أنشوطه بخيالي الزائف

خاص- ثقافات

*خلود البدري

كان المساء شاحبا رمادي اللون ، أنظر من خلال زجاج السيارة التي كانت تقلني من مكان عملي إلى أفق مكتظ بالمارة .السماء الرمادية تحتضن طائرتين تحلقان في البعيد لا يظهر منهما غير خطين من دخان أبيض. أطالع بعينين محمرتين ،بدتا لمن يشاهدهما وكأنهما قطعتان من دم ،بت أغطيهما بنظارتي الشمسيه ، تحاشيا لفضول الآخرين . أستمع إلى صوت من رأسي بلحن منسكب بأصابعي ، لجذوة بعيدة ، تلمع ،تقطر ابتسامات يملؤها البكاء ! رغم صخب العالم من حولي ، أعيش هنا وكأني حولت هذا الرأس إلى قمقم قصي ،بعيدا عن صخب العالم المجنون ،ومع تلك الأصابع فقط ، لكن بالرغم من ذلك كنت أنثر محبة من وجد عليها غير أنها لا تكاد ترى مني غير سطحا واهيا لعمق طاعن الخيال ليست لدي حقيقة ووجه واقع . كانت تلك الأصابع بالنسبة لي اللحن والملحن ، وعلى أطلال معزوفتها الأخيرة رقصتُ أخيرا على قبر روحي ! توهمتُ أنها عرفتْ جنوني الحلو ،وأنها عرّفتني عرفا بائدا قرفا ، ورؤى بالية ، تعيش من جديد صمت القبور !
تتحرك السيارة التي كنت أجلس بداخلها ، تطوي معها أعمدة لمصابيح الإضاءة  الملونة ، أطالع دون إي اهتمام بنايات لم تكتمل ، نخلة وحيدة مائلة بجذعها وسعفها .الناس من حولي التي بدت تتراءى لي كخيالات أمر بها دون اكتراث مسرعة ومشيحة بنظري عن الجميع ،فقد كانت هذه الأصابع تضغط على مخيلتي فتشلها وتستحوذ عليها بشكل مطلق ، قلت لنفسي أهدأ من روعها:ليكن ، لكل عالمه ، وليّ عالم غريب يعتمل بداخلي ،يطرق بمطرقته على ذاكرتي . ” الكورنيش ” بدأ يتزين بنور المصابيح الملونة ، زرق ، حمر ، خضر. فقد حانت شمس النهار على المغيب. هبت  نسمات عليلة ، تمنيتني بتلك السعادة التي كنت فيها قبل يوم لأشعر بهذه النسمات المحملة برطوبة محببة ، تلك السعادة التي فقدتها مبكرا ،أتنفسها عليّ أخفف وطأة ما حل بي هذا الصباح . أحاور وحدتي وأسمع الصدى البعيد لظل قاتم وكأنما يلامسني بنوره فيتغلغل في أعماقي ، أولي هاربة خوفا من خسوف أحمر ينتظرني . كأغنية حزينة أضحيت مسكونة به ،لمحب أقتله بين أصابعي ، تتردد ذاكرتي اللعينة . تأخذني للتيه غيمة سوداء في ذبول الفصل الأخير من ايامها ومن جديد أقع بحفرة عميقة أزحت بيديّ عنها غبار الهفوات العبثية . كرها لا شوقا من فخ فرح قادم ، لحزن أبدي أتوارى . تتشابك تلك الأصابع كخيوط الحكاية ،وكمهووسة اسأل ظلي الغامر نفسي : أنقص الخيوط حلا عن فك عقدها بهدوء !؟ وذلك الحبل الذي بدأت تعلقني به ، أخطبوطي يلتف حولي ، بمهل ، أختنق ، تغمرني بزيف من جديد ، أزهق ، تتدارك بفسحة نور ،أعاود شهيقي ، تطالع عن بعد ذاك الزفير، ألامس نسمة مرت تشدني أنشوطة وهم . أجثو راكعة لصلاة لن تكتمل. وأقطع ذاك الحبل المشدود بالوريد، فأصطفي وحدتي حلا لانتحاري الجديد !

____________
*يصدر قريبا جدا عن دار” الماهر للنشر والطباعة والتوزيع ” في الجزائر مجموعة قصصية بعنوان ” في دفء الوهم ” للشاعرة والكاتبة خلود البدري .ومن ضمن قصص المجموعة قصة :أنشوطه بخيالي الزائف.

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *