حجّي جابر: كيف نحكي قصة؟

*حجّي جابر

سأمر هنا بشكل سريع على عشر نقاط تجمل فكرتي في محاولة الإجابة على السؤال الكبير: كيف نحكي قصة مشوّقة ومتماسكة؟.. وهي أمور بقدر ما هي ذاتية فإنها كما أعتقد تتقاطع ورؤى آخرين داخل دائرة الكتابة.

غامر بأن تكون نفسك:  

دائماً.. اكتب عمّا يعنيك، عما يخصك، عما تحب وما تكره. اكتب مخاوفك، غص بعيدا.. انزل للأسفل.. أكثر.. أكثر. لا تخش الانكشاف ولا التعرّي.

هل ترى وجهك الآن؟

إذن فقد وصلت. اغرف من ذاتك بقدر ما تستطيع. جرّف الطبقات التي تفصلك عنك، وأخرج لنا الحكاية.

لا تبحث فقط عند الآخرين عن القصص المسلية والمؤثرة. يجب أن يعنيك الأمر، أن يؤرَقك، حتى لو كان محض طرفة.

صدقني. سيظهر دائماً ما إذا كنت حكّاء أصيلاً أم مجرد ناقل للكلمات، ما إذا كان الأمر حكياً نابعاً من داخلك بالفعل.. أم مجرد محاكاة رديئة لساعي البريد.

امضِ قدماً:  

استحضر دائماً وأنت تكتب احساسك الداخلي بالتقدم. كل جملة ومشهد وفصل يجب أن يخدم فكرة أخذ النص إلى الأمام. التشويق في أحد صوره هو تلك الحركة التي تختزنها الكلمات، ذلك اللهاث الذي ينتقل إلى القارىء، حتى لو كان تأملاً. هذا من شأنه أن يحميك من الوقوع في المحظور بأن تقول شيئاً تقصد به لاشيء، بأن تكتب شيئاً فائضاً عن الحاجة.

أنت القارئ:

وأنت تكتب.. لا تتخلّى عن القارىء الشرس والمتطلّب والملول بداخلك. اسأل نفسك دائماً: ماذا لو كان النص لغيري، هل سيعجبني.. سألعنه.. أم سأتوقف عن القراءة وحسب. هذه القسوة من قبلك تجاه عملك ينبغي أن تكون حاضرة.. عدا ذلك سيتولى القراء هذه المهمة. حين تتراخى في محاكمة نصك فأنت تحكم عليه بالخروج أعزلا

لا تنس الإيقاع:

اللغة كائن متفلّت لكنه في آخر المطاف وبشيء من الانتباه قابل للتطويع.. وهذه هي المهمة التي يجب أن تظلَ ماثلة أمامك دائماً.

نحن نصنع أسلوبنا الكتابي بالإيقاع أكثر مما نفعل بالمفردات.. متى نسرع أو نبطئ أو نطرق بشدة أو نمر برهافة.. كل هذا يحدث حين نوظّف اللغة للتحكم في الإيقاع.

الجملة الفعلية القصيرة مثلا تمنح شعوراً أكبرَ بالحركة واللهاث، بينما الاسمية والطويلة تصلح للاسترخاء والتأمل. كلمات بعينها هي أكثرُ دقة وصوابية من أخرى تشبهها كثيراً.. غير أننا نختار في آخر المطاف وفقاً للإيقاع الذي نود فرضه.

العب بالاحتمالات:

أنت في سباق مع القارىء.

ستسقط الحكاية متى ما وصل القارىء إلى النهايات في ذهنه قبل أن يفعل ذلك على الورق. لذا يجب أن تخاتل القارىء وتترصَده وتقوم بخديعته كلما أمكن

ليست القصصُ البوليسيةُ وحدها التي تخاتل القارىء.  نحن عادة ما ننثر إشارات بغية التمهيد للأحداث، لكننا هنا سنغرس إشارات مضللة وشهود زور لحرف القارىء لمسارات أخرى قبل أن يفاجأ بالوجهة التي اخترناها.

خطّط قبل البدء

شاهد نصّك قبل الكتابة.. أنت بالتأكيد تملك هذا الترف.

لتكن كمقاتل يملك خيار الإطلال على ساحة المعركة قبل خوضها

من شأن تصوّر النص قبل كتابته أن يزيد من سيطرتنا عليه ويمكننا من اللعب بالاحتمالات. نصبح حينها كالممسك بالدمى يحركها كيف يشاء. يرى ما يحدث وما سوف يحدث. حينها يصبح الكذب مريحاً ومتقناً. وما نحن إلا كذبة، فلنفعل ذلك إذن ببراعة.. وبكل الصدق الممكن.

تخيّل جسد النص:

إذا تخيَلنا النص جسداً، فإنَ الوجه هو متن الحكاية، وهو أول ما سيلفت انتباه القارىء. لكنّ الوجوه الجميلة وحدها لا تكفي. أي نقص أو تشوّه في الأطراف سيصرف النظر عن جمالها.

طعّم نصّك إذن بالحكايات الجانبية، بالفنون والالتقاطات الإنسانية الصغيرة التي تواكب المتن فتبرز جماله.

وأنا هنا حين أتحدث عن الجمال فأنا أعني القوة والتأثير سواء عبر الجمال أو القبح. المهم ألا تخلق وجهاً عادياً فاتراً نقابله كل يوم دون أن يترك أثراً في نفوسنا.

لا تغلق الدوائر:

الحكاء لا يبلغ بقرائه التخمة.

لا تُتمّ الحكايات، لا تصل للنهايات، للخلاصات. الفن ألا نصل. اترك ذلك للقارىء. راعي الصمت والفراغات، ودع النص يتنفس. أشرك القارىء في عملك ليكمل هو السير. احترم ذكاءه ودع له أن يكتشف بنفسه. اترك شيئاً لمتعة التأويل.

ليست العين وحدها:

القارئ يستخدم بصره في تلقّي حكايتك، لكنك لا تكتب لعينه فقط. أشرك بقية حواسه. كلما تزاحمت الحواس على نصك كان الوقع أكبر. احقن كتابتك بالروائح والألوان والأصوات والملمس.. بمجرد أن ينجح ذلك سينهض النص ليسير على قدمين.

بالمحو يحدث الكمال:

مراجعة الرواية هي الكتابة الحقيقية.

قبل أن تدفع بكتابك إلى الناشر، ضع في اعتبارك أن الكمال لا يحدث حين لا يبقى ما يمكن إضافته، بل حين لا يبقى ما يمكن حذفه.

تخلّص إذن من الفائض. تذكر أن القارىء هارب على الأغلب من واقع مترهل، وهو لا يتوقع منك تكرار ذلك.


الورقة التي قدمها الروائي الإرتري حجي جابر في ملتقى الحكايا والحكائين، مارس 2018.
___________
*المصدر: تكوين.

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *