خاص- ثقافات
*سفيان سعيداني
و هو على تلك الحالة من التّعب القاسي لم يشعر بأنّه غفا مرغما لكي يكسر نزق الآلام هنيهة ، ليس يذكر من اللّيل الدّامس سوى لحظةٍ واحدةٍ ، لحظةٌ مشتهاةٌ منتَظَرةٌ . تلك اللّحظة التي تقاضى فيها أجرا مضاعفا ، أجر ساعاته الإضافيّة الكادحة ، و عندما لامست الأوراق الخضراء كفّه شفيت نفسه الكلمى وتقوّى جسده المتورّم و سار دون وعي أو إرادة مذهولا كأنّه ورقة خريف قد عبثت بها الرّياح . استيقظ و ثيابه ملطّخة بالزّيت الأسود المتعفّن قد مزّقت وخرّقت وتهرّأت ، و شعره الأشعث قد عبثت به الأمواج فتداخلت به الرّمال و أشتات من القاذورات المترامية على الشّاطئ ، يا للشقّاء الذي لا ينتهي ، كيف لشاب أن يحمّل البضائع نهارا و ينظّف المحرّكات ليلا دون أن يتغيّب يوما واحدا طيلة اثنتي عشر عاما ، يا للخصاصة القاهرة ! ، تحامل على نفسه المترنّحة بسكرة البؤس و الدّمار ، مشى قيد رمح ، ثم تهاوى على الأرض حتّى أنهكه السّعال ثم قال بعينين مرهفتين يناجي روحها : أخيرا يا حبيبتي … لقد تمكّنت أخيرا .
سعل حتّى لفظ دما ثم أزاحه بكمّه و أتمّ متداركا يتصنّع ابتسامة منكسرة : جمعتُ ثمن الخاتم . أعلم أنّه لن يكون بالحسن الذي تتمنينه ، و لكن أجر الميناء زهيد ، و أنا لم أجد سواه مكسب رزق . أعلم أنّك ستتفهّمينني . أعلم أنّك تنتظرينني بفارغ الصّبر . أنا آت . أنا آت .
ساقته نشوة قهرت ضعفه و وهنه ، مضى نحو صائغ فاشترى الخاتم الذي أفنى أيّامه الحلوة في سبيله ، واتّجه صوب منزلها … وصل ، وجد نافذة الشّرفة مفتوحة و لكّنها ليست تطلّ منها كزهرة تنفخ شذاها. اقترب قليلا فسمع صوتا يسألها : و متى الزّواج ؟ . فتردّ في ضحك : متى أراد هو ذلك .
تبسّم و قد طربت روحه و أوصاله كما يطرب الطّفل الصّغير بقطعة الحلوى أو بلعبة العيد المنتظرة ، سرور بريء و ساذج و جامح جموح النّيران ، و لكن أتمّت كلماتها قائلة : إنّك لم تري ما هداه لي يوم أتى بخيله و عربته ، لقد وهبني خاتما من الألماس و ثوبا من الحرير والدّيباج . فتقول الأولى : ولكن ألم تتفكّري لحال مصعب المسكين ! ، لقد أفنى أيّامه حتى يحظى بحبّك …
فتردّ ساخرة : و هل جننتُ كي أفني أنا عمري في البؤس و الحقارة ، فلييسّر اللّه له .
ثمّ ضحكت و أردفت : تعالي أريك الخاتم و الثّوب .
وغاب الصّوتان داخل عتمة المنزل .
تهاوى على ركبتيه ، أجهش بالبكاء حتّى دوى أنينه ، شهق بعنف ، لم يسيطر على مدامعه الحارقة تنهال على الثّرى و ضغط على الخاتم الصّغير حتّى مرّ بين جلده و لحمه ، و خرّ مستسلما و قد سرت بجوانحه رعشة أشفقت لها الأرض الصامتة ، و طار الحمام و غربت الشّمس و هطل الثّلج حتّى سجّاه و ستره من عراء الليل .
__________
كـاتب تونسـي
2017/10/09