*ممدوح فرّاج النابي
علاقة الرواية بالأيديولوجيا وثيقة، فالتحليلي السوسيولجي، يرى أنَّ الرواية كشكل أدبي أنتجته البرجوازية الأوروبية خلال صعودها الثوري. كما أن الأدب ومختلف أشكاله هو أحد الحقول المهمّة للأيديولوجيا وعملها، وهناك مَن يرى أن الأدب بمثابة إعادة إنتاج للأيديولوجيا وليس نتاجًا لها، فهي موجودة قبله.
والحقيقة أن مفهوم الكتابة قائم على عملية تحويل للغة وتشكيلها، وبمعنى أدق تقوم الكتابة بتنظيم الأيديولوجيا ووضعها في شكل جديد هو النّص الأدبي. وعن طريق التصوير الأدبي تصبح الأيديولوجية مرئية “تمشي على رجليها” وفقًا لمصطلح عمار بلحسن. وبما أنّ الرواية في إحدى صورها نموذج تموج فيه مختلف التمثّلات والأفكار والمفاهيم التي يملكها الناس عن نشاطاتهم وممارستهم، وهو ما يوازي مفهوم الأيديولوجيا في معناه البسيط. فكيف استطاعت الرواية أن تصوغ هذه التصورات عبر شخصياتها. و
للوقف على هذه العلاقة الشائكة بين الرواية والإيديولوجيا، سأقف عند عملين الأول: رواية “ثلج” للتركي الحاصل على نوبل، أورهان باموق، والرواية صادرة عن دار الشروق 2017، والثانية: رواية “كل هذا الهراء” لعزالدين شكري فشير (صادرة عن الكرمة 2017). والدافع لقراءة الروايتين معًا، أوّلاً: هو ما تمثَّل لي من وشائج تربط بين الروايتيْن. وثانيًا: توضيح كيف انعكست الأيديولوجيا على الشخصيات في العملين.
تنطلق الروايتان من نقطة سياسية بامتياز. فرواية “ثلج” لأورهان باموق، تتخذ من حادثة انتحار الفتيات في مدينة قارص محورًا لها، فتبدأ بوصول الصحافي والشاعر “كا” إلى المدينة ليجري تحقيقًا حول الموضوع وهناك يلتقي فئات الشعب المختلفة؛ الإسلاميين والقوميين والعلمانيين والانقلابيين ورجال الدين المتشدّدين، وكذلك أُسر الضحايا، ويقدِّم وجهات متعدِّدة عن أسباب الانتحار، وفقًا للانتماءات الأيديولوجية.
ويتصادف أثناء هذه الرّحلة انتخابات البلدية التي يتنافس فيها أحد مرشحي التيار الإسلامي، لم تكن الرحلة إلا حيلة للتعرُّف على الصِّراعات الأيديولوجية التي تحكم المنطقة برمتها، بل كاشفة لكثير من أسباب الأزمات الآن. أما رواية عزالدين شكري فشير “كل هذا الهراء” فهي تتحدّث عبر بطليها عمر وأمل عن انتكاسات 25 يناير وما حلَّ بأصحابها من هزائم وخيبات، فالرواية تستعيد وقائع ما حدث عبر فلاشة تصل إلى الراوي بعد قضية التمويلات الأجنبية.
من الأشياء اللافتة في العمليْن أن الزمن يكاد يكون محدودًا، فرواية “ثلج” تدور في أربعة أيام هي مدّة الرحلة الاستقصائية للصحافي، وبالمثل رواية عزالدين شكري، تدور في زمن محدّد، قوامه يومان يقضيهما عمر في فراش أمل مفيد يحكي لها حكايته منذ أن تركه أبوه في السّودان يتربى مع أبناء الجماعات الإسلامية، وصولاً إلى عودته إلى مصر قبل أحداث الثورة، ومشاهده عن الثورة عبر أصدقائه الذين شاركوا وانتهوا نهايات فاجعة. كما أن تقسيمات الزمن الفيزيقي: صباح وظهر وليل ظاهرة في الروايتين. كما يظهر في الروايتين المؤلف الحقيقي بوصفه الرّاوي للحكاية التي جاءت إليه عبر وسيط.
في رواية “ثلج” يظهر المؤلف الحقيقي في الفصل 29 حيث يُعلن باموق عن نفسه وأن مذكرات الصّحافي والشاعر “كا” وصلت إليه عن طريق أخته، لكنّ أورهان باموق لا يكتفي بالمذكرات، فيذهب في رحلتيْن ليسدّ ثغرات السَّرد ويتحقّق من الأحداث المروية. وقد كانت الرحلة الأولى إلى قارص وقابل فيها جميع الشخصيات التي وردت أسماؤها في المذكرات: إيبك حبيبة “كا”، وأختها قديفة عاشقة الإرهابي كحلي، ووالد تسليمة الفتاة المحجبة المنتحرة، ونجيب عاشق قديفة. وغيرهم.
أما الرحلة الثانية فكانت إلى ألمانيا بعد مقتل “كا”، وذهب ليبحث عن أسباب وفاته، والمكان الذي عاش فيه كا أثناء سنوات النفي، وعشيقات “كا”، فيجمع كل ما يتعلَّق بكا. أمَّا في رواية “كلّ هذا الهراء”، فتصل أحداث الرواية إلى الكاتب عزالدين فشير عبر ملف صوتي سلّمه عمر فخرالدين بناءً على اتصال مُسبق من أمل مفيد إحدى شخصيات الرواية، كما يعلن عن نفسه منذ البداية، ويُحدِّد دوره بأنّه أعاد صياغة الحوارات فقط بلغة بسيطة، ما عدا ذلك فهو مجرد ناقل، وليس راويًّا للأحداث.
صورة فاسدة ومضللة
رواية “ثلج” بدأت من نقطة محدّدة وانتهتْ إلى عوالم مُتسعة، تجاوزت مكانها الضيق مدينة قارص شرق الأناضول، وأيضًا موضوعها الذي بدأت منه، كما أن جميع الشخصيات مرتبطة بالحدث الجوهري، جميع الشخصيات متورِّطَة في الحدث، أما في رواية “كل هذا الهراء” فعمر أثناء حكيه يحكي حكايات مُتفرِّقة، كل حكاية تصلح لأن تكون رواية بامتياز لو استطاع فرد قماشتها، والعمل عليها جيّدًا، لكنّ عزالدين فشير جمع الحكايات التي تدين ما حدث، مكتفيًّا بوجهة نظر واحدة، وجهة نظر الطرف المتضرِّر، أمّا الذي قام بالضرّر فلم نرَ وجهة نظره، ودفاعه لماذا فَعَلَ ما فعل؟
وهو عكس ما قام به باموق الذي نجح في جعل بطله الصحافي أن يكون وسيطًا بين الجميع، نقل الآراء بحيدة، الغريب أن عزالدين فشير حمّل الإخوان جانبًا من إخفاقات الثورة، وتقييد الحرّيات خاصّة في قصة المثليين شريف وبهاء، بل جاءت الحكاية المثليّة دخيلة على السرد، وبالمثل حكاية هند التي تمّ اغتصابها في الشارع من قبل الضابط، والخطة التي أرادت أن توقعه بها فقتلت صديقها باسم. سعى فشير لأن يكون مدافعًا عن ثورة 25 يناير إلا أنه قدَّم دليلَ إدانةٍ عليها في صور العلاقات الإباحية بين باسم وهند، والشاذة بين شريف وبلال ثم شريف وبهاء، وبين عمر ابن أحد الإرهابيين والمتربي على يد الجماعات، وأمل التي يصفها عمر – دومًا – بأنها شرموطة. وفي موقفه لكي يكون ضدّ تقييد الحريات، لم يفعل سوى أن تلاعب باللغة حتى لا يقع تحت دائرة القانون كما حدث مع الروائي أحمد ناجي الذي يذكره في الرواية، فراح يستخف بالكمات ويكرِّر الكلمة التي توقع صاحبها تحت طائلة القانون، دون أن يجرؤ على التصريح، واكتفى بالهروب بالسخرية!
الصُّورة التي قدَّمها فشير للثورة “سيئة” مع الأسف، حتى الآن لم أقتنع لماذا أَقْدَمَ عمر على هذه العلاقات المجانية والباذخة مع أمل، فأمل ربما لطبيعة تكوينها ونشأتها في واقع مغاير، وحياتها السابقة، والأهم أن عامل الحبس كان مهمّا في حالة الانفتاح عندها، لكن الإقدام عليها منذ اللّقاء الأول لم يكن مُبرّرًا وجاء كأشبه بالتوابل للرّواية.
في الجنس حاضر في نصّ باموق بحذر في الرواية، وتعامل معه في إطار علاقة حبِّ قديمة بين إيبك وكا، ولم يسمح لهما بممارسة الحب الجسدي إلّا بعد أن تحقَّق شرط إيبك، بأنها لن تمارس الحب في وجود أبيها بداخل الفندق. وعندما تحقّق الشرط مارست الجنس معه بكل أريحية، وفي المرات التالية انتقل “كا” إلى مكان آخر بعيدًا عن الفندق حتى يكون وفيّا بالشرط. الجنس في رواية فشير جاء مجانيًّا إلى حد الابتذال.
بنية الحكاية عند باموق قائمة على حسّ بوليسي، يتكشّف مع نمو السّرد وتصاعد الأحداث، بل إنّ مع تنامي السّرد نفاجأ بالأحداث وبالنهايات الغير متوقّعة، أما عند فشير فالنهايات معروفة ومن ثمّ كان استكمال القراءة بدافع الفضول: ماذا يريد أن يقول بعد كل هذا الضجيج؟
بطل باموق ذهب إلى قارص واكتشفَ أسبابا جديدة للسعادة عبر علاقة قديفة بكحلي، أو في علاقة طالب الأئمة والخطباء نجيب الذي كان يحب قديفة والله معًا، وتجلّى له هذا الحب كثيرًا. التغيير المهم أنّ الشّاعر كا الذي توقف عن كتابة الشعر لمدة ثماني سنوات عاد إليه الإلهام في هذه الرحلة، وكتب تسع عشرة قصيدة منها قصيدة ثلج التي جاء منها عنوان الرواية، حيث تجمَّدت الأحداث بعدما حدث الإنقلاب إلخ… أما في رواية عزالدين فشير فعمر وأمل التقيا على الفراش وحكى عمر حكايات ما قبل الجنس وبعده، ما التغيّر الذي حلّ عليه أو عليه؟! بعد انتهاء الوقت، غادرت أمل وعاد عمر إلى واقعه. إذن ما النتيجة التي خرجت منها من الرواية؟! لا شيء مع الأسف، روح الانهزامية تسري في الرواية وكذلك الشخصيات، وهي روح سلبية ومعوّقة.
يتعامل معظم الروائيين العرب مع مفهوم الرواية على أنها حكاية ممطوطة بلا هدف، فائض كلام لم يجد مَن يسمعه منه فيكتبه على الورق ربما يجد قارئًا لديه وقت شاغر يقضيه في قراءة ما يظنه إبداعًا، الأمثلة كثيرة جدًّا، ومع الأسف لروائيين حقّقوا نجاحات طيبة في أولى أعمالهم لكن مع الأسف لم يحافظوا عليها.
في ظني أن الرواية في عصر ما بعد الحداثة وقريناتها تجاوزت الحكاية إلى آفاق جديدة، حتى صارت الرواية أشبة بدراسة أنثربولوجية للمجتمع والثقافة، ومن ثمَّ يتجاوز النَّص مفهوم “النص الإشاري” عند ريموند وليامز، الذي هو نص وصفي تسجيلي للأحداث التي تقع في لحظة ظهور النص، إلى “النّص الشرطي” وهو النصّ المتحقّق في الرواية الغربية وقليل من رواياتنا العربية، وهو حسب ريموند وليامز هو “نصّ استشرافيّ استكشافي يحاول دومًا أن يغيّر ويكسر حدود اللحظة التاريخية التي يوجد فيها”.
فكرة رواية فشير ولغتها جميلة لكن ضاعت بكثرة التفاصيل والوقوف على جانب واحد، حتى فكرة الانتقام مِن ضابط أمن الدولة جاء بها على استحياء عبر خيانة زوجته مع حبيبها القديم. كان حاجز الخوف موجودًا في الكتابة، ولم يتحرّر بالتلاعب بالألفاظ. كان من الممكن أن يغزل من شخصية عمر الهارب والناقم على الجماعات حكاية تتقاطع مع حكاية أمل التي هي ضحية أب ومجتمع، وإن كان -مع الأسف- حبس الشخصيتين المهمتين داخل السَّرير، ومن ثمَّ ينطبق عليها الاسم الأول للرواية “أمل وعمر في الفراش”.
ثنائية “الإيشارب أو الوطن” التي كانتْ تتردّد في رواية باموق، مازالت تؤرِّقُ المجتمع التركيّ حتى بعد أنّ حلّ حزب ذو توجّه إسلامي خالص في الحكم. فالتعدّدية التركيّة ما زالتْ تحكمها أيديولوجيات ترى في الحجاب عقبة، ولكن حالة الوئام التي انتهى إليها باموق في نهاية الرواية، بأن اقترح الانقلابيون على قديفة أن تُمثّل دورًا في مسرحية من إعداد وبطولة الممثل الشهير صوناي ظائم، مقابل صفقة مفادها إطلاق سراح كحلي، ولكن تنتهى المسرحية عكس ما ينتظر الجمهور بأن تطلق قديفة ثلاث طلقات على صوناي الذي يرقد ميتًا بعدها.
ما مرَّره باموق في روايته التي عايشت أحداثها صراعات بزوغ تيار الإسلام السياسي والتي ترفض قديفة خلع حجابها مقابل خروج عشيقها، يتحقَّق الآن في نبوءة من قبل باموق بحالة من المواءمة السياسية بين أحزاب ذات أيديولوجيات متناقضة فكريًّا ودينيا. بعد نهاية رواية فشير تساءلتُ ماذا يريدُ أن يقول لنا: هل يريد أن يُكرِّر ما قالته الدولة العميقة على الثورة والثوّار والنشطاء؟
إذا كان هذا غرضه فمع الأسف كلّ هذا موجود وموثق على النت مثل شهادة هند التي استعان بها في الرواية كدليل على ما قامتْ به الشّرطة من انتهاكات. كشف العملان عن حيلة كل كاتب إيديولوجيته في تمرير إيديولوجيته المؤمن بها. الفارق أنّ أورهان باموق حمّل شخصياته ما يؤمن به. في حين أنّ عزالدين فشير كان صوته هو الحاضر، ومن ثمّ خرجت الرواية إلى المنشور السياسي، وخطابة زاعقة وهو ما يتنافى مع أدبيّة الخطاب الروائي.