كان صاحبنا كسائر خلق الله، الذين تمتطيهم الهموم الباهظة والهواجس السوداء بعد استعراضهم الفضائيات الإخبارية، واطّلاعهم على أحوال الدنيا التي تقوم قيامتها ليل نهار، وأوضاع الإنسان المأساوية التي تتجه من سيئ إلى أسوأ، فيُمضي نهاره بمزاج عكر، وأمسياته بالأرق، ونومه بالكوابيس.
لم يُخرِجه من معاناته تلك لا انغماسه في القراءة، ولا استماعه للموسيقى، ولا هروبه إلى سهرات أصحابه الذين طلَّقوا، بالثلاث، التفكير بالواقع، وأداروا ظهورهم لِمن وما يُذكِّرهم بما يجري خارج دائرة الضحك والمزاح ومتع الحياة المتاحة.
كان في حاجةٍ ملحّة إلى مَنْ يبُثُّه شكواه فيسمعه هذا بشيءٍ من تعاطف ورحابة صدر، للتنفيس عن همومه. فاعتقد أنه ما من أحدٍ سيفهم ما به غير أُمّ عياله، رفيقته في الحياة وموضع أسراره وتلاطُم أفكاره، فجلس إليها ذات أمسية، وإحدى الفضائيات تبثّ أخباراً تستنفر أعصابه، وأخذ يُعلِّق على الأحداث، يحلِّلها، يستنتج دلالاتها، يبيِّن أسبابها المباشرة وغير المباشرة، ويبوح لها بمعاناته وتوجّساته وتوقّعاته المتشائمة، مؤكداً أن هناك مؤامرة دولية ضد الإنسان، كإنسان، في كل بقاع الأرض، وهو يرسم بالكلمات المصير الذي ينتظر البشرية على هذه الأرض إذا استمر الحال على ما هو عليه.
وكانت هي تصغي صامتةً صمتاً أقرب إلى الشرود، وقد شجّعه صمتها وإصغاؤها على المضيّ في التخلص مما تراكم في صدره من أوجاع. لكن، ودون سابق إنذار، خرجت من صمتها قائلةً:
– بالمناسبة.. علينا أن نجفِّف ملوخية وبامية قبل انتهاء موسمهما، ونشتري صفيحة زيت زيتون، يقال إن سعره سيرتفع.
حدَّق بها باستنكار:
– أنا أتحدث عن مآسي الإنسانية، وملايين البشر المهدَّدين بالموت جوعاً وعطشاً، والهلاك في حروب أهلية مدبَّرة، وأنتِ تفكِّرين بالملوخية والبامية وزيت الزيتون؟.
وتأكد لديه أن مخلوقاً ذا تفكير مطبخي مثلها لن يعير قلقه وأرقه الإنسانيين أيَّ اهتمام، ومنذ تلك الأمسية لم يعد يفكِّر في فتح أية قنوات حوارية معها خارج الشؤون المطبخية.
واستمر يبحث عمَّن يستمع إليه، ويتعاطف معه، لكن كلمّا لقي صاحباً، ودفعته رغبته إلى بَثّهِ بعضَ تلك الهموم، أسكته هذا قائلاً: (هل تنقصني شكاواكَ يا رجل؟ ألا تكفيني همومي ومشاكلي؟ لماذا تضطهدني هكذا كلّما التقينا؟).
وظلَّ يحاول التملُّص من اليأس، بتكرار المحاولة، ليُصدَم مَرّاتٍ ومَرّات بِصدورٍ أضيقَ من ميكروباصات السيرفيس في ساعات الظهيرة، وأحرجَ من عيشة موظف يسكن بالأجرة، فَمِن قائلٍ:
(وينك؟.. حلّ عنّي.. الله يرضى عليك، ولا تُدخلني في متاهات همومك، ففي كلّ مرّة تحشرني في أزقّتها وزواريبها أُصاب بصداع يحتاج التخلص منه إلى علبة سيتامول كاملة). وقائل:
– بالله عليك.. أرحْني من همومك، وهات لي سيرة تعمِّر الطّاسة، وتزهزه القعدة، وتنسينا ما فينا. قُلْ لي.. هل رأيتَ الفيديو كليبات الجديدة لهيفاء وهبة وإليسا و…؟.
وأخذ أصحابه ومعارفه يفرّون منه، وينفرون من خلقته، ويتحاشون اللقاء به، ويستعيذون بالله حين تلقي بهم أقدارهم في طريق يسلكه أو مكانٍ يضمّه.
وعند لقائه بأحدِهم مؤخَّراً، وقبلَ أن يفتح فمه لإلقاء التحيّة عليه والسؤالِ عن صحّته بادره بالهجوم:
– أهلَكتَني ببكائياتك، ودوَّختَني بِتساؤلاتِكَ، وفلقتَني بِشكاواك، خذْها نصيحة مني دونَ جمل أو بغل، وعَوَضي على الله، الحلّ الوحيد وخلاصك الأكيد من كلّ ما تُعانيه هو، في رأيي، أن تَتَّكِل على الله و… تنتحر.
– أَنتحر؟؟!!.
– ولمَ لا..؟ كلّ تفاصيل حياتِك تُؤكِّد أنَّ أسباب الانتحار وجذوره وشروطه ومبرّراته وعوامله ودوافعه وحوافزه متوفِّرة لديك والحمد لله، اسمعْ، رُحْ.. واشترِ صفيحة بنزين، وامضِ إلى ميدان من ميادين العاصمة المزدحمة بجماهير تتسكع طوال ساعات النهار، بسبب وبلا سبب، وكأنَّ قياس مسافات الشوارع طولاً وعرضاً ومساحات الساحات العامّة هو اختصاصها، وبعدَ أن تَتَغَرْغَر بإبريق ماءٍ مُحلّى بالسكّر، أَلقِ على الملأ، هناك، وبصوتٍ جَهْوَريٍّ واضحٍ فاضحٍ لافحٍ جارح خطاباً حماسياً زلزالياً، ولْيكنْ مُتَضَمِّناً بياناً نووياً يُعبِّر عن اعتراضِك وامتعاضِك واشمئزازِك واحتجاجِكَ واستنكارِك وتنديدِك وإدانتِك ورفضِكَ الخَلَلَ اللاإنساني و(أكل الـ….هوا) الذي يَعُمُّ أصقاعَ الكرة الأرضية من أقصاها إلى أقصاها، وبعد انتهائك من إلقاء الخطاب ادلقْ نصفَ ما في الصفيحةِ على رأسِك حتى يُغرِقَ جسمَك إلى قدميك، ويُبلِّل ثيابَك الخارجية والداخلية تماماً.
– ولماذا نصف ما في الصفيحة يا فصيح؟.
– سؤال وجيه. فبعد أن تدلق البنزين على جسمك أغلق فتحة الصفيحة بإحكام على ما بقي فيها، واجلس فوقها، وما عليك بعد ذلك إلاّ إشعال عود ثقاب، ومن ثَمَّ ستسير الأمور على ما يُرام أُتوماتيكياً. فالنار ستشبُّ فيك، وترتفع درجة حرارة الصفيحة، وبعد ثوانٍ ستنفجر مُحدِثةً دويّاً هائلاً، وتنقذِف حضرتُكَ عالياً في سماء العاصمة كرجلِ فضاءٍ شجاعٍ ودونَ حاجةٍ إلى تشالينجر أو ديسكَفَري أو كوزموس أو لونا أو أريان أو ركلة من زين الدّين زيدان، ثمّ تهوي مُرتطماً بأرض الميدان.. (لا من تُمّك ولا من كُمّك مثل صرصور انقلب على ظهره رافعاً الأربع.. بعد بَخَّة على دين الكيف من مبيد أخو حفيانة).
– لا والله “خوش نصيحة” يا….. إنّها نصيحةٌ لا تُقّدَّر بثمن، نعم.. هات لَنْشوف، أكمِلْ يا فصيح زمانك!.
– يا مجنون!.. هذا الانفجار سيكون حدَثاً ذا نكهة درامية لا مثيل لها. ألا تُتابِع أفلام العنف التي تضطهدنا بها شركات الإنتاج الأمريكية ليل نهار، وتحتلّ أكثر الفضائيات العربية هذه الأيام، والتي افتُتِحَت لها قنوات خاصّة؟ ألا تُلاحِظ كثرة الانفجارات فيها؟ هل تظنّ أنّ المنتجينَ اللاهثينَ وراءَ الربح يُبعثرون دولاراتهم بالملايين لِتنفيذِ الانفجارات الضخمة في تلك الأفلام لولا ثقتهم بأثرها وتأثيرها في المليارات من المشاهدين بدءاً بخريج الروضة والحضانة وانتهاءً بالذي يدبُّ على الأرض متوكِّئاً على عكازه، لتجعلهم ينشدّون إليها متعاطفينَ مع الشخصيّات السوبرمانية الحارقة الخارقة وهم مبهورونَ مشدوهونَ مندهشونَ منسجمونَ ومُخَدَّرونَ ومُستَلَبونَ إلى الحدّ الذي ينسى معه بعضُهم كم هو ثلث الثلاثة؟ ناهيكَ عن نسيانهم مشاكلهم ومصائبهم الخاصّة والعامّة.
– وعندئذٍ، طبعاً، ستكون أوَّلَ المسرورين بالتخلُّص منّي والشامتين بانتحاري، أليس كذلك؟.
– لَهْ يا رجل!.. لا تغلط، وهل يقوى أحدٌ على الشماتة بإنسانٍ يدخلُ التاريخ من أوسعِ بوّاباته لِيصبحَ من مشاهير التمرّد والرفض؟ هل ثمّة ضرورة لأُذكِّرك بكليوباترا وفان غوغ وهمنغواي وماياكوفسكي ويوكيو ميشيما وهتلر والليندي وجوني ويسميلّر ومارلين مونرو وداليدا.. وغيرهم؟ هل تظنّ يا فالِح أنَّ إنجازات هؤلاء السياسية أو العسكرية أو الأدبية أو الفنيّة أو.. أو.. هي سبب شهرتهم وتَكَرُّرِ ذكرهم بمناسبة ودون مناسبة؟ لا.. فلولا انتحاراتهم تلك لَما أشار التاريخ إليهم بكلمة واحدة، ولأدار ظهرَه لهم كما تُدير هيئةُ الأُمم المتّحدة والمنظّمات الإنسانية والرأي العالم العالَمي أقفاءَها للشعوب المضطهَدَة. ألا تتذكَّر صورة الرّاهب البوذي الفييتنامي الذي أحرق نفسه، ذاتَ يوم، احتجاجاً على العدوان الأمريكي على بلاده؟ ما الفرق بينكما؟ كان هو إنساناً مهموماً رافضاً محتجّاً مثلك، فكن شجاعاً مثله. هيّا اشحذ همّتَك، ولا تضع الفرصة، وادخل التاريخَ وتَمَدَّدْ فوق صفحةٍ من صفحاتِهِ بالطول والعرض، ولا تقبعْ على هامشِهِ كما يقبع المشرَّدون الهنود على أرصفة بومباي، ويفترش روّادُ البطالة المقنَّعة ببسطاتهم أرصفة مدينتك.
وغادرَه الصديق الناصح وهو يقول مقهقهاً:
– لا تنسَ يا صديقي. البنزين يجب أن يكون من النوع الممتاز، إنها فرصتك التي لن تعوَّض..
أما صاحبنا فبقي يفكِّر متسائلاً: (لِمن أبوحُ بما بي من هموم؟ وعلى مَن أطرح الأسئلةَ التي تُحيِّرني والأمورَ التي تُقلِقني؟ مَن يسمعني دونَ أنْ يُشيحَ بوجهه عنّي مُمتَعِضاً وكأنّني أشتمه، أو أطلب إليه أن يُقرِضني مبلغاً من المال في منتصف الشهر؟). وأنتم تعرفون بلا شك أنّ البَوْحَ يُريح المأزوم، ويُنقذُه، ولو مبدئياً، من الانفجار أو الانتحار أو ما لا يُعرَف من المفاجآت المصائبية التي تكمن لأمثاله من المهمومين.
وذات صباح أفاق على رائحة كريهة تقتحم غرفة نومه، خرج مسرعاً إلى الحارة فاكتشف أن الرائحة نفسها تعمّ الأزقة والبيوت والصدور، وفوجئ بمياه الصرف الصحي الرمادية، تتدفق من قسطل مكسور، مشكِّلةً سيلاً يجتاح الأزقة، ويقتحم الأقبية والبيوت المنخفضة والدكاكين، وقد علت صرخات السكان، صغاراً وكباراً، وكان الرجال، الذين تخلّفوا عن أعمالهم، يشتمون أجداد المتعهد والفنيين والعمال الذين تولّوا تنفيذ التمديدات، والنساء يولولن وهنّ يرثين أوضاع الحارة وأهلها (المعتَّرين) المدفونين أحياء، ويحاولن إنقاذ ما يمكن إنقاذه من أثاث بيوتهن، وبذل الجميع جهدهم للحدّ من ثورة المجاري التي حوَّلت سكون الصباح إلى فوضى وساحة معركة كيميائية وجرثومية مجهولة النتائج، مستخدمين المجارف والصفائح المعدنية والبلاستيكية ومختلف الأوعية، ويسدّون المنافذ بأكياس الخيش والخرق والملابس البالية، وأصوات تطالب بالاتصال بالطوارئ وهي تشتم وتلعن، وأصوات أخرى تردّ بأن لا أحد يجيب، وصوت يصرخ: (عمال الطوارئ باشاوات، فإمّا أنهم نيام يشخرون، وإمّا أنهم لا يريدون إفساد متعتهم وهم يتسمَّمون الفول المدمّس صباحاً).
واستمرت المعركة إلى ما بعد عصر ذلك اليوم حتى جاء عمال البلدية وعالجوا القسطل المكسور، وبقيت الرائحة القاتلة تعشش في كل ركن من أركان الحارة أياماً.
أمّا صاحبنا، فقد جلس مساء ذلك اليوم، وكتب عريضةً بأسلوب نقديٍّ ساخر، مضحك مبكٍ معاً، وصف فيه ما جرى، بالتفصيل وبدقّة، متناولاً مشاهد الحدث والشخصيات والحوارات، واضعاً لها عنواناً هو الآخر ساخراً، وذيَّلها باسمه، وأرسلها إلى صفحة الشكاوى في صحيفة رسمية. وانتظر الردّ على عريضته أياماً عدة، دون جدوى.
بعد أن استعرض صفحة الشكاوى في آخر عدد اشتراه، فقد الأمل في نشر شكواه، فتناسى الأمر، وراح يقلِّب الصفحات الأخرى دون شهية، ليتوقف فجأة محدِّقاً بالصفحتين المخصصتين للشؤون الثقافية وهو يكاد لا يصدِّق ما يراه. كانت عريضته منشورة هناك على مساحة الصفحتين. التبس الأمر عليه، واعتقد أن ما يراه هو مجرد تخيُّل، دلك عينيه، أغمضهما، ثم فتحهما وحدَّق، كان الأمر حقيقة. كانت العريضة قد نُشرت على أنها قصة ساخرة مع مقدِّمة نقدية قصيرة تشيد بها وبأسلوبها والخيال القصصي فيها.
وأطلق إذ ذاك صرخةً ابتهاج أرخميدسية، فقد وجد أخيراً من يبثّهم شكاواه، ويبوح لهم بما يعانيه وعاناه، دون أن يقاطعوه متأففين أو مهاجمين أو ساخرين. وشجّعه هذا على الكتابة بالأسلوب الساخر نفسه، وراحت الصحف والمجلات الثقافية تتخاطف ما يكتب، وهكذا وبالمصادفة، صار صاحبنا كاتباً مشهوراً في غمضة عين.