*خيري منصور
لو تنبهت جداتنا وامهاتنا إلى الأسلوب التربوي الذي كانت تمارسه والدة الشاعر الألماني جيته وهو ما تسميه الحكايات الناقصة التي كانت ترويها لابنها الطفل قبل أن ينام لربما استعدنا المحذوف من حكاياتنا الشعبية، ومنها تلك الحكاية عن الدب الذي كان يحرس صاحبه وهو نائم، وما أن اقتربت منه ذبابة وحامت حول أنفه حتى رماها بحجر شجّ رأس سيده، وانتهت الحكاية كما كنا نسمعها إلى حكمة تقول إن العدو العاقل خير من الصديق الجاهل.
والمحذوف من حكاية الدب هو ان صاحبه غرق في دمه لكن الذبابة نجت وفرت بعد ان أخطأها الحجر وذهبت لتحوم وربما تبيض على أنف سيد آخر ! كانت والدة الشاعر جيته تصمت حين تصل الحكاية ذروتها، لتثير فضول الطفل بحيث يتاح له أن يكمل بخياله الحكاية.
والحكاية الثانية التي عانت من الحذف هي عن الفأر الذي نجح في تعليق جرس في عنق القط، بحيث ما ان تسمع بقية الفئران الرنين حتى تعود لتختبىء في جحورها، والحقيقة ان ما حدث هو ان فأرا واحدا شجاعا علق جرسا واحدا في عنق قط واحد، اما آلاف وربما ملايين القطط فقد بقيت تتربص بضحاياها بحذروصمت ولكن ما علاقة هذه الحكايات الناقصة بالإعلام العربي وإلى حد ما بالثقافة الداجنة !
دببة الإعلام تسيء إلى سادتها بقدر ما تخدم أعداءهم، لهذا تشج رؤوسهم بالحجارة وهم مستغرقون في سباتهم، بينما يفر أعداؤهم وينجون بفضل حماقة الصديق الجاهل، ويتجلى ذلك في فقه جديد هو فقه التبرير والتسويغ للاخطاء، بحيث تتفاقم وتصبح خطايا، وبالرغم من أن سادة الدببة شاهدوا بأنفسهم مصائر أسلافهم وأمثالهم على أيدي الدببة الا انهم يلدغون من الجحر ذاته مرارا، وهم على الأغلب لا يقرأون التاريخ ظنا منهم انهم مُتفرغون لصناعته، لهذا لا يتلقحون ضد تكرار الإصابة أو اللدغ من الجحر ذاته.
والدب الاحمق قد تشفع له نيته الطيبة في الدفاع عن سيده الذي يعلفه ويوفر له المأوى، لكن الدب البشري بخلاف ذلك، فهو يدرك أنه يحرس سيده ويدافع عنه مقابل أجر، لهذا فهو ليس معنيا بمن يحرس نومه، انه يشبه من سماهم باتريك سيل بنادق للإيجار، بحيث يكون للجريمة ثمن بمعزل عن الضحية، وما كان للأخطاء التي اقترفتها نظم سياسية وأحزاب تحولت إلى قبائل مسلحة ان تتفاقم لو ان الدببة تقاعدت أو استقالت مبكرا من مهنتها الخرقاء، لكن فقه التبرير الذي غالبا ما ينتهي إلى التزوير يمتلك من الخيمياء ما يحوّل العضة إلى قبلة، والضارة إلى نافعة تماما كما يحول الحواة من مدعي خيمياء المعادن القصدير إلى ذهب وفضة، وهذا ما يذكرنا بحكاية ثالثة نصفها محذوف، هي أسطورة ميداس الأغريقي الذي كان يلامس التراب فيحوله إلى ذهب، ومن ترجموا تلك الأسطورة فاتهم ان يضيفوا بأن ميداس العربي في هذا الزمن قلب الأسطورة رأسا على عقب وكانت تلك معجزته، لأنه استطاع أن يحول الذهب إلى تراب أو حديد يعلوه الصدأ في مخازن السلاح !
ولأن نظم الاستبداد والاستعباد لا تثق بغير ما تفرزه وتسعى إلى تصنيعه أو استيلاده بأنابيبها فهي لا تطيق أي نقد، فهي معصومة وملهمة وما على الآخرين إلا التسبيح بحمدها وعليهم أن يقدموا الشكر والعرفان لأنها أتاحت لهم مديحها.
دببة الإعلام أصابت أنوف سادتها وأخطأت الذباب، ورسخت بمرور الوقت وتكرار هذه الكوميديا الرمادية تقاليد تتفوق على القوانين من حيث نفوذها والاحتكام اليها عندما تأزف لحظة السؤال الذي لا يتحول إلى مساءلة، والأسئلة حتى لو كانت استنكارية تبقى في نطاق الثقافة الداجنة ما لم تتحول إلى مساءلات سواء كانت أخلاقية أو سياسية. والمحذوف أيضا من حكاية الدب هو مصيره بعد أن أخطأ الهدف، وبعد نجاة سيده من الحجر، فهل يبقى في زريبة السيد ويرفل في نعيمه أم يعاقب !
ما حدث حتى الآن على الأقل هو ان الدببة تكافأ، وتتوارثها النظم ونادرا ما تفرط بها، لأنها وفية لمن يدفع الأجر، وحماقتها مطلوبة رغم ما تلحقه من أضرار، لأنها لا تفكر ولا تتخيل، وبالتالي هي الخادم الأمين الذي لا يعرف النقد ولا وعي لديه باستثناء ما سيناله من أجر على ما يقترف من حماقات.
ورصد ما أنتجته دببة الإعلام والثقافة في عالمنا العربي لا يحتاج إلى كمبيوترات ذكية، لأن المشهد يطفو على السطح، تماما كما تطفو الفطريات على سطح مستنقع، والواقع الاجتماعي حين يفتقد إلى الحراك، يصبح آسنا كالماء غير الجاري، وعندئذ يتاح لكل ما هو عديم الجذور وبخفة الريشة أن يطفو، والمفارقة هي ان هناك دببة شجّت رؤوس أصحابها وأخطأت خصومهم، لكنها لم تغادر مواقعها!
__________
*القدس العربي