ضغينة النثر على الشعر

*د. فتحي المسكيني

كتب أحمد عبد المعطي حجازي، سنة 2008، في مؤلَّف عنوانه «قصيدة النثر أو القصيدة الخرساء» 1، ويشبه أن يكون آخر وصيّة للدفاع عن التصوّر التقليدي للشعر العربي، أهداها «إلى شعراء الأجيال القادمة»، قائلاً: «قصيدة النثر إذاً، ثمرة من ثمار الصمت الذي أصبنا به، نحن خرس لا نقول ولا ننشد» 2. هي وصيّة متأخّرة بعدّة أجيال، كما لاحظ جابر عصفور 3، ولا يبدو الدفاع عن الشعر التقليدي جديداً إلاّ في كونه ينقد قصيدة النثر وكأنّها إثمٌ إبداعي اقترفه جيل لم يعد عربياً.

ولكن لماذا أقدم شاعر مكرَّس مثل حجازي على اتهام كلّ الإنتاج «الشعري» غير النظامي لدى العرب المعاصرين (منذ خليل مطران وجبران..) بأنّه لا يثمر إلاّ قصائد «خرساء»؟ ثمّ ما هو وجه الخرس أو الصمم هنا، وهل يختلف عن صمم المتنبي؟ هل كتبنا تاريخ الصمت في ثقافتنا العميقة؟ لماذا اعتبر أنّ قصيدة النثر «قد أفسدت القول»؟ 4 ولماذا هي في غياب الوزن أو الإيقاع عبارة عن «نصّ وحيد الخليّة»؟ 5 وخاصة لماذا يعتبر أنّ «النقد النظري في وادٍ، وقصيدة النثر في وادٍ آخر» 6 حيث يجزم بأنّنا «لم نقرأ لأي ناقد كلاماً مقنعاً يبرر نسبتها إلى فن الشعر، وهذا هو أصل المناقشة وجوهر السؤال»؟ 7

ربما يكون نقدُ حجازي لقصيدة النثر موقفاً شخصياً من حيث كونه متورّطاً هو نفسه منذ 1955 في نمط من الكتابة الشعرية التجديدية في وقتها هي الأخرى، نعني الشعر الحرّ، الذي كان يسمّى أيضاً «الشعر الجديد». 8، ومع ذلك فهذا النقد الحادّ يطرح صعوبة من نوع جماليّ أو فلسفيّ أكثر خطورة من العلاقة بين النقد والشعر. إنّ الذي ينقد هنا ليس ناقداً بل هو شاعر. قال: «أريد أن أقول إنّ قصيدة النثر لم تستطع بعد مرور أكثر من قرن على ظهورها أن تقنعنا بأنها قصيدة، أو بأنها شعر بالمعنى الاصطلاحي للكلام، أو بأنها شعر آخر يكافئ الشعر كما نعرفه أو يساويه». 9

جماليات عفوية

إنّ موقف حجازي من قصيدة النثر ليس نقداً، نعني ليس له سلطة مؤسسة النقد المستقلة عن الشعراء، بل هو نوع من الجماليات العفوية للشعراء. وهو يثير صعوبات غير نقدية، ومن ثمّ لا يمكن البتّ فيه وكأنّه مسألة نقدية. إنّ الأمر أشبه بالبحث في «السيرة مع الشعر» 10 وليس في نقد الشعر. والحال أنّه لا يحقّ لشاعر أن ينقد الشعر، وفقاً لنمط كتابة شعرية دون أخرى. إنّ نقد الشعر مهمّة غير شعريّة تماماً. إنّه جنس خِطابي مستقلّ تماماً عن الشعراء، حيث يتحوّلون إلى تجارب معنى حرّة تنتظم وفقاً لأنماط «إنتاج»، أو «بويزيس» لم يخلقها النقاد وليسوا أوصياء عليها، لأنّها نتاج تطوّر الشعوب وتجدّد المجتمعات وليس مجرّد تكريس جمالي لحواسّها طويلة الأمد. وكلّ ما يُقال عن الشعر هو مجرّد «نثر» وبالتالي هو غريب عن مهمّته. لكنّ العكس غير صحيح. قال نيتشه في الفقرة 92 من «العلم المرح»: «لنسجّل أنّ عمالقة النثر قد كانوا دوماً تقريباً شعراء أيضاً، علناً أو في سرّهم؛ وعلى الحقيقة إنّما بالنظر إلى الشعر نحن نكتب نثراً جيّداً. فليس النثر سوى حرب لا تنقطع مع الشعر. وكلّ فتنته تكمن دوماً في الإفلات من الشعر ومناقضته». ثمّة نوع من ضغينة النثر على الشعر. ولابدّ لكلّ قصيدة من معاناتها مثل شبح داخلي. ومؤسسة النثر تهدّد الشعراء في كل ثقافة. فقط لأنّهم وحدهم يحتفظون بحقّ تعليق النثر في استعمال اللغة. وتعريف الشاعر هو كونه الكاتب الوحيد الذي يملك حق تعليق النثر في علاقته باللغة.

إنّ ما لا نجرؤ على استخلاصه هنا هو موت الشاعر التقليدي، كما تحدّث رولان بارت ذات مرة عن «موت المؤلّف»: لا يزال كلّ موقف سلفي من قصيدة النثر (منذ نازك الملائكة) مجرّد رواسب غير مفكّر فيها عن رفض أخلاقي أو هوويّ لموت الشاعر في ثقافتنا. إنّ شبح الشاعر التقليدي، مثل امرئ القيس أو المتنبي يخيّم على كلّ نقاش حول مستقبل الشعر لدينا ويمنع أيّ تأبين رسمي لهويته العميقة. لا يتعلق الأمر بمجرّد الافتقاد إلى الوزن، بل إنّ المشكل يخصّ هوية الشاعر بما هو كذلك.. ولذلك لا معنى لأيّ حسم «نقدي» للنقاش الراهن حول أصالة قصيدة النثر أو شرعيّتها.

اللاوعي الجمالي

 ومن ثمّ لا بدّ من طرح السؤال حول وجاهة مصطلح «قصيدة النثر» أصلاً. هل «القصيدة الجديدة» التي يكتبها شعراء أحياء اليوم هي قابلة للتصنيف حقاً في باب «قصيدة النثر» التي ظهرت 1842 مع أليوزيوس برنارد في ديوانه «جرذ الليل» 11، والتي قلّدها صراحة وكرّسها عالميّاً كتاب صغير تركه شارل بودلير عنوانه «قصائد نثرية»، كتبه ما بين 1857 و1864؟ وظهرت أيضاً وانتشرت في الشعر العربي المعاصر من جبران إلى أدونيس؟

إنّ اللاوعي الجمالي في قصيدة النثر، منذ التوصيف الذي أعطاه لها بودلير، هو إحساس الشاعر «النظامي» نفسه بأنّ ما يكتبه من قصائد نثرية يمكن أن يُتَّهم بأنّه شيء «لا ذنب له ولا رأس» 12 وبالتالي عليه أن يستبق التهمة. ربما فضيلة قصيدة النثر الأولى أنّها تحوّل الشعر إلى تهمة جمالية. وأوّل من يشعر بها هو «الشاعر» نفسه. لكنّ الطريف هو أنّ التبرير المناسب حسب بودلير لهكذا تهمة ليس «نقدياً»، بل هو عائد إلى مستوى «آخر» من قدر الشعر: إنّه «وصف الحياة الحديثة أو بالأحرى حياة حديثة معيّنة وأكثر تجريداً» 13. إنّ الحداثة وليس النقد هي التي أخرجت الشعر من قوالبه ودفعت الشعراء إلى ما سمّاه جيل دولوز انطلاقاً من نيتشه «البحث عن طرق تعبير جديدة». قال بودلير: «إنّه خاصة من مخالطة المدن الضخمة ومن تقاطع العلاقات التي لا تُحصى بينها إنّما تولّد هذا المثل الأعلى الآسر». لا يحتوي هذا التوصيف على أيّ ملاحظة «نقدية». إنّ النقاش التقليدي عن تقنية الشعر قد تمّت إزاحته لصالح نوع غير نقدي من التناول. إنّ قدر الشعر قد تغيّر. قال بودلير: «من منّا لم يحلم، في أيّام طموحه، بمعجزة نثر شعريّ، موسيقيّ بلا إيقاع ولا قافية، يكون ليّناً وصادماً كفاية حتى يتكيّف مع الحركات الغنائية للنفس..؟».

ولكن هل ينحصر معنى «القصيدة الجديدة» في الحلم الجمالي «الآسر» 14 ومن ثمّ غير المشروع بإنتاج «نثر شعري» بلا إيقاع ولا قافية؟ أليس توصيف بودلير نفسه قد ظلّ سجين هواجس جمالية لا تعترض إلاّ الشاعر التقليدي؟ بودلير «أزهار الشر»؟

القصيدة الخرساء

ربما آن الأوان لحسم التمييز المائع بين «قصيدة النثر» التي هي حلم تقليدي وبين «القصيدة الجديدة» التي لا تزال تبحث عن نفسها، قصيدة «الكتابة» وليس «النقد». يبدو أنّ نقد الشعر هو مشكل لم يعد مطروحاً إلا في نطاق ثقافة شعرية لا تزال تنظر إلى الشعر بوصفه «إنشاداً» لقول شفويّ في أصله ولم يصبح «مكتوباً» إلا لأسباب خارجة عن طبيعته. نحن مررنا بشكل متوارٍ من ثقافة السماع إلى ثقافة القراءة. لكنّ النقد الرسمي لا يزال يصرّف انتظاراً جماليّاً تقليدياً يبحث عن «الشاعر/‏‏ المنشد» بعد موت الشخص المفهومي الذي يمثّله. حقّاً، كما قال حجازي ولكن ضدّ أطروحته، إنّ الأمر يتعلق بنوع من «القصيدة الخرساء»، ليس لأنّها تفتقد إلى الوزن والإيقاع، وإنّما لأنّها دخلت عصر «القراءة» بشكل جذري وفارقت ثقافة «السماع». وما كان يقصده بارت من «موت المؤلّف» قد تحقّق لدينا فيما يخص الشاعر: إنّ القصيدة الجديدة بلا مؤلّف؛ وذلك بقدر ما تحاول من نفسها أن تمنح مكاناً للقارئ، ليس بوصفه «متفرّجاً» كما ظنّت الجماليات التقليدية، بل بوصفه شريكاً سردياً. قال بارت: «كلّ شعريّة مالارميه تتمثّل في إلغاء المؤلف لصالح الكتابة (وهو ما يعني إعطاء مكان للقارئ)». 15

إنّ الخطأ الوحيد الذي يقترفه «الشاعر» الجديد حول القصيدة الجديدة هو مواصلة حرصه على «إنشادها» في محافل الشعر التقليدي، ونعني شعر المؤسسة الرسمية للعَروض. والحال أنّ العروض هو مؤسسة سلطة لم يفلت منها حتى أقطاب الشعر الحر من حجم السيَّاب أو نزار أو درويش. ليس من السهل أن نتحرر من سلطة لا نراها. ولا يتعلق الأمر بمجرّد سجال «نقدي» حول الخصائص الشعرية بل بطبيعة السلطة. قال أفلاطون في مقطع رشيق من محاورة «الجمهورية» (424ج): «إذا قال الشاعر إنّ الناس يميلون خاصة إلى أحدث ما ينشده المغنون من أغنيات، فليحرصوا كل الحرص على ألا يتوهم أحد أن الشاعر يقصد طريقة جديدة في الغناء، لا أغنيات جديدة، أو أنّه يحض الناس على اتباع هذه البدعة. فليس لنا أن نطري قول الشاعر هذا، إذ إنّ ابتداع طريقة جديدة في الموسيقا شيء ينبغي أن نحذره… إنّ المرء لا يستطيع تغيير طرق الموسيقا دون أن يقلب معها الموازين الأساسية للدولة رأساً على عقب».

