الحافلة

خاص- ثقافات

*عبد القادر صيد

في طريقي إليكِ تعثرت بجماجم بلورية تشع أسطورة يصلح أن يرويها شيخ أعمى ترتعش يداه فلم تعد تصلح للضغط على الزناد، كما لم تصبح ذاكرته تسعفه في استرجاع ملامح بني آدم ، فيكتفي بخلاصة مفادها أنهم كائنات تتحاب و تتنافر بالمصادفة و لأتفه الأسباب.. كلما تقدمت نحوكِ اصطدمت رجلاي  بقطع غيار أنثوية تصدر منها رائحة شياط زكية ، يعلق عبيرها على جدار أنف الذاكرة مدى الأيام،تردد سمفونية ألف قطعة و قطعة ،و هي تعني بذلك ألف خيانة و خيانة افتراضية ،هذا طبعا إذا حكمنا حكما قاسيا كحكم نظراتك الأولى قبل أن تسلمي لي النسخة الأصلية من شهادة الوفاة.. فما كدت أصل إليك حتى وجدت سماء صافية لا سحر فيها ،         و سمعت ألحانا من تأليفي لا أنكر نسبتها إلى أناملي ،لكن كلماتها ليست لي ،و أيضا المذكوران فيها ليس أنا و لا أنت ؛ هي أغاني شعبية متداولة مفروض علينا أن ننسجم معها ، و أن نملأ الفراغ فيها باسمينا الذين صارا أجوفين كظل خائف في ليلة عاصفة مثيرة للهلع .
الحافلة هذا الصباح خالية نوعا ما ، بجانبي كهل يبدو من تقاسيم وجهه أنه مدخن بامتياز ،لكنه لطفا و أدبا يمتنع عن تعاطي التبغ، كما تبدو عينا الشاب الجالس بجابنه محبتين للغاية ،و لكنهما تلطفا و حياء تمتنعان عن هوايتهما المفضلة ، فينزل رأسه كلما مرت إحداهن  و لا يرفعه إلا بعد وقت مستقطع يصلح لأقصر نشيد وطني في العالم ، يختزل وطنه داخله في وقع تلك الأقدام السادية التي تبالغ في إيذائه عمدا دون أبسط تعويض ،يوما ما سيرجع في هذه الحافلة و بجانبه تذكرته إلى السعادة الموهومة و سيغيضهن و سيلفظن أنفاسهن و دراهمهن بين أيدي النفاثات في العقد.
أفتح النافذة فتتهافت على أنفي روائح الأشجار ، و نكهات بعض الأطعمة المنبعثة من تلك المنازل الريفية التي تحمل معها ذبذبات السعادة ،و تشي بالكثير من الانتعاش و الرضا بالحالة العاطفية المتاحة ،و الدليل على ذلك أنهم يتشبثون بالعيش في هذه الجبال الوعرة و الغامضة .. ماذا يدور بينها و بينهم من حوار؟ و ما هي الضمانات التي تقدمها لهم ؟ وحده عمي إبراهيم يعرف ذلك ، و هو الذي قضى شبابه في الجبال مجاهدا ، و بعد الاستقلال عمل حارسا في إحدى المؤسسات الحكومية ، ثم عند تقاعده رجع إلى الجبال ، و صادف أن التقى بهم أثناء تنزهه فيها في إحدى  صائفات التسعينيات  ، فذبحوه مع ابنه ، قالوا أن وجهه ظل مبتسما ،نسيت أن أسأله عن السر المهمهم في هذه الجبال ..أتحسر كثيرا ، ثم أمرر عيني على تلك البناءات بنوع من الحسد المفرط  ؛ أتمنى أن أجلس معهم يوما ما و أحتسي كأسا من الشاي ، آه .. تذكرت ..هؤلاء يفضلون القهوة، لو شربوا الشاي لما تحفزوا لتسلق تلك القمم ..لي ذكريات معهم عندما كنت جنديا أثناء أدائي للخدمة الوطنية ،كنت ضمن أول دفعة بعد خروج الفرنسيين، سأنساها، فقد تعلمت كتمان السر ، فأبسط التفاصيل قد تكون قد تفيد الأعداء ، فتكون خطيرة..عمي إبراهيم ما زال يعمل بإخلاص في ذاكرتي سواء مسجونا عند القوات الفرنسية في جبال أحمر خدو أو مذبوحا من أشخاص صعدوا نفس الجبل ..هذه الجبال التي  لم تشخ ذاكرتها بعد،صارت كصحن تنزلق داخله بعض البهارات المتمازجة  بديعة المذاق ..
لا أدري سبب استرجاع صورتكِ في هذه الأماكن البعيدة ، لربما مرجع ذلك أنني تقاطعت بقصص مشابهة في إحدى القرى المرمية بصورة مهملة وسط الجبال ..أرجح أن  يكون عقلي قد ضعف ، و أنا في عقدي  السادس ،فمن الممكن أن يكون قد بدأ في مشروع التخريف قبل الأوان، فربط بين هذا المكان الذي أمر به الآن و هو الذي أطلقت فيه أول رصاصة بإطلاق أول ابتسامة صريحة من شفتيك إلى عيني إيذانا بانطلاق موسم العذاب و شوط الآهات ، كل شيء ممكن ، ربما يستحي شيخ مثلي أن يصارح الشباب بعواطفه ، و لكنها الحياة ، فالعمر صفحات تُقلب ، غير أن العنوان يظل يتكرر في أعلى كل صفحة..أموت لأعرف العنوان ، المطلوب منك في هذه الحياة هو أن تقرأ كتابك و تضع له عنوانا من عندك ، هذا هو الامتحان ، لا نفعل سوى تمرير صفحات تحتاج  إلى تأطير و عنوان يناسبها و بالتالي يفسرها .
تتوقف الحافلة فينزل الكهل و الشاب ، و يتحدثان معا ، فأستنتج أنهما قريبان ، أكاد أجزم أنها مشية أب مع ابنه ،انتهى لقد عرفت سبب وقارهما ،يستحي الإنسان من نفسه الصغيرة و من نفسه الكبيرة بعد انشطارهما و قبل انشطارهما ، لكن القلم حين يخط شيئا يستعصي على كل مراقبة ، يمضي إلى شأنه غير آبه بالأصوات النشاز التي تناديه بغير طعم الشياط ..ظلم قلم الرصاص بهذه التسمية ، فهو قابل للتراجع عن طريق المحو ، أما الرصاصة فهي غير قابلة للتراجع .
إلى أين تتجه هذه الحافلة ؟ ستضطر إلى التوقف بعد ساعة ، و سينزل الجميع ،     و سأضطر إلى البقاء لوحدي لأتحدث كعادتي مع الكراسي التي تتثاءب أرواحا متناقضة كأشباح سئمت  إخافة الناس ، فقررت أن تبرم معهم عقد صداقة مؤقت،كل الأرواح تمازجت فيما بينها و شكلت أصواتا خافتة غاية في الوقار، تقشعر جلدة رأسي قشعريرة  لا تحاكيها إلا تلك الحالة التي تنتابني عند سماع أصوات القطط المتشاجرة على سلال الفضلات في الحارة ليلا .. كل مرة أعزم أن أنزل من الحافلة قبل الموقف الأخير ، و لكن عملي كسائق يمنعني من ذلك ، أخشى إن فعلت ذلك أن اتهم بالخيانة، سيختلفون فقط في أمر واحد ، و هو توصيفها هل هي خيانة عظمى أو هي مجرد خيانة عظيمة فقط ؟ و عليه سأبقى ممسكا بالمقود مقابلا للوح القيادة            و مواجها الطريق الملتوية التي تشبه مدينا مماطلا داهمته مصادفة في السوق و هو متلبس باقتناء فاكهة ثمينة..للتذكير فإن هذه الحافلة ليست لي ،أي ليست تلك التي اعتدت قيادتها،و كذا هذه الطريق ليست مسلكي، و إنما دفعوني إليها دفعا لأن زميلي قدم شهادة طبية، سيرجع و سيقود حافلته ، و سأرجع إلى زبائني الذين تداخلت أسرارهم بسريرتي .. و سأعرج بحافلتي يوما ما على هذه الطريق من جديد في يوم ماطر، و ستبتسمين بسمتك الزاهية كأشواك الصبار ..

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *