*جمال قصودة
نضال غريبي مبدع تونسيّ في الثلاثين من عمره صاحب قلم سيّال، و لكن العطالة التي كان يعيش على وقعها أجبرته على أشياء كثيرة موجعة آخرها أنه وضع حدّا لحياته عبر الانتحار شنقا منذ يوم تقريبا.
برغم من كون ظاهرة الانتحار في محافظة القيروان التونسيّة صارت ظاهرة مقلقة لأن أغلب ضحاياها من التلاميذ و الشّباب الذين أغلقت في وجوههم كلّ سبل الحياة الكريمة، و لكن الانتحار ظاهرة عرفها الكتّاب منذ أزل بعيد فالمصير الذي اختاره صديقنا نضال غريبي سبقته إليه الكاتبة الانكليزية “فرجينيا وولف” (1882-1941) تلك التي قامت بملء الحجارة في جيوبها لتغرق نفسها في النهر، بالإضافة للروائي الامريكي ” إرنست همينغوي”(1899-1961) الذي أعدم رأسه المفكّر و المبدع برصاصة قاتلة.
نفس المصير عرفه المسرحي و الكاتب الروائي الياباني “يوكيو ميشيما”(1925 -1970 ) هذا الذي انتحر على طريقة السّاموراي بغرز سيف طويل في بطنه.
وكما تركت “فرجينيا وولف” وصيّة في شكل رسالة لزوجها، وألقى “يوكيو ميشيما” قبل انتحاره خطابا أمام حوالي ألف عسكري في طوكيو بين لهم فيه خطر التوجه للغرب والحفاظ على الروح اليابانية وإلهامهم للانقلاب ضد الامبراطور واستعادة السلطة، فإن رفيقنا المبدع نضال غريبي فعل نفس الشيء تقريبا عبر تدوينة فيسبوكية في إحدى الصفحات الأدبية التي كان في إدارتها وهي صفحة”كتب ممنوعة ونادرة” التي تضمنت وصيّته المنشورة بتاريخ 27مارس اذار 2018 على السّاعة 16:07 هذه الوصيّة الموجعة والمؤثّرة يعتقد انها سبقت انتحاره بدقائق :
أنا الآن لا شيء، تفصلني خطوة عن اللاشيء، أو فلنقل قفزة، غريب أمر الموت ما أبخس ثمنه، دينار ونصف الدينار ثمن الحبل، وبعض السجائر، غريب أمر الحقيقة ما أبخسها ثمنها لكننا لا نرى، نملأ أبصارنا وبصائرنا دومًا بالأوهام، حتى تصير الحقيقة تفاصيل لا نراها .. نحن لا نرى غير ما نريد رؤيته، لا نرى من الأخضر غير يابسه حتّى تختلط علينا الألوان، ومفاهيمها، شأننا شأن أحبّتي، الذين رغم تواضعي يظنّون أنّني عيسى، فإذا ما صدّقوا ما ادّعوا، اختلط عليهم الأمر، فراحوا لا يفرقون بين القلب والمعصم، وصارت أوتادهم تنهمل على صدري كسهام الوغى ..
غريب أمرهم، بل غريب أمركم جميعًا اذ تظنُّون بموتي أنّني أناني، لكنني في الحقيقة أبعد ما يمكن عن الأنانية، دققوا في التفاصيل، لو كنت كما تدّعون لكنت التهمت ما استطعت من أدوية أمي المريضة ورحلت، لكنني أعلم علم يقين أنّ عائلتي المسكينة ستنصرف إلى مراسم دفني وقبول التعازي، وسينسون بالتأكيد أن يشتروا لها دواء بدل الذي دفن في معدتي، لكنني لم أفعل، لو كنت بالأنانية التي تدّعون، لكنت رميت بنفسي أمام سيارة على عجل، أو من فوق بناية عالية، لكن، حرصا مني أن لا تتلف أعضائي، التي أوصي بالتبرع بما صلح منها، لم أفعل ..
سادتي، أحبّتي، عائلتي المضيّقة والموسّعة، أوصيكم بأنفسكم خيرا، وبأولادكم حبّا .. أحبّوهم لأنفسهم، لا تحبّوهم لتواصل أنفسكم فيهم، اختاروا لهم من الأسماء أعظمها وأرقاها، وكونوا شديدي الحرص في ذلك .. فالمرء سادتي رهين لاسمه، شأني، أمضيت عقودي الثلاثة بين نضال وضلالة وغربة .. علّموا أطفالكم أنّ الحبّ ليس بحرام، وأنّ الفنّ ليس بميوعة، لا تستثمروا من أجلهم، بل استثمروا فيهم، علموهم حب الموسيقى والكتب ..
السّاعة الآن الرابعة بعد الظهر، من السابع والعشرون من مارس سبعة عشر وألفين، أفارقكم عن سن تناهز أسبوعان وأربع أشهر واثنان وثلاثون سنة ..
أحبكم جميعا دون استثناء، وأخص بالذكر هيرا، تلك العشرينية إيناس، تلك البريئة التي شيطنتها الحياة وحبي ..
آسف من الجميع.
_________
* نقلا عن موقع أنتلجنسيا