*أدونيس - 1 – روى المُهاجِر القديم: كانت قدَماي في الهجرة أكثرَ يقيناً، لكن كان للهجرة صوتٌ يهمس دائماً في أذنيّ: «الأملُ ذيْلُ طائرٍ يحترق». - 2 – في البحر المتوسِّط، اليونانيّ– الفينيقيّ، الرّاقدِ حزيناً مُبَعثَراً على شطآن التّاريخ، بحرٌ آخرُ حديثٌ يكاد موجُه أن يتوقّف عن الحركة، ذلك أنّ فيروسات التلوُّثِ تكادُ أن تُطبِق على أحشائه. - 3 - أين الوسادةُ التي قلتَ، أيّها المُهاجِر، إنّ عنقَ اللانهاية يتوسَّدُها؟ - 4 – قالت المَرافئ: ما للضفّة الغربيّة من المتوسِّط، كمثل أختها الشّرقيّة: مجرّد قوافلَ للنّفط والغاز، مجرّد سُفُنٍ للقنابل والصّواريخ. قال الموج : أفضِّل يولسيس وسيرسي وصديقاتها. قالت الشّواطئ: أفضِّل أوروبّ العشيقة، وزوس العاشق. قالت الأرض: أهلاً بقدموس والأبجديّة. - 5 – بين الثّورات التي أسَّسَت لحقوق الإنسان، وتلك التي أسّسَت لحقوق التوحُّش، صار الماءُ الأوروبّيُّ سُمّاً، وصار الحديدُ الأميركيُّ حريراً: ظاهرةٌ خارقةٌ تنبّأ بها عرّافو الذّبحِ والسَّبْي. - 6 - يرتجف العاشق المُهاجِر: حطَّت على كتفيه حمامةٌ زاجِلة. يظنُّ أنّها تنقل رسالةً ليست إلاّ قنبلةً لها شكلُ العنُق. - 7 – أوروبّا! أوروبّا! تبدين في أفق «الرّبيع العربيّ» كمثل بيتٍ واسعٍ جدّاً، يدخل إليه الجميع من بابه الواحد، ويخرج الجميع من نوافذه المتعدِّدة. - 8 – تكاد الشّواطئ في ضفّتَي المتوسِّط أن تفقدَ ذاكرتَها. تبدو كأنّها لم تعُدْ تعرفُ كيف تقرأُ مَوْجَ التّاريخ. - 9 – الطفلُ المُهاجِرُ الذي خرج، الأحدَ الماضي، من خيمةٍ آوَتْه في الضّفّة الغربيّة من المتوسِّط، لم يَعُدْ بعد، خِلافاً لما عوَّدَتْهُ خطواتُ الشّمس. ينتظرُه على عتبة الخيمة صَندَلٌ تعشقُه قدماه. الغَسَقُ الذي تلا غيابَه تحوَّل إلى منديلٍ أسود. لا يزالُ أبَواه، احتفاءً بذِكراه، يُمسِكان، أينما سارا، بيد الشّمس. - 10 – جاءت الشمسُ هذا الصّباح، في عباءةٍ من الغيم. جلَسَتْ في ظلَّ صنوبرةٍ، قرب الأبجدية في أوغاريت، مُديرةً وجهَها إلى الغرب، وأخذَت تبكي. هكذا أنظر إليك أيّها الشّعر، مُصغِياً إلى هَمْس الضّفّتين: حلمٌ آخر هو الملْح مِلْحٌ آخر هو الحلم. أنظر، فيما يطوّقني عقدٌ طويلٌ من أشجار الخريف، يضربُ عنقَ الفضاء. - 11 – كتبَ فلاّحٌ من مرسيليا رسالةً إلى المطر يدعوه إلى زيارة حقلِه. لكنّ المِحراثَ الأميركيّ صرخ في وجهه قائلاً: «كان عليك أن تسألني أوّلاً». - 12 – لا تنسَ، أيُّها البحر المتوسّط! أَلَمْ تَقُلْ لنا مراراً: في الزّبَد، يتصالحُ المُهاجِرُ والمُقيم، القاتِلُ والقَتيلُ، ويتساوَيان؟ - 13 – أجسامٌ على الأرصفة، أجسامٌ في سِلالٍ من القَشّ، أجسامٌ في أَنْفاقٍ من الأنين والتسَوُّل: هل الهِجرةُ هي أيضاً، لغةٌ في توحّش الكون؟ - 14 – تنسى الشّمسُ في لحظةِ غيابها الأشياءَ كلَّها، إلاّ العشّاقَ الذين غرقوا في مراكب الهجرة، دون أن يتمكّنوا من وَداعِها. - 15 – أصغِ إلى نجمة الصّباح في ضِفّتِكَ الشّرقيّة، أيُّها المتوسِّط، تتحدّث عن الآخر الذي خانَتْه نجمةُ المساء، في ضفّتِكَ الغربيّة. وليس هناك إلاّ أذنٌ وحيدةٌ تُصْغي. إنّها أذنُ الرّيح. أصْغِ أيُّها البحر. - 16 - امتلأَت ساحاتُ الشّرقِ العربيّ بالجثث. العجبُ أنّ العيونَ في الغرب لا تريد أن ترى هذه الجثثَ إلاّ محمولةً على أطباقٍ من الذّهب. خصوصاً أنّ بعضَ المدُن في هذا الشّرق بدأتْ تتغذّى بعسلِ السّماء مَمْزوجاً بلُعاب الغَرْب. إنّها الأبَدِيّةُ، تسقط هي أيضاً، في فخٍّ مزدوِجٍ شرقيٍّ – غربيّ. -17- مَن هذا الذي يتهَيَّأُ لكي يقصَّ الشّريط، إيذاناً ببَدْء الحفل الضّخْم الذي يُقامُ للهجرة، على ضفّتَيْ المتوسِّط؟ -18– ابْقَ، أيُّها العطرُ، يا عِطْرَ الهجرة، كما أنتَ : عِقْداً يتلألأ في عنق التّاريخ. -19– كم هو بائسٌ هذا العصرُ الغربيُّ – الشّرقيّ ! لم يستَطِعْ أن يتغلَّب على الرّماد فأخذ يطمسُ ما تبقّى من الجَمْر ! -20 – أيّتها الضّفّةُ الشّرقيّةُ من بحرنا المتوسِّط، مِن أينَ لكِ هذه الموهِبةُ الخارِقة: لا تتوقّفينَ عن رسم العناكِبِ على جدران الأيّام. -21 – قولي لنا، أيّتها الصّديقةُ الغالية، أيّتها الضفّةُ الغربيّةُ من بحرنا المتوسِّط، أنتِ التي دَرَسْتِ على يد الضّوء ولم تعودي قادرةً على الكتابة إلاّ بيد الظّلام،- قولي ماذا ستفعلين وما يكونُ فضاؤكِ المُقْبِل؟ -22 – للنّواعير عبقريّةٌ واحدة هي عبقريّة التّكرار، وهي إذاً وفيّةٌ وصادقةٌ. قالت أمس: الضفّةُ الغربيّةُ من المتوسِّط، خلافاً لكلّ ما يُقال، لا تريد الحريّةَ إلاّ لنفسها، ولا تريدها لكي تزدادَ تحرُّراً، تريدها لكي تزداد قدرةً على استعباد الضفّة الشّرقيّة، إضافةً إلى جميع الضّفاف. - 23– قالت الضفّةُ الغربيّةُ للضفّة الشرقيّة، تنصحُها: ليس المهمّ يا عزيزتي أن يكونَ لديكِ طريقٌ إلى الأمل، الأكثرُ أهمّيّةً هو أن يكون لهذا الأملِ طريق. -24 – وراء الضّفافِ كلِّها، جلاّدون في ثياب الرّصانة والتّعَقُّل. ولهم مطبخٌ خاصّ: لا يقتاتون إلاّ بأعشاب المال والهيكَل. ولهم حكمتُهم الخاصّة: الحريّةُ غالباً، هي أن تكونَ عبداً. -25- لكلٍّ من الضّفتين عشّاقٌ أصدقاء يترحّلون في سهوبِ المخيِّلة، مأخوذين بالقرون التي وضعتها الطّبيعة على رؤوس الأيائل. -26– الأقاليمُ التي يتمدّد البحر الأبيض المتوسِّط بين أحضانها، مصانعُ لكيمياءَ خاصّة تتنافس في إعطائه لوناً آخر غير البياض. أقاليمُ – فِخاخٌ، ومَهاوٍ. المكانُ الذي يسكن فيه هذا البحر، يفكّر ويعمل ضدَه. بيتُه حَرْبٌ عليه. - 27- بحْرٌ / حربٌ: حروفٌ واحدة، كلماتٌ متناقضة. صراطُكَ صعبٌ أيّها البحر، وهواؤكَ الواحدُ أهواء لا تُحصى. - 28– في كلّ ناحيةٍ من ضفتَي البحر المتوسّط، غاباتُ حبٍّ تكادُ أن تيبس. وهي تُمضي معظمَ أوقاتها في تعداد طيورها المَذبوحة. كلُّ وردةٍ فيها مُتَّهَمة: تنتهك الحواجزَ، وتحمل إثْمَ العطر. -29– أنتَ أيُّها الشّعرُ، في الضفّتين، لماذا لم يَعُد جسَدُ الأرضِ حَرْثاً لكَ؟ -30 – القصيدة – الأنوثة عناقٌ دائمٌ معكَ أيُّها البحر. يُخَيَّلُ إليَّ أنّني أسمعُها توَشْوِشُكَ: نرسيس هو أيضاً مرآةٌ للماء الذي يتمَرْأى فيه. -31 – يسألُكِ الموجُ، أيّتُها الضفّتان: إذا كان الترَحُّل بينكما جرحاً فكيف يلتئم؟ -32 – لكلٍّ منكما أيّتها الضّفّتان، صوتٌ يتلعثم، وصوتٌ آخر لا يجرؤ على البَوْح. وما أكثرَ الموتى الذين يقيمون في أحشائكما: مَن منكما تُراقِبُ نفيرَهم، مَن منكما تسمع النّذير؟ -33– يحيط بكما، أيّتها الضِّفّتان، عالَمٌ – لكلّ شيءٍ فيه سُرعةُ الرّيح، وربّما البرق. تأمَّلا، إذاً، في الكَوارِث حولَكما – تلك التي تفتك، خصوصاً، بالجهاز العضليّ الكونيّ. وَاسْألا، على الأقلّ، مصانِعَ السّماء: بماذا تلعب أجنحتُها المادّيّة؟ وماذا تُهَيِّئ ؟ -34– أيُّها البحر، إن كان لمستقبل ضِفّتيْكَ، هذه «الشّمس»، فكيف ستكون الظِّلال التي ترسمها؟ وما أكثرَ المُنشآت التي ترعاها هذه «الشّمس»، وما أعجَبَها! خصوصاً تلك التي صارت فيها النّارُ نفسُها مؤسَّسةً ضخمةً للزّراعة والرّيّ والتّنقيب عن الماء! -35– أيّتها الضّفّتان، ها هو الفضاء بينكما يكادُ أن يتحوّل هو نفسه إلى منفى. -36– بينكما، أيّتها الضّفّتان يتموَّج هديرٌ جامِحٌ يتصاعَدُ أبراجاً أبراجاً. لهذه الأبراج سلالِمُ يخشى التّاريخُ أن يضع قدمَيه على أدراجها. -37– لم أكُن أصدِّق، أيّتها الضفّتان، أنّ الفضاء يمكن أن يكون هاوية، أو إنساناً لا يتجاوز حجمُه سُمَّ الخِياط. أنتُما البُرهانُ السّاطعُ الذي يكذِّبني. -38– عادةً، يُعنى الإنسانُ بقبور أسلافه، أنتما، أيّتها الضفّتان، تؤكّدان شيئاً آخر: قبرُكُما هو الذي يُعنى بكما، - قبرُكُما أثرٌ حاضِرٌ لخطواتِكما الغائبة. -39– يُواصِلُ الماضي سفرَه في الحاضر بين ضفّتَي البحر المتوسِّط، كاتِباً رسائلَه إلى أصدقائه بحبرٍ أخضر. يُواصِلُ الحاضِرُ نبوءاتهِ، كاتِباً رسائلَه إلى أصدقائه بحبرٍ كأنّه الماء. هذه حالٌ ستقود، على الأرجح، إلى هذا المآل: يتشرّد المُطلَق في صورة النّسبيّ، مَحمولاً على كتف الظّنّ. وقد يُخَيَّلُ للنّاظِر في فضاء هذا التّشرُّد أنّه يرى أرنباً له ذيل طاووس، وأنّه مضطرٌّ أن يُحاوِر وحشاً يحتضِن غزالة. وربّما طُرِحَت عليه أسئلةٌ من هذا النّوع: هل حقّاً، سيُطيلُ الضّوءُ إقامتَه على هذا الكوكب – جالساً أبداً على كرسيّه المُتحرِّك؟ - 40 – تتعبُ سُفُنُ الظّلمات في تنقّلها بين هاتين الضفّتين، لكي تصلَ إلى الشّعر. لكن، سرعانَ ما تغادرُه: لا تحظى عنده بأيّ ملجأ، ولا تجدُ مَرْفأً. __________ *الحياة