في العودة إلى ذكريات رمضان، كما تجلت في كتابات عصور أقدم من العصر الراهن، تتلامح صور ثقافة أبعد غوراً وأعمق مما نشهده في زمننا هذا. صحيح أن كتاب د. حسين مجيب المصري (1916- 2004) المعنون «رمضان في الشعر العربي والفارسي والتركي» قدم صوراً ثقافية ذات أفق مقارن أوسع، أبرزت أهمية رمضان في التراث الإسلامي الحضاري بشكل عام، والأدبي على وجه الخصوص، كما تحاول إبرازه كتب ومقالات في مجالات أخرى، من قبيل كتاب د. مصطفى السباعي (1915- 1964) المعنون «أحكام الصيام وفلسفته»، أو البحث عن أصول بعض مظاهره مثل الفوانيس المضاءة في السحور، ومواكب الأطفال.. وما إلى ذلك، إلا أن مفهوم «الثقافة» يتجاوز هذه الجزئيات إلى الثقافة الرمضانية بوصفها سلوكاً وممارسة حية، أي ثقافة يجسدها الناس في الاستعداد لأيام هذا الشهر الفضيل منذ منتصف شهر شعبان، وحتى العشر الأواخر منه، في غدوهم ورواحهم ومعاملاتهم.
ذكريات المسلمين الأوائل تناولت الجانب الثقافي كما هو في الممارسة، وهذه أول العلامات الفارقة بين تفكير أناس الأمس وأناس اليوم، كما لاحظت التنوع والغنى والفوارق في الاحتفاء والتعبير بين هذه الجغرافية الإسلامية وتلك، وهذه ثاني العلامات المميزة. ويمكننا أن نضيف فارقاً ثالثاً لانعدم من يلحظه في هذه الأيام وهو طغيان الثقافة الاستهلاكية حتى على أيام رمضان المفترض أنها أيام صوم قبل أن تكون أيام استهلاك للطعام وتفنن في إعداده وتقديمه، بينما لم يكن لمثل هذه الثقافة هذا الحضور الفج في الماضي البعيد، بل كانت العناية بالمأكل والمشرب أقرب إلى اللمسات العابرة الهامشية على أطراف أيام ونهارات مشغولة بما هو أكثر أهمية كما سنرى.
الأمثلة عديدة، إلا أننا سنكتفي بمثلين يفصل بينهما قرنان من الزمن تقريباً؛ ذكريات الرحالة ابن جبير (1144- 1217م)، ومشاهدات الرحالة ابن بطوطة (1304- 1377). من يقرأ ماكتبه هذان المترحلان بين بلدان العالم الإسلامي في تلك العصور طوال سنوات، يدرك مباشرة أنهما ينقلان نقلا حياً ظاهرة ثقافة روحية واجتماعية وسلوكية واحدة، ولكنها على جانب كبير من الثراء والتعدد الناجمين أولا عن مرونة التعاليم الإسلامية وتكيفها مع تنوع واختلاف الجغرافيات، وثانياً عن اختلاف البيئات واللغات وأساليب العيش. إضافة إلى هذا نجد أن هذين المترحلين لايفتقران إلى حس بالنهج المقارن، فيلاحظان الفروق والاختلافات بين الأمكنة والأزمنة في المأكل والملبس والمذهب، ويتفهمان الفروق والاختلافات، وهذا هو الأهم، ولا يحملانها على محمل الشذوذ عن معيار ما، ولا يتعصبان لما اعتادا عليه وألفاه.
* * *
يبدأ ابن جبير نقل ما ينقله من واقع شهوده الفعلي ليلة النصف من شعبان، فيقدم وصفاً لهذه الليلة المعظمة عند أهل مكة كما يقول:«فهم يبادرون فيها إلى أعمال البرّ من العمرة والطواف والصلاة أفراداً وجماعة، فينقسمون في ذلك أقساماً مباركة». ويضيف «فشاهدنا ليلة السبت، التي هي ليلة النصف حقيقة، احتفالا عظيماً في الحرم المقدس إثر صلاة العتمة، جعل الناس يصلّون فيها جماعات، تراويح يقرأون فيها بفاتحة الكتاب وب«قل هو الله أحد»، عشر مرات في كل ركعة إلى أن يكملوا خمسين تسليمة بمئة ركعة، قد قدمت كل جماعة إماماً، وبسطت الحصر وأوقدت الشُمع وأشعلت المشاعل، وأسرجت المصابيح، ومصباح السماء الأزهر الأقمر قد أفاض نوره على الأرض وبسط شعاعه».
ثم ينتقل مثل أي صاحب عدسة تصوير إلى أول أيام الشهر المبارك، حيث وقع الاحتفال في المسجد الحرام «وحقّ ذلك من تجديد الحصر وتكثير الشمع والمشاعل وغير ذلك من الآلات حتى تلألأ الحرم نوراً وسطع ضياءً، وتفرقت الأئمة لإقامة التراويح طرقاً، فالشافعية فوق كل فرقة منها قد قدمت إماماً لها في ناحية من نواحي المسجد، والحنبلية كذلك، والحنفية كذلك، والزيدية، وأما المالكية فاجتمعت على ثلاثة قراء يتناوبون القراءة.. وكاد لا يبقى في المسجد زاوية ولا ناحية إلا وفيها قارئ يصلّي بجماعة خلفه، فيرتج المسجد لأصوات القراءة من كل ناحية، فتعاين الأبصار وتشاهد الأسماع من ذلك مرأى ومسمعاً تنخلع له النفوس خشية ورقة».
والخشية والرقة من أبلغ ما يرافق هذه الصور من تعابير، ويزيدها ابن جبير حيوية، فيروي حكاية حدثت في تلك الليلة المباركة، حين شهد أحد زملائه أمراً يصفه بالعجيب ومن غرائب الأحاديث والمأثورات. وملخصها أن زميلا له استلقى على مصطبة مما يقابل الحجر الأسود لينام، فإذا بإنسان قد جلس على المصطبة بإزائه مما يلي رأسه، فجعل يقرأ بتشويق وترقيق.. أحسن قراءة وأوقعها في النفوس وأشدها تحريكاً للساكن.. إلى أن قطع القراءة وبدأ يردد بيتاً من الشعر بلحن يتصدع له الجماد وينشق له الفؤاد، ومضى في ترديد ذلك البيت ودموعه تكف وصوته ترق وتضعف إلى أن وقع مغشياً عليه من المصطبة».
* * *
ولا نجد في وصف ابن بطوطة لهذه الثقافة الحية بعد ما يقارب القرنين اختلافاً عن وصف ابن جبير، حتى ليخيل للقارئ أن اللاحق نقل عن السابق، لولا أن الأخير قدم صورة مختصرة لمستهل الشهر على النحو التالي: «.. إذا أهلّ هلال رمضان تضرب الطبول والدبادب عند أمير مكة. ويقع الاحتفال بالمسجد الحرام، من تجديد الحصر، وتكثير الشمع والمشاعل، حتى يتلألأ الحرم نوراً ويسطع بهجة وإشراقاً. وتتفرق الأئمة فرقاً، وهم الشافعية والحنبلية والحنفية، وأما المالكية فيجتمعون على أربعة من القراء، يتناوبون القراءة ويوقدون الشمع، ولا تبقى في الحرم زاوية ولا ناحية إلا وفيها قارئ يصلي بجماعة، فيرتج المسجد لأصوات القراء، وترق النفوس وتحضر القلوب وتهمل العيون. ومن الناس من يقتصر على الطواف والصلاة في الحجر منفرداً».
ويواصل ابن بطوطة رسمه للمشهد وصولاً إلى وقت السحور، فيروي: «إذا كان وقت السحور يتولى الزمزمي التسحير في الصومعة التي بالركن الشرقي من الحرم، فيقوم داعياً ومذكراً ومحرضاً على السحور، وهكذا يفعلون في بقية الصوامع. فإذا تكلم أحد منهم أجابه صاحبه، وقد نصبت في أعلى كل صومعة خشبة على رأسها عودٌ معترض قد علّق فيه قنديلان من الزجاج كبيران يوقدان، فإذا قرب الفجر وقع الأذان، بالقطع مرة بعد مرة، وحط القنديلان، وابتدأ المؤذنون الأذان، وأجاب بعضهم بعضاً، ولديار، مكة شرّفها الله، سطوحٌ، فمن بعدت داره بحيث لا يسمع الأذان يبصر القنديلين المذكورين فيتسحّر، حتى إذا لم يبصرهما أقلع عن الأكل».
ويبدو أن الطواف بالفوانيس التي يحملها الأطفال ليلاً متوارث من تلك الأيام التي كانت فيها الفوانيس تستخدم علامة على ميقات السحور وميقات الإمساك، وليس كما الحال الآن بعد أن فقدت وظيفتها الثقافية وأصبحت شبه عادة يأخذ بها الناس من دون معرفة ما كانت تعنيه في ليالي رمضان.
عن ليلة ختم القرآن جاء في وصف ابن بطوطة: «.. وفي ليلة وتر من ليالي العشر الأواخر من رمضان يختمون القرآن، ويحضر الختم القاضي والفقهاء والكبراء. ويكون الذي يختم بها أحد أبناء كبراء أهل مكة. فإذا ختم، نصب له منبر مزين بالحرير، وأوقد الشمع، وخطب. فإذا فرغ من خطبته استدعى أبوه الناس إلى منزله فأطعمهم الأطعمة الكثيرة والحلاوات، وكذلك يصنعون في جميع ليالي الوتر. وأعظم من تلك الليالي عندهم ليلة سبع وعشرين. واحتفالهم بها أعظم من احتفالهم لسائر الليالي. ويختم القرآن العظيم خلف المقام الكريم».
في كل هذه الصور التي جاءت من عصور غارقة في القدم عن ليالي رمضان نلحظ الانهماك الجماعي بقراءة القرآن أولاً، ثم تعايش المذاهب الإسلامية ثانياً، والعناية بممارسة الشعائر المعبرة عن ثقافة روحية أبعد ما تكون عن ثقافة الاستهلاك الشائعة في العصور المتأخرة. ولو تجولنا أكثر في جغرافيات العالم الإسلامي آنذاك، لوجدنا في التنوع الممتد على مساحة شاسعة مثل هذه، وحدة مدهشة في التقاليد والممارسات والأزياء أقل ما يقال فيها أنها نتاج وحدة ثقافية تجاوزت الانقسامات السياسية والاقتصادية، هي ذاتها ما يطلق عليها وحدة الروح التي فيها وحدها سمو الأفراد والجماعات.