ما يتوارى خلف إشارة أفلاطون المتوجّسة من خطر الشعراء على الدولة «الجمهورية» هو أمر يتجاوز مهمّة النقد، بل هو ما استشرفه هيدغر في البيت الأخير من قصيدة هولدرلين التذكار؛ إذْ يقول: «لكنّ ما يبقى إنّما يؤسّسه الشعراء» 16. قال: «يتكلّم الشاعر من حضن المقام، ذاك الذي يقيم الأساس والمهد، ويهيّئ المكان الذي عليه وفي رحابه يؤسّس القول الشعريّ نمطاً ما من الكينونة. وإنّما هذا ما نسمّيه المقام الأساسي للشعر». إنّ ما تعدنا به القصيدة «الجديدة» هو حريّتها، أي قدرتها الفذّة على إعادة اللغة إلى مكانها، نعني تأسيس المكان حيث يصبح وجودٌ استثنائيّ ما ممكناً. لا يفعل الشاعر «الآخر» سوى إيقاظ المقام في روح شعب ما حتى يعيد للغة علاقتها المنسية بنفسها، أي قدرتها الغريبة على المكان حيث تصبح الآلهة ممكنة. ولذلك فالشعر هو عودة الكلمات إلى نفسها، بعد تاريخ نقدي طويل من الضجيج المؤسساتي حول قدرها. ودور المفكّر الأصيل حسب هيدغر هو التقاط إمكانية المقدّس التي يشير إليها الشاعر دون أن يقف داخلها. الشعر لا يفكّر لكنّه يؤسّس ما يبقى طويلاً في روح شعب ما، أي يؤسّس لغته العميقة، تلك التي لا يتكلّمها إلاّ نادراً.

الهوامش:

1 – أحمد عبد المعطي حجازي، قصيدة النثر أو القصيدة الخرساء. الطبعة الأولى، كتاب دبي الثقافية، 2008.

2 – نفسه، ص 59.

3 – نفسه، ص 71 وما بعدها، 93 وما بعدها، 104 وما بعدها.

4 – نفسه، ص 33 وما بعدها، 42 وما بعدها.

5 – نفسه، 61 وما بعدها.

6 – نفسه، ص 83.

7 – نفسه، 84.

8 – نفسه، ص 85.

9 – نفسه، ص 49.

10 – نفسه، ص 90.

11 – Aloysius Bertrand, Gaspard de la nuit: Fantaisies à la manière de Rembrandt et de Callot, avec une notice de Sainte-Beuve (1842, posthume).

12 – Charles Baudelaire, Petits Poèmes en prose. Œuvres complètes de Charles Baudelaire, Michel Lévy frères, 1869, IV. P. 1: «Mon cher ami, je vous envoie un petit ouvrage dont on ne pourrait pas dire, sans injustice, qu’il n’a ni queue ni tête, puisque tout, au contraire, y est à la fois tête et queue, alternativement et réciproquement.»

13 – Ibid. p. 2.

14 – Ibid. p. 2: «C’est surtout de la fréquentation des villes énormes, c’est du croisement de leurs innombrables rapports que naît cet idéal obsédant.»

15 – Roland Barthes, Œuvres Complètes, Seuil, 2002, t. III, p.41.

16 – Hölderlin, Andenken: „Was bleibet aber, stiften die Dichter.“
_________
*الاتحاد الثقافي

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *