ستيفن هاوكينغ.. الصامت الصاخب

هيلين مياليه *

ترجمة: أحمد حميدة

لقد أردى مرض شركو ستيفن هاوكينغ قعيداً ومصاباً بشلل شبه كامل، وذلك منذ فترة الستينيات، فلم يعد هاوكينغ قادراً لا على الحركة ولا حتى على التكلم والنطق، وبات دليله للتواصل جهازاً كان يسمح له بتخير كلماته على شاشة، بقبض خفيف لخده وجهاز أشعة تحت حمراء مثبتة في نظاراته، فيما كانت كلماته المهموسة لا تغدو مسموعة إلا عبر جهاز لمزج الصوت. ورغماً عن كل ما حل به، لم يستسلم ستيفن هاوكينغ أبداً لهذا العجز، وظل ممعناً في بحوثه العلمية حتى وفاته.

وقد ساهم هذان الوجهان اللذان اجتمعا في شخصه موهبته العلمية وإعاقته البليغة ـ في تحوله إلى أيقونة مشرقة، زاد في ترسيخ وضاءتها شريط «حكاية الزمن الرائعة» لجيمس مارش (والذي حمل في الإنجليزية عنوان «نظرية كل شيء» The Theory of Everything)، الذي تم الاحتفاء به سنة 1915 كرائعة سينمائية فريدة، وذلك بعد أن حظي بتصفيق النقاد وهتاف الجماهير في قاعات السينما.

البطل العلمي

لقد سبق وأن كتبت مقالاً في 8 يناير 2013، في اليوم الذي صادف ذكرى ميلاد ستيفن هاوكينغ، وأردت يومها أن أتحدث عنه بطريقة جديدة، مغايرة وغير معهوده، والتأكيد على الدور الحاسم للإحاطة البشرية والمادية التي حظي بها (…). ويبدو أنني، بما أثاره ذلك المقال من ردود فعل سلبية، قد أصَبت يومها وتراً حساساً، ولامست أسطورة من أساطير زمننا الحديث، كان هاوكينغ قد جسدها على نحو رائع: صورة ذلك الإنسان الوحيد، الذي بات عاجزاً عن الحركة وعن النطق، والذي كان يتوفق مع ذلك، وبفضل فطنته وبصيرته فحسب، في إدراك القوانين الكبرى التي تنتظم الكون.

أحياناً ما يقدم العلم على أنه نتاج عقل جبار أو تجلٍ لفكر محضٍ بالغ الصفاء، غير أنني أوضحت أن الأمر هو على العكس من ذلك، وأن هاوكينغ لم يحظ بفكر خالص الذكاء، وأن تفوقه كان يرتهن في الحقيقة إلى شبكة معقدة من عوامل بشرية وتقنية، كانت تمكنه من التفكير. وكنت بذلك قد زعزعت صورة البطل العلمي التي طالما ترسخت في الأذهان، ولكن أيضاً الصورة المألوفة لدى غالبية الناس عن الأسلوب الذي يشتغل وفقه البحث العلمي.

إنني أنتمي إلى ذلك الجيل من علماء الاجتماع والأنتربولوجيين ومؤرخي العلوم الذين يركزون اهتمامهم لا على العلم القائم، وإنما على العلم الذي يكون بصدد الإنجاز، وكنت لا أزال أتابع الجدل الذي يهز كوكبنا اليوم، وأعمل على فتح أبواب المخابر لمعرفة ما يدور داخلها وكيف.
و قد عُرف هذا التيار لسوسيولوجيا العلوم، الذي نشأ بين 1960 و1970 بتيار «الدراسات العلمية والتكنولوجية»، الذي أحياناً ما كان ينظر إليه على أنه مجرد حملة تستهدف النيل من العلم، والحال أن الأمر لم يكن كذلك أبداً، على الأقل من المنظور الفكري الذي كنت أنتمي إليه. لقد كان الغرض هو أن نقترب من العالم الغامض والأثيري للعلم كما كان يقدم لنا، وأن نمنحه قدراً ما من التماسك، ونقف على جوانب التعقيد في تشعباته الاجتماعية والمادية التي تمنحه أسباب الوجود. وإنه لمبهر حقاً.. العلم، حين يكون على قيد الإنجاز، ولا فتور يعتريه، ولا انفصال عن محدداته الاجتماعية، بل أن يكون شديد التشابك مع تلك المحدادات، ويسهم في سير مؤسستنا الاجتماعية.

سوسيولوجيا العلوم

وفي هذا الإطار كان تساؤلي عن الأسباب التي تولد الاعتقاد في أسطورة العبقري المنفرد، القادر على الإنتاج النظري اعتماداً على قواه العقلية فحسب، وهو الاعتقاد الذي كان سائداً ويحظى بدرجة كبيرة من الرسوخ. وتعلمنا سوسيولوجيا العلوم أن العلم هو نتاج لغة ضمنية.. واضحة، أو لغة فوضوية وغير رسمية، فكيف يكون الأمر يا ترى حين يتعلق الأمر برجل عاجز عن النطق؟ لقد علمتنا السوسيولوجيا أن العلم هو نتاج الإيماءات والاستعمال اليدوي للآلات، وكذلك المعرفة الضمنية أو المضمرة، كما الملكات المتوفرة لدى الأفراد، فماذا عن حال إنسان فقد القدرة على استخدام يديه؟ لقد علمتنا السوسيولوجيا أن العلم نتاج جماعي. ثم ماذا عن هاوكينغ الذي يبدو أنه قد جسد وضعية العبقري المتنسك؟

وحتى أتوفق في الإجابة على هذه الأسئلة، غدا هاوكينغ وعالمه هم قبيلتي طيلة عشر سنوات تقريباً. لقد راقبت هاوكينغ نفسه وسألته، وفعلت نفس الشيء مع مساعديه، وطلبته وممرضيه، ومع علماء فيزيائيين اشتغلوا معه، ولكن أيضاً مع المهندسين الذين أعدوا البرامج التي كان يستخدمها للتواصل، والصحفيين الذين كتبوا عنه، كما الفنانين الذين مثلوه.

أسئلة صعبة

وكانت أسئلتي هي التالية: كيف كان بإمكان هاوكينغ السفر عبر العالم وإلقاء المحاضرات، وهو العاجز عن الحركة؟ كيف كان بإمكانه كتابة مقالات علمية، وهو الذي كان يتعذر عليه الذهاب إلى المكتبة للبحث عن كتاب محدد، والتحاور طويلاً في مكتبه أو في أروقة الجامعة، أو تصفح نشرية علمية مهمة؟ كيف أمكنه حل المعادلات المستعصية، فيما كان عاجزاً عن استعمال قلم رصاص أو الكتابة على الورق أو استخدام ممحاة لشطب أخطاء يكون قد كتبها، أو الإمساك بقطعة طباشير وخربشة بعض أفكاره على السبورة؟ كيف كان باستطاعته الإدلاء بأحاديث علمية، في الوقت الذي كانت الإجابة على أدنى سؤال تتطلب منه أحياناً الساعات الطوال؟ كيف كان يتوفق في أسر متابعيه، والحال أنه لم يكن قادراً على التلاعب بصوته، أو إبداء أية حركات لشد انتباههم وإقناعهم؟

ثم.. هل أن عمل رجل متعدد الملامح (منظر ومحاضر وكاتب وممثل..) يمكن أن يختصر في قدرات هذا الأخير.. الدماغية والذهنية؟ هكذا كانت تقدمه الصحافة، وهكذا كان هاوكينغ يتحدث عن نفسه، إذ كان يروق لهذا الأخير التأكيد بأن عالم الفيزياء الفلكية لا يحتاج لغير عقله لإنتاج النظريات. وبالطريقة نفسها قدمه جيمس مارش في السينما. حينئذ.. كنت أريد التعرف على ما كان هاوكينغ يقوم به، كيف كان يتواصل مع الآخرين، وكيف كان هؤلاء يتواصلون معه، ثم أي نوع من المعلومات كان ينقل إلى حاسوبه…

الحدس والتخمين

«هاوكينغ هو رأسه» هذا ما نستخلصه حين نذرع أروقة قسم الرياضيات التطبيقية والفيزياء النظرية في جامعة كمبريدج، ونحن نتوجه بالسؤال إلى أولئك الذين اشتغلوا معه (زملاءه وطلبته)، وقد قال لي أحدهم: «طالما أنه كان لا يتقن الحساب، كان عليه أن يفكر، أليس هذا بالأمر المنطقي؟». ويبدو بالفعل، وحسب ما رواه الجميع، أن ما كان يميز هاوكينغ هو الحدس وقدرته الفائقة على التخمين، أي طاقته على إثارة المسائل ذات الأهمية وتصور حلول لها، ويبدو أيضاً أنه كان قادراً على الذهاب مباشرة إلى الهدف، دون القيام بأية عمليات حسابية أو اللجوء إلى طريقة مختصِرة للحل.

إن كانت المهارات الفكرية التي وُهبها هاوكينغ متلائمة ومجال الفيزياء التي كان يمارس، فإن المنظّر الفيزيائي كيب ثورن، كما آخرين كثر، يعتقد أيضاً في وجود علاقة بين تنامي مرض هاوكينغ وأسلوب تفكيره. فحين حرمه المرض بصورة حتمية من استخدام يديه، يكون قد حدَّ من قدرته على المعالجة الحركية التي يتطلبها كل عمل حسابي، مبرزاً باحتجابها، وعلى نحو شديد الوضوح، الدور الأساسي لجسم متحرك في أي عمل رياضي تكون له طبيعة تحليلية: «لأنه يكون من المحال القيام بعمليات حسابية طويلة ومعقدة دون كتابة معادلات، فإنه.. وبصورة مدهشة، يبدي أداء جيداً حين يتعامل مع المعادلات، غير أنه لا يفعل ذلك بسهولة، وعلى النحو المتاح لأغلب نظرائه من علماء الفيزياء الآخرين».

ميزة نافعة

في الواقع أن ستيفن هاوكينغ، كما يقال عنه، وكما يقول هو عن نفسه، كان قد حوّل إعاقته إلى ميزة نافعة، وطور أسلوباً يمكنه من التغلب على قصوره، وذلك بإعادة تحديده للأسئلة بطريقة تجعله قادراً على مشاهدة إما الحل (أي مشاهدة ما قد يكون مشابهاً له فيزيائياً)، أو الإطار الذي تطرح فيه المسألة، لحلها بمعالجة للصور تكون ذهنية (أشكال، بنى هندسية، نماذج مجهزة..) بدلاً من المعادلات. فيكون بذلك قد غدا متحكماً، وعلى نحو جيد، في المسائل التي يكون قادراً على ترجمتها هندسياً، ولكن أقل اقتداراً في تلك التي تتأبى على مثل ذلك التغيير.

يبدو أن ستيفن هاوكينغ كان قد أقر مثل تلك البداهة، وبرر طريقته في التفكير ـ وطريقته في تعاطي الفيزياء ـ لا بإثبات ما كان قد أثبته من قبل، من أن الجسد لن يكون بحاجة إلى القيام بأي دور ضروري في إطار النشاط التنظيري، ولكنه يحتاج إلى التخلص مما قد يبدو سنداً لخصوصية المنهج العلمي وعقلانيته: اللغة الرياضية. وقد كتب قائلاً: «لا أحد يحتاج إلى معادلات للتعاطي مع الفيزياء، إن الأفكار الجوهرية يمكن أن تفسر على شكل كلمات أو صور».

ومع ذلك، فإن ما يبدو نتاج تصور استبطاني وذهني ـ معالجة الصور في الرأس ـ يقوم بالنسبة لهاوكينغ، وفي جزء منه، على مدى القدرة المتوفرة لدى المرء، أو في فعل جسدي يمكنه من رؤية عينية لرسوم بيانية: تمثلات ثنائية الأبعاد، أي عناصر مادية ملموسة يمكن رؤيتها. وكما يشير إلى ذلك كريستوف غالفار، أحد طلبة هاوكينغ: «لو لم يقع اكتشاف بعض التخطيطات أو الرسوم البيانية من قبل روجيه بينروز أو ريشار فايمان، لكانت حياة هاوكينغ أعسر بكثير».

لقد وفرت له الرسوم البيانية حينئذ إمكانيات جديدة، بل انفتاحه في اتجاه عكسي، كان بإمكان أي صيغة رياضية إعاقتها. ولكن، ولنطرح السؤال من جديد، كيف كان هاوكينغ يباشر عمله، وكان على النقيض من نظرائه، غير قادر على الكتابة اليدوية للمعادلات، ولا إنجاز الرسوم البيانية بمفرده. ويتبدى دور طلبته في هذا المجال أمراً أساسياً؟

جهاز تنفيذي

كان ستيفن هاوكينغ غالباً ما يكون محاطاً بأربعة من طلبته، كان يلتقيهم بشكل منتظم، وكان هؤلاء منتظمين على التوالي بالسنة الأولى والثانية والثالثة والرابعة في إطار إعدادهم لشهادة الدكتوراه، وكان إعداد أطروحة الدكتوراه في كمبريدج يتطلب أربع سنوات، وكان كلما غادر أحدهم الحلقة، يعوّضه آخر. وبعيداً عن كونهم مجرد أيدي وأرجل وأذرع هاوكينغ (أي ما يشبه الجهاز التنفيذي لفكره)، كان هؤلاء الطلبة الشبان يتألقون بتفوقهم العلمي، ويتم انتدابهم بجامعة كمبريدج على إثر مناظرة شهيرة (شهادة الدراسات المتقدمة في الرياضيات). كانت تجتذب كل سنة مئات الطلبة من كل أنحاء العالم، ليتم الاحتفاظ بمئة طالب منهم فحسب. وبعد مضي تسعة أشهر تحضيرية، يتم اختيار أربعة منهم، ويكون لهؤلاء امتياز إنصات هاوكينغ إليهم، ليتم بالنهاية تخيّر أحدهم.

ويعيّن هاوكينغ لطلبته، وطبقاً لمؤهلاتهم، مواضيع مختلفة تسمح بوجود حد أدنى من التداخل بينها. ولعل ذلك يفسر قدرته على مضاعفة مجالات تدخله، وأن تكون له «رؤية إجمالية»، كما يروي عنه ذلك طلبته. وبصفة عامة، كان الطالب المنتدب يتابع موضوع بحث ذلك الذي يكون قد سبقه.

وحين التقيتهم للمرة الأولى، كان الأول يدرس الثقوب السوداء الافتراضية (الثقوب السوداء الوقتية التي تتشكل من التموجات الكوانطية للزمكان) وقابلية توقعها، فيما كان الثاني يدرس علم الكون الفيزيائي (الكوسمولوجيا) الكوانطي وانتشار الثقب السوداء. أما الثالث فكان يدرس الصياغة الرياضية للنسبية العامة، فيما كان الرابع متفرغاً لدراسة ثبات حالة الفراغ.

أعين للتفكير والتواصل

وبالنسبة لذلك الذي يقول إنه «من السهل عليه أن يكون عالماً في الفيزياء الفلكية، لأن كل شيء منطو في الرأس، وأن لا مهارة جسدية تكون ضرورية»، قد نجيب معترضين، أنه كي نكون قادرين على التفكير، لا بد من استخدام جيّد للأيدي، وإن تعذر ذلك، أن يتم استخدام أيدي الآخرين، وخاصة أعيننا التي بها نرمق الآخرين وهم يعملون ويكتبون ويحسبون ويرسمون.

فمنذ 1968، ومنذ أن أصيب بثقب في القصبة الهوائية، كان هاوكينغ قد فقد صوته، وأصبحت أداة التواصل الوحيدة لديه هو الحاسوب، ويتم اختيار الكلمات التي يكون الحاسوب قد تخيّرها عبر حركة للعين، فيما يتولى جهاز لمزج الأصوات، نطق الأصوات التي يكون الحاسوب قد كتبها بشكل واضح. ونظراً إلى أن العملية كانت تتسم بالبطء، كان طلبته يتواصلون معه بطرح أسئلة عليه يجيب عليها بالإيجاب أو بالنفي بتحريك حاجبيه إلى الأعلى أو إلى الأسفل.

هكذا.. وبالطريقة ذاتها التي طورها الفيزيائي لتخيّر المعلومات التي كان يقترحها عليه محيطه (البشر أو الآلات) برفع أو خفض حاجبيه، سوف يكون بإمكانه في نفس الوقت استنفار أو تخيّر بعض المعلومات انطلاقاً من رسوم بيانية أنجزت أمام عينيه. ستصبح عيناه هكذا نقطة التمفصل وأداة الدفع في تلك الشبكة من الكفاءات المتكونة من أشخاص وآلات وأدوات نظرية.

وسوف يَطلب في أغلب الأحيان الإطلاع على الرسوم البيانية لبينروز كارتر، وهي تطبيق مباشر لأساليب الدراسة الشاملة لنظرية النسبية العامة، التي أنجزها الرياضي البريطاني روجيه بانروز خلال الستينيات من القرن الماضي. بصورة عامة، يستخدم هاوكينغ هذه التقنية حين يتم التحدث إليه عن نوع محدد من الأكوان، أو نوع محدد من الفضاءات، ومن ذلك مثلاً الزمكان حيث يوجد ثقبان أسودان تتسارع حركة أحدهما على حساب الآخر.. فالرسم البياني لبان روز وكارتر هو أداة بيانية تسمح بإظهار «الكون في كليته» داخل صورة محدودة الحجم، تترجم هي ذاتها معادلة أحياناً ما تكون معقدة. وبفضل الرسم البياني يغدو بإمكان العالم التحكم ببصره في ما قد يتجاوزه تماماً ويكون تبعاً لذلك لامرئياً.

هكذا، بالابتكار المثير لتخطيط بنروز وكارتر غدا بالإمكان بنظرة منخطفة القبض على العلاقات السببية التي تنتظم الكون بأكمله. وكما يشير إلى ذلك العالم بالكونيات الأميركي آلان غيث «إنه يحرف الفضاء بكيفية تجعل الضوء ينتشر وفق خط مستقيم، وهو أمر مفيد لفهم كيف أن نقاطاً مختلفة تكون موصولة، لأنه لا شيء ينتشر بالسرعة التي ينتشر بها الضوء». إن تخطيط بنروز وكارتر أداة استكشافية يسمح بتصور فضاء ما، «يصبح بشكل ما فضاءً حدسياً».

دور محوري للطلبة

بعبارة أخرى، يكون الإدراك الشامل، كما الروابط والقدرة الحدسية التي تعزى للطاقة الفكرية لهاوكينغ، هي في جزء منها نتاج تلك الأدوات. وبهذا المعنى يكون العجز الذي مني به هذا الباحث قد جعل أسلوباً من التفكير البصري مرئياً، أو ما يمكن أن نعتبره أسلوباً «تخطيطياً». ولكن، وكما تبينا ذلك من قبل، إن كان هاوكينغ قد غدا عاجزاً عن استخدام يديه للكتابة والتعامل مع المعدات، فكان يتعذر عليه تماماً رسم تلك التخطيطات، كان طلبته هم الذين يتولون القيام بذلك بدلاً عنه. وبالنتيجة، كان على هؤلاء الطلبة، كيما يشاركوه عمله، بحاجة إلى تطوير أسلوبهم في التواصل معه، والتوفق في قراءة لغة جسده، أي تهجي طريقته في «الكلام» وفي الكتابة «التخطيطية».

غير أن الأمر ليس بالبساطة التي قد نتصور. فأن نكون قادرين على قراءة تخطيط لبنروز وكارتر، فإن ذلك لا يتطلب مهارات فوق بشرية، إذ كل طالب متفوق يعرف كيف يتحكم في تلك الوسيلة المعيارية في مجال النسبية العامة، ينبغي له حينئذ أن يعرف لماذا ينجز ذلك التخطيط وكيف نحصل عليه على شكل معادلة، ولكن لن يطلب منه بالضرورة أن يكون قادراً على رسمه. وتتضاعف صعوبة المسألة حين يتطلب الأمر قبل ذلك معرفة هندسة الزمكان قبل أن يتم تحويله إلى تخطيط. وبعبارة أخرى، يكون التخطيط شبيهاً بترجمة لتلك الهندسة، التي تكون هي ذاتها حلاً لمعادلات أنشتاين.

وباختصار، كي يحصل لنا تصور ما، ينبغي أن يكون ثمة حسابات قبل ذلك. حسابات يقوم بها طلبة فطنون، تم اختيارهم بمنتهى الدقة والتحري، وتم تهيئتهم وفق مناهج محددة. بعملهم الدؤوب، توفقوا في اكتشاف فضاءات واعتماد مخططات. وفي الأخير.. كان هاوكينغ، كلما أُطلع على تخطيط جديد، إلا وقام بحفظه في ذاكرته، مما حدا بأحد طلبته إلى القول: «كان يكفي أن يكون قد شاهد مرة واحدة التخطيط، حتى يغدو منطبعاً في ذاكرته». وهكذا يُفسِر البعض إنتاجيته.

لا شك في أن هاوكينغ قد دفع إلى الأبعد العمل من أجل حفظ التخطيطات، بالنظر إلى عجزه عن تخفيف مهامه المعرفية بإنجاز رسومه التخطيطية بنفسه. ومع ذلك، وحتى تؤدي دورها في التفكير العلمي، لا يمكن أن تظل تلك المخططات منطبعة في ذاكرته فحسب، لا بد لها من أن تظل مستنفرة، أن يعاد رسمها، وأن تغدو بيّنة في أعين العالم، كلما انطرحت مشكلة ما، سواء كان هاوكينغ قد طلب ذلك بشكل واضح، أو أن يكون الطلبة قد استبقوا ذلك الطلب. نحن حينئذ بعيدون كل البعد عن صورة العبقري المتنسك.

ثم، وعلى عكس ما يقال عن هاوكينغ من أن كل شيء «يكون في الرأس»، فإن الرجل كان بحاجة إلى تفويض جزء من عمله إلى مجموعة المتعاونين معه. فطلبته هم الذين كانوا يتولون مهمة الحساب والرسم، وهم أيضا الذين كانوا يشاركونه البرهنة ويقومون بترجمة أفكاره وإغنائها وإعادة تأويلها. وكل العلامات الأساسية للعلم الخالص ـ التفكير، البرهنة، الحساب، التعليل، تقبل النتائج العلمية ـ كانت مدمجة وموزعة داخل المخبر.

جسد متعدد

ولئن جسّد هاوكينغ صورة العالم العبقري، وبالتالي التصور التقليدي للعلم (عالم من نظريات منتجَة أو مكتشفة عقلياً، عالم باحثين نزيهين وموضوعيين يعيشون أجواء الفكر الخالص)، فإن إشراقاته العلمية لم تتبلور إلا عبر سلسلة من الفاعلين الموهوبين. كانت الطريق شاقة ومضنية، وكل شيء غدا ممكناً بفضل تلك المجموعة من البدائل البشرية، الميكانيكية والفكرية التي جعلت هاوكينغ يعيش ويعمل ويفكر.

وإن كان لهاوكينغ جسد، فقد كان له أيضاً ما يمكن أن نسميه بـ«الجسد المتعدد والموسع»، الذي يكون هو أحد عناصره. بمثل ذلك الوجود الجمعي أمكن لهاوكينغ أن يجعل مرئياً ما لا يتيسر لنا رؤيته: إن العلماء ليس بوسعهم التفكير ما لم يكونوا موصولين بوسائل وآلات وأدوات نظرية، وتقنيات وطلبة ومؤسسات.

وقد يحملنا ذلك على إعادة التفكير، وبصورة مختلفة، في مسألة «العبقرية». هل يكون كل شيء في الرأس كما تروّج لذلك الصحافة؟ كلا.. لأن الأمر هو على العكس من ذلك، كل شيء يتموضع خارج الدماغ، فينجز ويعاد إنجازه بوساطة الأدوات، وفي حال هاوكينغ، الأفراد الذين كانوا يحيطون به. فهل يكون هاوكينغ حينئذ محض صرح اجتماعي؟ بالطبع لا، لأنه كان يقتات من شبكة.. كان يغذيها هو بدوره.

وسطاء العقل

طرحت الباحثة الفرنسية هيلين مياليه خلال تقصّيها عن سيرة العالم الراحل، العديد من الأسئلة حول «طريقة» عمل وتفكير ستيفن هاوكينغ، ومن تلك الأسئلة: كيف كان بإمكان هاوكينغ السّفر عبر العالم وإلقاء المحاضرات، وهو العاجز عن الحركة؟ كيف كان بإمكانه كتابة مقالات علميّة، وهو الذي كان يتعذّر عليه الذهاب إلى المكتبة؟ كيف أمكنه حلّ المعادلات المستعصية، فيما كان عاجزا عن استعمال قلم رصاص أو الكتابة على الورق أو استخدام ممحاة لشطب أخطاء يكون قد كتبها، أو الإمساك بقطعة طباشير وخربشة بعض أفكاره على السبّورة؟

وفي النتيجة توصلت هيلين مياليه إلى أن ستيفن هاوكينغ غالباً ما يكون محاطاً بأربعة من طلبته، كان يلتقيهم بشكل منتظم. وبعيداً عن كونهم مجرّد أيدي وأرجل وأذرع هاوكينغ (أي ما يشبه الجهاز التّنفيذيّ لفكره)، كان هؤلاء الطّلبة الشبّان يتألّقون بتفوّقهم العلمي، ويتمّ انتدابهم بجامعة كمبريدج على إثر مناظرة شهيرة (شهادة الدّراسات المتقدّمة في الرّياضيّات) كانت تجتذب كلّ سنة مئات الطّلبة من كلّ أنحاء العالم، ليتمّ الاحتفاظ بمائة طالب منهم فحسب. وبعد مضيّ تسعة أشهر تحضيريّة، يتمّ اختيار أربعة منهم، ويكون لهؤلاء امتياز إنصات هاوكينغ إليهم، ليتمّ بالنّهاية تخيّر أحدهم.

* عالمة اجتماع وعالمة في أنثروبولوجيا العلوم. تدرس بجامعة كاليفورنيا وبيركلي بالولايات المتحدة. ترتبط أعمالها بالنبوغ العلمي والذاتية والإدراك الموزع وبالعلاقة بين الإنسان والآلات.
___________
*الاتحاد الثقافي

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *