الشعر الياباني.. قصيدة بلا كلمات

*محمد الأسعد

في وقت مبكر، يرجع إلى أواخر القرن التاسع عشر، عبرت قصيدة الهايكو اليابانية الأنهار والمحيطات في طريقها من قارة إلى أخرى، مترجمة من لغتها الأصلية إلى أكثر من لغة ولهجة، فنجدها في الهند ولغاتها، وفي لغات أوروبا والأمريكيتين، ومنهما إلى شرقي أوروبا، وأخيراً نجدها مع مطلع ثمانينات القرن العشرين في اللغة العربية.
في لغتنا وفي بقية لغات العالم، الذي عرف هذه القصيدة، يمكن ملاحظة أمر بالغ الدلالة؛ إن الشعراء كانوا على رأس من قدم هذه القصيدة إلى عوالم ثقافاتهم بمختلف أنواعها. صحيح أن باحثين في الثقافة اليابانية إلى جانب زائرين عابرين تصدوا لمهمة التعريف بها منذ البداية، وربما كانوا هم من نبه أذهان شعراء بلدانهم إليها، إلا أن الشعراء كانوا الأكثر قدرة على فهم ما تعنيه هذه القصيدة، وأي آفاق فتحتها أمامهم، ليس عبر البحث والدراسة فقط؛ بل وعبر محاولات كتابة «هايكو» خاصة بثقافة كل واحد منهم؛ بحيث يمكن القول إن هناك أشكالاً من هذه القصيدة بعدد الثقافات التي استضافتها ورحبت بها، وضمتها إلى تراثها الشعري.
سنكتفي هنا بذكر ثلاث تجارب لثلاثة شعراء من جنسيات مختلفة تضع علامات على طريق استكشاف مسار هذه القصيدة في هذه الثقافة أو تلك. التجربة الأولى، والأكثر شهرة هي تجربة الأمريكي «إزرا باوند» (1885-1972) الذي بادر إلى كتابة قصائد «هايكو» أمريكية، وإدخال جمالياتها في بنية شعر اللغة الإنجليزية؛ لتخليصه من تهويمات العصر الفيكتوري بالتنظير لشعر «تصويري» يستمد حيويته من لغة الحياة اليومية، واجتذاب مواهب شعرية أخرى شاركته في الكتابة والتنظير لهذا الفن في ما دعيت «حركة التصويريين الشعرية»

في مقالة له حملت عنوان «الدوّامية» (سبتمبر 1914) يروي كيف أثرت الهايكو اليابانية في تقانته في كتابة الشعر، فيقول:«هبطتُ قبل ثلاث سنوات وأنا في باريس من قطار أنفاق في ساحة الكونكورد، وفجأة رأيتُ وجهاً جميلاً، ثم آخر، فآخر.. وحاولتُ طوال ذلك اليوم العثور على كلماتٍ تعبّر عما يعنيه هذا بالنسبة لي.. في ذلك المساء وجدت التعبير فجأة.. ليس بالكلمات؛ بل بلطخ لونية صغيرة؛ ولكنها في البداية كانت كلمات بالنسبة لي، لغة ألوان.. اليابانيون فهموا جمال هذا النوع من المعرفة، وأنشأوا شكل «الهوكو»: البراعمُ الساقطة/ تطيرُ عائدةً إلى غصنها/ فراشةْ. هذا هو جوهر الهايكو المشهورة جداً».
ويضيف باوند أنه وجد أن قصيدة الصورة الواحدة هذه هي (شكل متراكب، أي فكرة تعلو فكرة) مفيدة في الخلاص من الأزمة التي أوقعته فيها عاطفته تجاه قطار الأنفاق. في البداية كتب قصيدة من ثلاثين سطراً، رأى من الدرجة الثانية تفتقر إلى التركيز، فألغاها. وبعد ستة أشهر كتب هذه الجملة الشبيهة بالهايكو:
«طيفُ هذه الوجوهِ في الزحام/ بتلاتٌ على غصنٍ رطبٍ أسودْ. فهل كانت محاولة هذا الشاعر موفقة؟»
زميله الشاعر التصويري أيضاً «جون فليتشر» (1886- 1950)، حين قارن بينها وبين قصيدة الفراشة اليابانية، وجد أنها أخفقت في ما نجحت فيه اليابانية. وقال في مقالة له حملت عنوان «الشرق والشعر المعاصر»، لا تمتلك قصيدة باوند شيئاً يؤهلها للنجاح «لأن علاقة وجوه جميلة معينة شوهدت في محطة قطار أنفاق باريس ببتلات على غصن شجرة رطب ليست جلية إطلاقاً» أي أن القصيدة تفتقر إلى الوحدة التي تركز الرؤيا الشعرية وتلحم الأشياء المسماة في كل ذي معنى. على النقيض من هذا، العلاقة بين الأشياء في الهايكو اليابانية جلية جلاءً تاماً.
وسيتواصل مثل هذا التعارض حتى الزمن الراهن، بين الشعراء الذين تعرفوا إلى قصيدة الهايكو وكتبوها في كل الثقافات (بما فيها الثقافة العربية) من جانب، وبينهم وبين النقاد الذين تناولوها من جانب آخر، وهي ظاهرة ذات دلالة أيضاً وليست بلا معنى، تعود أسباب بعضها إلى جهل عدد كبير ممن أقبلوا على محاكاة هذا الشكل بتلازم وتوافق عدد من الفنون في اليابان وتكاملها، فن الهايكو، وفن تنسيق الحدائق، وفن تقديم الشاي، وفن الرسم والتصوير، والفن المعماري، وفن المسرح..إلخ، ويعود آخر إلى غفلة شعراء عن علاقة فن الهايكو عن منبعه الروحي، بوذية الزن، أو واقعة أن للغة اليابانية بنية مختلفة عن بنى اللغات المعتادة، فلا زمن للفعل فيها، ولا تمييز بين المفرد والجمع، إضافة إلى أن أهم سمات هذه القصيدة، أنها قصيدة الصورة الموحية، فهي تحتفي بفضاء يكتنفه الصمت، إلى درجة أن أحدهم أطلق عليها اسم «قصيدة بلا كلمات»، شأنها في ذلك شأن أجوبة معلمي الزن على الأسئلة، التي توجه إليهم. يسأل راهبٌ معلم بوذية الزن «فون- سو»:«حين لا يكون الكلام والصمت مسموحاً بهما، كيف للمرء أن يمضي في طريقه بلا خطأ؟»، فيجيب المعلم قائلاً:
«أتذكرُ تشيانسو في شهر مارس/ صرخة الدرّاج، شذى الأزهار البرية»
هنا تصوير يوحي، ولا تعليق أو شرح. وهذا هو جوهر الهايكو، أي جوهر نظرة وطريقة حياة تعرف في الهند والصين واليابان بوصفها «طريقة للتحرر»، تماثل، كما يقول «آلن واتس» أحد شراح مذهب الزن منذ العام 1957، «سواء السبيل» المعروف باسم الطاو، وتعاليم «الفيدا» و«اليوجا».. إلخ. هذه الطريقة لا يمكن تعريفها بالإيجاب؛ بل بقول ما لا ينتمي إليها، هي أقرب شبهاً بتمثال لا تظهر صورته إلا بإزالة قطع حجارة من كتلة. وتكمن فرادتها في قدرتها على الإيحاء وليس بتقديم أفكار وشروح وتعليقات.
الهايكو هنا ليست مجرد شكل شعري؛ بل هي أيضاً شظية مضيئة يمكن أن تضيء الثقافة اليابانية، شأنها في ذلك شأن الشظية التي تمثل على هيئة هولوغرام بأشعة الليزر، فتجسد ثقافة بكل جوانبها. لهذا السبب ربما ينظر «ريجنالد بلايث» أحد أوائل مترجمي هذا الفن الشعري في مقالته «البوذية والهايكو» (1951)، إلى الهايكو على أنها «زهرة وتتويج لكل الثقافة الشرقية»، وأنها تشغل في نصف الكرة الشرقي ما يشغله في النصف الآخر الغربي أمثال هوميروس أو دانتي أو شكسبير أو جوتة.
الشاعر الثاني الذي قدم الهايكو إلى عالم ثقافته هو الهندي «رابندرات طاغور» (1861-1941). وجاء هذا التقديم في وقت من المعروف فيه أن في الهند تشكيلة من الأشكال الشعرية بالغة الثراء، بعضها قصير مثل الهايكو، إلا أن هذه الأخيرة أثارت اهتماماً عميقاً في عالم الشعر الهندي، فلم تنتشر ترجماتها في مختلف لغات الهند التي يصل عددها إلى ما يقارب 22 لغة فقط؛ بل كتبها كثير من الشعراء، ولا زال الاهتمام بها شائعاً حتى اليوم.
كتب «طاغور» حكاية رحلة له إلى اليابان في لغته البنجالية في العام 1916، تحدث فيها عن الهايكو مستشهداً ببعض منها بعد أن ترجمه إلى البنجالية، وقدمها قائلاً:«.. لا نجد قصيدة من ثلاثة سطور في أي مكان آخر في العالم، سطور ثلاثة كافية بالنسبة لشاعرها وللقرّاء»، ثم يضيف «إن قلب الياباني لا ينبض مثل شلال متدفق؛ بل هو أشبه ببحيرة».
إذا انتقلنا إلى أمريكا الجنوبية نجد الشاعر المكسيكي «خوسيه خوان تابلادا» (1871- 1945) يطلق موجة هايكو لم ينقطع ترددها في عالم الثقافة الإسبانية/الأمريكية طوال قرن تقريباً. وأيضاً جاء استخدام هذا الشاعر للهايكو في أعماله الأولى؛ بعد زيارته لليابان في العام 1899، وما تلاها من زيارات. وأحدث تقديمه لهذا الفن أثره في جيل كامل من شعراء المكسيك. ويلاحظ أن اهتمامه تزامن مع رواج بوذية الزن بين الكثير من أدباء أمريكا اللاتينية.
وسنلاحظ أن هذه التجارب الثلاث، الأمريكية والهندية والإسبانية، حملت المشكلات ذاتها تقريباً التي بدأت تشهدها ثقافتنا منذ أن بدأنا التعرف إلى هذا الفن الشعري، وإن تفاوت مستوى التناول؛ بفعل اختلاف المجتمعات واللغات والموروثات.
_________
*المصدر: الخليج الثقافي

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *