نزار في الميزان

خاص- ثقافات

*ناصر المقرحي

في وقت كانت فيه القصيدة العربية تلتزم خطاً مرسوماً , فإما أن تكون مُغرقة في التقليدية أو موغلة في الغموض والإبهام بحجة الحداثة اتخذت قصيدة نزار قباني خطاً وسطا بين هذين الأتجاهين اللذين هيمنا على المنظومة الشعرية العربية في النصف الثاني من القرن المنصرم , ذلك أن نزار كتب قصيدة تراوح ما بين الغموض البسيط جداً والمُباشرة التي تكاد تخل بالقصيدة وتُقلل من قيمتها كمُنتج فني بالأساس , فمن ناحية البناء كتب الشاعر نزار قباني القصيدة العمودية وحافظ على النسق الخليلي , والقصيدة الحرة إلى جانب نثره الذي بثه هنا وهناك في دواوينه وخارجها , ومن ناحية المضمون والمُحتوى وبخلاف ما كانت عليه القصيدة العربية آنذاك من انشغال بالغزل التقليدي والإغراق في الأنين والشكوى والتفاخر بالأوطان والكتابة المناسباتية فيما يخص كُتاب القصيدة الخليلية والشعر الحر من جهة , والعودة إلى الذات واتخاذها مِحوراً يدور الكون كله حولها , وما رافقَ ذلك من إغراق في الغموض وتعمد التعمية والنأي عن الوضوح وغياب الموضوع وتشظي المعنى فيما يتعلق بقصيدة النثر مع أبرز ممثليها وقتذاك , أدونيس ويوسف الخال وشوقي أبو شقرا وبصورة أقل غلواً محمد الماغوط وغيرهم , من جهة أخرى , بخلاف هذين الأتجاهين الشعريين اللذين تجاذبا الذائقة الشعرية وخاطبا الوعي العام الذي على ما يبدو كانَ مُهيئاً لتقبل هذا التطور الشعري بعد أن ملَّ البطولات الزائفة واستسلم للهزائم المتتالية ولم تعُد تستهويه الأشتغالات الشعرية التقليدية من جهة والغموض والإبهام والخوض في الأوهام وملاحقة السراب وانتظار الذي لا يأتي من جهة ثانية .
وفي ما كتب نزار لا نجد ذلك التباكي والأنين ولا الغموض المتعمد والإبهام ولا محاولة تجاوز أو حتى إلغاء المتلقي وتجاهله , ولعل لابتعاد نزار عن هذين النمطين من الكتابة الشعرية دور في شُهرته وذيوع اسمه كشاعر مختلف ونفاد دواوينه من المكتبات حال نزولها , ذلك أن نزار كانً واقعيا أكثر من اللزوم في كتاباته حين تناول في أشعاره , المرأة وتغزل بها بشكل عصري وجريء بالمقارنة مع من سبقه من شعراء ومن جايلهُ , وكان غزله صريحا إلى الحد الذي لم يتوانى معه في إقحام أشياء المرأة الخاصة وأسرارها الحميمية في قصائده , هذا إلى جانب تناوله للجسد الأنثوي بطريقة فيها الكثير من الجرأة حتى أنه سُمِىَ بشاعر المرأة وعُدَّ خبيرا بعوالمها وبكل ما يتعلق بها ومتميزا في الكتابة عنها ووجد ما كتبه صدى لدى المتلقي العربي الذي يرزح تحت تاريخ ثقيل من الكبت العاطفي والحرمان الشعوري , وبعكس الكثير من الشعراء عمل على تجديد لغة الشعر بتطعيم قصائده بالكثير من مفردات العصر ومفاهيمه , ولم يرتكن إلى اللغة التقليدية التي اجتُرت كثيرا واستُهلِكت من وجهة نظر البعض , هذا من ناحية .
ومن ناحية مقابلة لم يكن نزار منقطعا عن زمنه وعالمه وتابع كل متغيراته بما فيها السياسية والأجتماعية وتأثر كغيره من الشعراء والعامة بالمتغيرات السياسية المحلية والعربية وكتب انطلاقاً من إحساسه بالمسئولية قصائد عصماء تُشخِص أسباب الهزيمة وتستنكر حالة التشرذم والانقسام العربيين إلى حد أنهُ هاجم الملوك والساسة العرب وحملهم مسئولية الهزيمة وجعلهم هدفاً لسهام هجائه المُر .
ورغم ان نزار الذي يعد شاعر مرحلة بامتياز لأنه عبّرَ خير تعبير عن مرحلة عاشها العالم العربي وتبنى موقفاً من حالة التخاذل والإستسلام ومن قضايا المرأة , إلا أنهُ كتب بمباشرة زائدة وامتثل لضرورات القافية أحيانا , والمرحلة في واقع الأمر كانت تتطلب تلك اللهجة الحادة والخطاب القادح والنبرة العالية والإيقاع المدوي لاستنهاض الهمم وبث الحماس في النفوس وإثارة النزعات القومية والدعوة للتحرر في زمن تكاثرت فيه هزائم العرب وتلاحقت النكبات , وهاته المباشرة التي تجلى بها شعر نزار كانت مطلباً ملحا حينها ومقبولة بمقياس جمال الشعر إلا أنها وبعد مرور فترة طويلة على هذه المرحلة يتضح لنا ضعف هذا الشعر الذي يبدو ان مضمونه الحماسي والتحريضي الثوري غلب على مظهره الجمالي وغطى على جانبه الفني , ولعل الشهرة التي حازها نزار تعود في الأصل إلى إعجاب الشرائح الدنيا في المجتمع بشعره وليس النخبة المثقفة ولا يمكن طبعا تجاوز عامل آخر ساهم في تكريس شهرة الشاعر وهو الإلقاء والحضور المنبريّ , وهذا ما جعله الأكثر شعبية بين الشعراء , وكل ما قيل عن ضعف شعر نزار من الناحية الفنية لا ينفي أن وسط هذا الزخم والإنتاج الشعري الضخم فلتات أو التقاطات رائعة وصور شعرية غير مطروقة وتلاوين مبتكرة لم يسبقه إليها أحد , وبالإجمال نعثر في شعر نزار الذي يُنظر إليه على أنهُ مرحلة مهمة من مراحل الشعر العربي ومنعطف مفصلي فيه لكونه مؤثرا فيه ومتأثرا به , على الكثير من القصائد الجميلة والشعر الناصع لناحية موسيقاه وصوره الرائعة وأخيلته الباذخة ,  في الوقت الذي نجد فيه نماذج ذات مستوى فني متدني وبسيط حتى أننا نتساءل أحيانا عن ما الذي جعل نزار يجيز هكذا شعر وينشره في غياب تام للناقد الداخلي الذي ما كان يجب أن يسمح بذلك .
هذا بالإجمال بعضا مما توحي به قراءة شعر نزار قباني الذي رحل تاركا وراءه أرث شعري ضخم يجد فيه كل متذوق حاجته لكونه شعر إنساني وتوثيق لمرحلة حساسة , ومثل إي شاعر كبير اختلف الناس وتخاصموا حول شعره حتى اليوم ولعل هذه المداخلة النقدية المتواضعة تدخل في هذا الإطار .

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *