطلوباً في كوبا أو الجزيرة، كما يحلو لأبنائها تسميتها.
يلقّبها أليخاندرو بـ”صاحبة الجثث الحية”، ويسمي قهوتها بـ”المنبعثة” حين يخرجها من كفنها ويضعها في آلة القهوة فتفوح رائحة القهوة الكريولو التي لم تمر على آلات قبل آلته تلك. توجَّه أليخاندرو كغيره من أهالي البلدة لدونيا إلينا آملاً أن يعرف منها ما حلّ بخواكين، لكنه كان آخر الزائرين؛ فقد توقّع أن يكون بيتها ممتلئاً بالناس في مناسبات كهذه حيث الخبر اليقين يحوم حول شوالات القهوة في مطبخها الصغير. مد أليخاندرو يده بالخمسين بيسو طالباً منها أوقية قهوة.
⁃ سأحضرها الآن لكن عليك أن تعلم ألا أخبار لدي. خواكين يرفض الحديث.
كان أليخاندرو مندهشاً من حديثها. فالجرائم عندهم نادرة الحدوث لا تتعدى المشاجرات القليلة، أما البوليس فهو موجود بأشكال كثيرة؛ عاملة نظافة في مدرسة أو مدير مكتبة أو رجل دين أو نادلة في حانة.. كيف لم يظهر بعد ذلك الشخص الذي ربط ساقي خواكين بسكة القطار الذي سيسير عليهما ويقطعهما دون أن يكون قادراً على سماع صرخات خواكين، آخر أشكال تنفيسه عن وجعه. همَّ أليخاندرو بالخروج، كانت دونيا إلينا تعلم أنه لا يحتاج القهوة، فقد اشترى منها أوقيتين بالأمس، وهكذا أحبّت أن تعوّضه عن خسارته كغيره من الأهالي، وتطوّعت بالتخمين.
⁃ اجلس يا أليخاندرو، سأصنع لنا فنجاني قهوة. أنا أثق بك أكثر من الآخرين. تبسّم لها أليخاندرو، واعترف لها بفضوله واهتمامه بأن تقتص العدالة من الفاعل. حدّثها أنه وفي طريقه إلى بيتها، التقى الطبيب باتريسيو، وكان من بين المسعفين، ومن أخبره أن الشرطة تواجدت معهم في المكان وأن دافيد، الشرطي المسؤول، لم يتوقف عن سؤال خواكين: من فعل هذا بك؟ رغم أن المسكين كان فاقد الوعي.
– لن يصرِّح. قالتها إلينا بلهجة حاسمة.
– لِمَ؟
– لم أرغب بالحديث عن هذا أمام الجميع، لكن -الله وحده يعلم- أن هذا انتقام.
– ….
– يقولون إنه كان على علاقة مع كارمن زوجة غييرمو، وإن الأخير من فعل به ذلك، وإنه قرّر الصمت كي لا يفتح عليه نيران زوجته، ماريا.
– لكن كارمن وغييرمو ليسا زوجين كما أنهما منفصلان منذ سنتين.
– نعم، بسبب خواكين.. انتقام مؤجَّل.
– ….
– هذا ليس كل شيء، قال ميغيل، إن المسؤول عن قطع ساقيه هو خواكين نفسه، وقد ربط نفسه بسكة الحديد تحت تأثير الخمر لأن فكرة الانتحار تحت عجلات القطار كانت تراوده وهو في عقله، لكن السكر الشديد حال دون أن يدرك أنه يقتل ساقيه فقط بينما سيظل عقله وذاكرته على قيد الحياة يستذكران دوماً كيف تحوّلت هاتان الساقان خلال عدة دقائق لسكة قطار لحميّة.
– ….
– الله وحده يعلم، لكن أندريا تقول إن ميغيل بوليس سري وإنني يجب أن أشكّ في ما يقول، ماذا يهمني أنا؟ قالت غارسييلا إنه لا بد أن شفيعة خواكين غاضبة منه. لطالما كان يعلق صورتها على جدار منزله لكنه استغنى عنها مؤخراً لأن مدير المصنع الذي يعمل بِه ملحد وقد سخر منه حين رأى الصورة (لوت شفتيها حين قالت ذلك ورفعت نظرها للسماء) الله وحده يعلم أن هذا عقاب إلهي.
يعيش خواكين في منزله بالشارع الخلفي لمنزل والديه، مع زوجته وولديه الصغيرين. حين نقلوه للمشفى كان فاقد الوعي، وفِي الأيام التالية كان المقدم دافيد شبه مقيم عنده، بالكاد يغادر المكان حين يلح عليه الأطباء بوجوب الانصراف. طلب المقدم دافيد رؤية ساقي خواكين، نزع الحذاء وتفحَّصه، تفقد اسم العلامة داخله وعلى النعل، نمرة الحذاء، 43. أعاده إلى كيس البلاستيك الذي تُجمع فيه الأدلة ولم يكن من دليل على الجريمة سوى ساقي خواكين المبتورتين وحذاءيه. أسرع لخواكين مستجوباً: كيف حصلت على الحذاء؟ هل أحضرته من إسبانيا؟ هل أرسله لك أحدهم؟ هل اشتريته مهرّباً…
ظنّ الأهالي أن الصدمة أثرت على ملكة النطق لدى خواكين، فبعد تلك الصرخة التي وصفها ناظر المحطة بأنها أعلى من صوت القطار، لم يُسمع لخواكين صوت خلال الشهر الأول من وقوع الحادثة، وحين نطق لم تصدر عنه سوى كلمات قليلة يردّدها عند الحاجة. كان أنينه همهمة، لم يبك ولم يصرخ ولم يبدُ على وجهه غير التجهم. وخلال عام، كان خواكين قادراً على المشي بتمايلٍ سببه أطرافه الصناعية. اتخذ من صالون بيته الصغير دكاناً يبيع فيه الحلوى التي يصنعها بنفسه. لم يعد يجرؤ أحد على سؤاله “من فعل هذا بك”، فهو بالكاد يتحدّث، حتى المقدّم دافيد أغلق ملف القضية بتأكيد أن ما حلّ بأطراف خواكين لا علاقة له بالأمن القومي، وبأمر نافذ منه، لم يعد الناس يتساءلون عن الفاعل، صار منظر خواكين مألوفاً وهو يسير وحيداً في شوارع البلدة ببنطاله الجينز الأزرق العريض وقميصه الأخضر وكأنه جزء مقتطع من جدار بيت في ريميذيو.
تبيع دونيا إلينا الآن ملابس مهرّبة إلى جانب القهوة لأهالي البلدة. همست مرة لأليخاندرو أن الوحيدين اللذين يكثران من شراء البناطيل الرجالية القصيرة هما دافيد وغييرمو. تأمّلها أليخاندرو وهي تلفظ تلك الكلمات بحذر ووجّه نظراته للأسفل، نحو ساقيه، وتمتم: وأنا.