خاص- ثقافات
*لالة مالكة آية العلوي
ديوان “أثر الفراشة” أفق يمتاح ألقه من تحويل قيم الحياة إلى بحث مستمر عن تفكيك حدود الأنا، لما للأثر من وقع ورشم في حقيقة الوجود الإنساني بما يتلبسه من تناقضات وانكسارات وما يهيج به من طموحات واستشرافات,
الفراشة.. هذا الكائن الساحر بجماله وروعة ألوانه وخفة حركته وبدلالته الرمزية في ثقافة الشعوب ومعتقداتهم، حتى أن الإغريق كانوا يعتقدون أن الروح تخرج من الجسد في شكل فراشة، أمام هذا العنوان المثير والمستفز في نفس الآن، يطرح السؤال : ” أنى لكائن صغير بحجم فراشة أثو أو تأثير؟”
ومع هذا السؤال، تستوقفنا هذه المقولة :
” عندما ضاع مسمار حدوة الحصان، ضاعت حدوة الحصان،
وعندما ضاعت الحدوة، ضاع الحصان.. وعندما ضاع الحصان، ضاع الفارس..
وعندما ضاع الفارس، ضاعت الرسالة التي كان يحملها الفارس..
وعندما ضاعت الرسالة، ضاعت المعركة، وعند ضياع المعركة.. ضاعت المملكة.
أي أن ضياع المملكة، كان سببه ضياع حدوة الحصان، لهذا يوقفنا العنوان لننهل من مجموع الثقافات التي تشكلت منها شخصية شاعرنا العربية الإسلامية والغربية، ليبثنا إياها كؤوسا سانيات، شذرات.. شذرات بين دفتي ديوانه، ونقف على المغزى المستبطن هنا، والمؤكد على عدم الاستخفاف بأبسط الأشياء وأقل الأعمال، حتى وإن بدت صغيرة ولا تساوي شيئا.. إلا أن لها أثرا وتأثيرا عميقا، يفاجئنا بحجم التغيير والتحول الذي يتركه/ لنستحضر بوقار قول الإمام علي :
دواؤك فيك وما تبصــر
وداؤك منـــــك وما تشـعر
وتحسب أنك جرم صغير
وفيك انطوى العالم الأكبر
ألا يستحق هذا العالم الأكبر أن نستكشفه قليلا؟ ربما نبحر فيه أكثر وننهل منه الكثير.
ولأن القيمة في الكتابة سر الحكمة، والحكمة قراءة لما ورائيات الحياة، ولأن جمال الكتابة الأدبية في قدرتها على تقليص المسافة بين الواقع والمتخيل، في تركها للقارئ مساحة لإدراك أو توقع تلك المسافة وتحديد حدود الخيال وحدود الواقع في أن يصوغ أمامنا الكاتب/ الشاعر مشاهد حقيقية بشكل غير مباشر، مما يجعلها تعكس الواقع، ولكنها ليست واقعا بل وجودا مستقلا، لأجل هذا وذاك، تمنطقت بضرورة الحرص على الحبل السري لقراءتي هذه رغم تشريحي للديوان، من منطلق عناوين القصائد وتسلسلها فقط، والذي أرجو أن لا ينظر إليه على أنه قتل للقصيدة، كونها جسدا حيا ينبض، فقد منحني هذا التشريح، أنا القارئ، حيوات في عمق حياة القصائد المتضمنة لانغمس في سبرها وكلي شغف وانبهار ورهبة في نفس الآن، متجنلة بكون الشعر حمال أوجه وخير الشعر ما كثرت أوجه تفسيره وأوجه الخلاف حوله.
من هذا المدى المفتوح وقلق السؤال وبذار الكمون، تشرئب العناوين من على الصفحات، لتتلبسك القدرة على الصمود والاقتفاء اللازمين لمراحل السيرورة التي ينافح عنها شاعرنا المدى، وهي المسؤولية التي تستمر رغم كل المتغيرات، لتتوزع الديوان خمسة فصول تنهل من المثيولوجيا الإغريقية، ومن عمق أصالة الشعر الإسلامية ومن مخاض معيش الإنسان بين واقع كائن وواقع مأمول.
خماسية الفصول في أثر الفراشة
لا بد من الوقوف على رمزية العدد خمسة التركيبية، كومه الحصن الحصين لما له من صفة سحرية في المعتقد الشعبي، يرتبط بعدد أصابع اليد ودلالة البسط والقبض، وبالمعتقد الديني حيث الصلوات خمس، ومون أول سورة نزلت بآياتها الخمس، كما يرتبط العدد خمسة بالإنسان، من حيث التأثير والدلالة، بالوقوف تحليلا على دلالة عدد المرات الخمس التي ذكرت بها لفظة الناس في سورة الناس، والمغزى من تجميع أعمال الرحمة الخمسة في ( إطعام الطعام وإرواء العطشان وكسان العريان واستقبال الغرباء وعيادة المرضى ) إذن اختيار الفصول الخمسة لم يكن اعتباطيا بل مرتبط ارتباطا وثيقا بمرجعية وبأفق يتطلع إليه الشاعر ويستبطنه في ثنايا قصيده …
تؤسس رأسية الخماسية في الديوان بأسماء آلهة مستلهمة من الميثيولوجيا الإغريقية بدء من :
• فصل ديونيسوس : حيث دورة الحياة تبدأ بالمخاض الذي ارتأى شاعرنا أن يتوجع تفاصيله باسطورة حياة جنينية لم تكتمل في رحم الأم لتنمو تشكلا في فخد الأب، ويتمخض الحمل الثنائي اثنتي عشرة قصيدة ترفل في الجنون والفوضى وتتغيا النشوة والانتشاء، لتصدر أصواتها المجنونة الراكضة إلى ما لا نهاية وتقرر انفصاما في الذات التي تسبح مشيا في زمن تأبى فيه عدم التوقف.
ومن عمق هذه الفوضى، يظهر تلقائيا نظام خاص ليس صعبا الكشف عنه والقبض عليه.
فصل ديونيسوس بركاني الفورة.. هو المخاض والانبلاج والانبثاق، يطالعنا من خلاله الشاعر ليعكس مرآة روحه الجنينية المعبرة عبر كيمياء شعري مفعم باللوعة وخيبة الأمل، ورغم الخسران يروم من عمق روحه الإنسانية التحاما وانعتاقا ( تريد أن تطير/ الجري على الحدود / المشي في الزمن … )
• فصل هاديس : يطل علينا بفكرة الموت.. الحتمية التاريخية والقاعدة التي لا تقبل استثناء، وعبر العناوين العشرة، تستبطن الذات الإنسانية نوحا خفيا وبكاء صامتا ونداء غامضا شبيها بتراتيل الكنائس وهمس المظاليم.. تحمل من الشجن واللوعة ما يحرك دواخل القارئ بعمق مفعم بالغموض، ممزوج بالرهبة.. رهبة النزيف والتيه والموت، ليرج الصمود في القصيدة الأخيرة رجا، بأمل تدفق النهر من جديد.. فهل هي إرادة صريع ؟ أم عزيمة مؤمن ؟ أم الرغبة في الحياة الحتمية التي يؤكد من خلالها الشاعر أن أكبر عمر للإنسان هو يوم ولدته أمه… للوقوف على سنن أزلية في ناموس طبيعي غير قابل للنقض لمصلحة وضعها خالقها عز وعلا.
• فصل إيروس : يهل علينا الشاعر بلغته الشكسبيرية المفعمة بلغات مخلوقات تهيم في السماء، تنهل من أفلاطون حكمته الأيروسية باعتبارها قوة عظمى تحرك النفس إلى الخير، وتتوسط المعرفة والجهل مؤكدة أن الإنسان الذي لا يشعر أنه ناقص لا يمكنه أن يحب الحكمة .
• الفصل الرابع : أبولو: يستمر الاستمطار الشعري بوحا بين مد وجزر يستصرخ صوت الحكمة بين حلم بالطفولة وتطلع إلى الرجولة الحقيقية، واستشراف الآتي بكل أفراحه.
• الفصل الخامس/ الهايكو : بابتسامة وارفة وتلويحة متماوجة بأريج يسرج صهوات الدروس للحياة الجديرة بالمحبة يمد الشاعر بلخالفي يده لقارئه بباقة شعرية جياشة المشاعر، عميقة الأحاسيس مع شعر الهايكو ..
خماسية الفصول تعمق البصيرة بما هي مغامرة لإعادة تشكيل رؤية خاصة.. تشهد للوارف في خضرتها، القادم من علياء مداها، على صوغ دلالات أخرى لمعنى الحياة ..
خماسية الأبعاد في أثر الفراشة
يستمر أثر الفراشة خماسية مرادفة لصخب الربيع، لتحط على جسد الديوان خماسية الأبعاد :
1. البعد الزمكاني : في تلاقح الذات مع الطبيعة لانتزاع واقع مأمول من واقع محبط متآكل، يلفه السواد والتيه
2. بعد اللون والصوت : تتجاوز الغسق لتتنازع ذات الشاعر تأرجحها بين الغموض والجنون والحكمة والنصح، بين السواد كآبة وأناقة والصوت جنونا وحكمة .
3. البعد القيمي : في البحث المضني عن تشكيل لوحة فنية يرتقها الشاعر بمجموعة من القيم التي تطبعها الكآبة والسوداوية ( البغض/ الرجس/ الخسارة / الكرامة المسروقة/ الهروب / الحب المشكوك فيه … )
ليستقبلنا الشاعر على حديقة قلبه حيث ورود الحب والفراشة التي يرجوها مليكة… لإشاعة الحب والمودة ومناشدة السعادة والرغبة بالتسامح والسلمية…
4 . بعد الحركة : حيث تحضر هذه الأخيرة إيقاعا ينزع نحو الخلاص والانعتاق/ يروم التحول معنى للحياة ورمزا للوجود,, يرتبط هذا البعد ارتباطا جدليا مع البعد الخامس
5 . بعد الكائنات : الواردة في الديوان، حيث الذات الإنسانية في تمردها وانشطارها بين التحدي والاستسلام . هذا البعد تجسده الطيور بكل ما اتسمت به العلاقة بينها والإنسان منذ القدم في الأساطير القديمة وتراث الشعوب وثقافاتهم، لما للطيور من رمزية دينية ودنيوية عميقة ترتبط بالحياة مابعد الموت، كون عالم الطير مصدرا خصبا ورمزا استلهام يحاكي مشاعر الإنسان ونفسيته ودلالة سلوك الطير المعبر عن عوالم ملآى بالأسرار والغموض، تقلق الإنسان وتشعره بالعجز أمامها فيكفي أنها – الطيور – حسب جوزيف كامبل – ” رمز تخلص الروح من عبودية الأرض ”
وهكذا تحضر : البوم بالتوجس والتطير / والطيور رغم السذاجة والإكراهات تقاوم بإرادة لتطير وتعلو/ والنسر بشموخه الذي تتطلع إليه الروح الإنسانية للانتصار سموا والرفعة علوا.. / والفراشة بألقها تصر على أن تواصل ترحالها في جديقة القلوب تنشد الفرح وتراقص الريح وتنط رجات وذبذبات تهيج وتموج وتمور وتثور في خفة ضاجة تنبذ السكون وتتحدى الموت خلاصا..
ويؤوب بنا الشاعر بعد كل هذا التطواف المكثف والعميق برمزيته الخاصة والمغرقة في الخصوصية في طقوس نبرات نبرات متشائلة اشبه بتربة الورد، تنأى بالنار وتستحيل إلى فراشات تقوى على البوح في العتمة .