نزهة فلسفية في غابة الأدب (7)

*ترجمة وتقديم : لطفية الدليمي

حوارية بين الروائية – الفيلسوفة آيريس مردوح والفيلسوف بريان ماغي
  

 

    العلاقة بين الفلسفة والأدب علاقة وثقى نشهدها في التضمينات الفلسفية في الكثير من المنتجات الأدبية لبعض أعاظم الكُتّاب ، ونعرف أنّ بعض الكتّاب كانوا أنفسهم فلاسفة محترفين ، والأمثلة في ذلك كثيرة ؛ غير أن طبيعة العلاقة وحدودها بين الأدب والفلسفة ظلّت حقلاً إشكالياً منذ العصر الإغريقي وحتى عصرنا هذا .

  يسرّني أن أقدّم في هذا القسم – وبضعة أقسام لاحقة – ترجمة للحوارية الرائعة عن طبيعة العلاقة بين الأدب والفلسفة والتي عقدها الفيلسوف البريطاني الشهير ( بريان ماغي Bryan Magee ) مع الروائية – الفيلسوفة الراحلة ( آيريس مردوخ Iris Murdoch ) ، وقد سبق لي تناول جوانب من فكر هذه الفيلسوفة المميزة في حوار سابق منشور في المدى ؛ أما بالنسبة إلى  ( بريان ماغي )  فهو فيلسوف ، وسياسي ، وشاعر ، وكاتب ، ومقدّم برامج بريطاني ولِد عام 1930 ويُعرَف عنه مساهماته الكبيرة في ميدان تقديم الفلسفة إلى العامّة وجعلها مادة تحظى بالمتابعة الجماهيرية القوية ، وهو صاحب مؤلفات كثيرة في هذا الميدان .

   أذيعت هذه الحوارية على البرنامج الثقافي للتلفزيون البريطاني عام 1978 .

                                                              المترجمة

ماغي : لستُ واثقاً من أنني أشاطركِ القبول الكلي بما صرّحتِ به للتو .  يخبرُنا تولستوي في ( الحرب والسلام ) أنّ الإعلان عن نظرية محدّدة في فلسفة التأريخ هو أحد الأهداف الكبرى التي سعى لتحقيقها في روايته تلك ، ورواية ( ترسترام شاندي ) للكاتب لورنس ستيرن هي الأخرى كتبها مؤلفها وهو تحت وقع تأثير عظيم ومباشر لنظرية لوك في إرتباط الأفكار ، وهو الأمر الذي يصرّح به ستيرن في الرواية وعلى نحوٍ لايقبل اللبس ، وكان ستيرن يعي أنّه يفعل شيئاً وثيق الصلة بتلك النظرية ومفاعيلها الكبيرة . إذن ثمّة روايات عظيمة تمثّل الأفكار الفلسفية جسماً أصيلاً في هيكلها الروائي .

مردوخ : الحقّ أنني أشعر برعب قاتل يتملّكني متى مافكّرتُ بإقحام الأفكار الفلسفية في رواياتي . قد يحصل أحياناً أن أشير محض إشارة فحسب إلى الفلسفة في بعض مواضع رواياتي بسبب المصادفة التي جعلتني على شيء من دراية بالموضوعات الفلسفية التي تتناغم مع سياق تلك المواضع في رواياتي ، والأمر سيان لو كنت أعرف شيئاً عن السفن الشراعية مثلاً ؛ إذ لم أكن لأتردّد في تضمين تلك المعرفة في رواياتي كذلك بمثل مافعلتُ مع الفلسفة ، ودعني أصدقك القول أنني أفضّل – كروائية – أن تكون لي معرفة بالسفن الشراعية أفضل وأعلى مقاماً من معرفتي بالفلسفة ، ومن الطبيعي القول أنّ الروائيين والشعراء لايتوقّفون عن ممارسة التفكير دوماً ، والعظماء بينهم يجترحون فعل التفكير بطريقة متميّزة للغاية ( وهُنا لايكون إليوت محقّاً في قوله أعلاه إذا أخذناه بمعناه الحرفيّ ) ؛ لكن هذا ليس بأمر ذي شأن كبير . قد يجهر تولستوي بالقول أنه إنّما كتب ماكتب ليفصح عن فلسفةٍ ما ؛ لكن لمَ ينبغي علينا الإعتقاد بأنّه نجح في مسعاه ؟ روايات روسو وفولتير أمثلة صارخة للروايات الفكرية التي أحدثت تأثيراً عظيم الشأن في العصور التي كُتِبت فيها ؛ لكنها تبدو متقادمة في أيّامنا هذه ونشعر أنّ الزمن قد تخطّاها ، وهذا هو الجزاء الطبيعي الذي ينبغي أن ينتهي إليه ذلك الشكل الفنّي من الروايات ( المقصود هو روايات الأفكار ، المترجمة ) . من جانبي أظنّ أنّ رواية ( الغثيان ) لسارتر هي الرواية الفلسفية الجيّدة والوحيدة التي نالت إعجابي اللامحدود ؛ فهي تحكي عن أفكار مثيرة بشأن المصادفة والضمير ؛ لكنها برغم هذه الجودة الفلسفية تبقى عملاً فنياً لسنا في حاجة مُلحّة لقراءته بقصد حيازة معرفة أفضل بنظريات سارتر التي عرضها في أعماله الفلسفية الخالصة . ( الغثيان ) عمل نادر الطراز ؛ لكن علينا أن لاننسى أنّ أفكار سارتر الفلسفية مازالت طازجة ولم يتقادم بها الزمن كثيراً .

ماغي : ليكن الامر كذلك . دعينا نتناول رواية سارتر التي أشرتِ إليها في حديثك . أوافقكِ الرأي في كونها رواية رائعة ، ومن المؤكّد أنها تفصِحُ عن نظرية فلسفية . قد يكون الإفصاح عن نظرية فلسفية في شكل حكاية ناجحة إنجازاً ذا فرادة متميزة نادرة ؛ لكنّ حقيقة تحقّق مثل هذا الإنجاز تعني إمكانية الإتيان به في كتابات لاحقة ، وهنا ينتابني شعور طاغٍ بوجود خلاف جوهري بين رؤيتينا ، وقد لانستطيع بلوغ حلّ توفيقي لذلك الخلاف في هذا الحوار . يبدو لي أنّك تريدين تأكيد حقيقة أن لامكان للفلسفة في الأعمال التخييلية مالم تكن الفلسفة موضوعاً للكتابة كشأن سواها من الموضوعات العديدة التي يتناولها الكاتب ؛ في حين أنني أميل لتأكيد حقيقة وجود روايات عظيمة وظّفت الأفكار الفلسفية لاكمحض موضوعة مثل سائر الموضوعات بل كجسمٍ أصيل في هيكل العمل الفني .

مردوخ : سارتر حالة شديدة الخصوصية ، وثمّة إحساسٌ سرديّ حِرَفيّ بشأن فلسفته المبكّرة ؛ فمثلاً يحتشد كتاب سارتر ( الوجود والعدم ) بالصور والحوارات ، وهو في العموم توكيد للجوانب الدرامية من فلسفة هيغل المتخمة بالإحالات التأريخية حيث يجري فهم حركة الفكر من خلال الأطروحة الهيغلية القائمة على أساس المعارضة والصراع اللذين يتبدّيان في حالة مشهدية حافلة بالقيمة التصويرية . الأفكار بطبيعتها أكثر قدرة على شحن الألفة مع المسرح برغم أنّ المسرح قد يقع تحت طائلة خطر الأوهام كما حصل مع برناردشو ، ولاأعلم بالضبط حجم الضرر الذي طال مسرحيات سارتر بسبب الدوافع النظرية المزدحمة فيها . يكتشف المرء بالتأكيد في روايات سارتر العديدة وكذلك في روايات سيمون دي بوفوار أنّ الكاتب متى مالجأ إلى اعتماد ( الصوت الوجودي ) فإنّ العمل الفني يكتسي شيئاً من الصلابة ، وبشكل عام أراني غير معتدّة بإمكانية أن تكون البنية التحتية للعمل الأدبي فلسفية : العقل اللاواعي ليس عقلاً فلسفياً ، والفنّ يبلغ مديات اكثر عمقاً بكثير من تلك التي تبلغها الفلسفة ، ويتوجّب دوماً أن تعاني الأفكار تغيرات حاسمة متى ماأريد توظيفها في الاعمال الفنية . لنفكّر مثلاً في مدى أصالة الفنّ الشكسبيري والغموض الذي ظلّ يلفّه . ثمة بالطبع كتّابٌ يعرضون أفكارهم بطريقة أكثر صراحة ممّا فعل شكسبير ؛ غير أنّ تأمّلاتهم – مثلما هي الحالة مع ديكنز – لاتعوز مزيد قيمة جمالية لكونها ترتبط بشخصيات مجسّدة وبهياكل روائية غير مجرّدة . عندما نتساءل عن موضوع روايةٍ ما فإنّنا في حقيقة الأمر نتساءل عن شيء أعمق من محض الأفكار المجرّدة : ماالذي إبتغاه بروست ، ولماذا لانكتفي بقراءة برغسون وحسب ؟ ثمة دوماً موضوع أخلاقي الطابع في الرواية يتجاوز عالم الأفكار المجرّدة ، وكلّ الأعمال الروائية الجيّدة تقوم على هياكل تنطوي على أسرار غامضة بشأن الشهوانيات المتصارعة إلى جانب تلك الصراعات الداكنة بين الخير والشر في الحياة البشرية .

ماغي :  إذا كان كلّ كاتب روائي يتعامل مع اعتبارات أخلاقية تتسامى على الأفكار وتتجاوزها بطريقة مقصودة في الوقت ذاته فإنّ هذا يعني أنّ الكاتب الروائي عرضة لمفترضات مقحمة هي ليست أخلاقية – فلسفية فحسب بل أخلاقية – ميتافيزيقية أيضاً . إنّ أية حكاية ، وأيّة عبارات توصيفية ، هي مُلزمة وجوباً بإصدار أحكام قيمية بشأن الكلمات المستخدمة في الحكي أو الوصف وكذلك بشأن مايبتغي الكاتب حكايته أو وصفه ؛ لذا لامفرّ من ان تكون تلك الاحكام القيمية جزءً متأصّلاً في هيكل العمل الفني ، في حين أنّ البحث في طبيعة مثل تلك الأحكام إنّما هو ميدان نشاط فلسفي الطابع وعلى نحو جزئي في أقلّ التقديرات ، والأمر ذاته يصحّ مع أيّ نقاش نقدي جادّ لتلك الأعمال الفنية ، وهكذا ننتهي إلى حقيقة أنّ كلّ حكاية إذا كانت جادّة بما يكفي وتعنى بالناس والعلاقات القائمة بينهم فإنّ كاتبها ملزَمٌ بالكشف عن كلّ المفترضات الأخلاقية في عمله .

مردوخ : هذا أمر صحيح . ليس بمستطاع المرء تفادي تقديم الأحكام التي تنطوي على جانب تقييمي ، والقيم تظهر بأجلى مظاهرها في الأدب ؛ فنحن نجد فيه ، على سبيل المثال ، مفترضات أخلاقية عظيمة الأهمية بشأن الدين والمجتمع تنحو لتغيير مناخ الأفكار السائدة . ساهم أفول الإيمان بالدين وبهرم التراتبية الهيكلية الاجتماعية مساهمة عظمى في التأثير على النتاجات الأدبية ، وحتى وعينا ذاته يطاله التغير المستديم ، وقد تظهر مفاعيل ذلك التغيّر في الفنّ قبل أن يترسّخ في مواضعات نظرية مكتوبة ، وقد تؤثّر تلك المواضعات النظرية بدورها في الفنّ لاحقاً . يمكن أن نذكر في هذا الموضع مدرسة معاصرة في النقد الأدبي وجّهت أعظم عنايتها لدراسة التغيّرات التي طالت موضوعة الوعي في زماننا هذا ، وأنا هنا اتحدّث عن النقّاد الصوريين الذين جاهدوا لتطوير نقد أدبي قائم على هيكل الفلسفة البنيوية ، والبنيوية كما نعلم مبحث فلسفي ذو أهمية نشأ في الأساس ضمن نطاق دراسة علم اللغة والأنثروبولوجيا على يد مفكّرين مثل سوسير و ليفي شتراوس .

 

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *