الرواية التاريخية ” سلامة القس ” للكاتب علي أحمد باكثير أنموذجا
مارس 25, 2018
خاص- ثقافات
*خلود البدري
إن ميثاقك مكتوب في قلبي ولن أنقضه أبدا.
مدخل أول : كانت ” رواية التعليم التاريخي ” مرحلة ضرورية وممهدة لرواية ” النضج ” التي تناولت التاريخ بأحداثه وشخوصه وملامحه تناولا فنيا متكاملا، ووفقا لأسس واضحة ومعروفة، تعارف عليها كتاب الرواية في الغرب، ونقلناها نحن في الشرق واصطلحنا على اتباعها وتحكيمها فيما يقدم من أعمال روائية. ولم تكن مصادفة أن يكون الكتاب الذين أبدعوا في الرواية التاريخية الناضجة فنيّا من جيل الروائيين البناة ومن تلاهم ممن ساروا على نهج الرواد، واستلهموا خطاهم، واستطاعوا أن يتلافوا جوانب القصور والتقصير في البناء الروائي.. واستفادوا في الوقت نفسه بمعطيات الرواية الناضجة في العالم، ولذا استطاعوا أن يكتبوا رواية فنية ناضجة تتحقق فيها عناصر البناء الروائي المتكامل: لغة وحوارّا وشخصية وحدثا وحبكة وتشويقا، واستطاعوا في الوقت نفسه أن يوظفوا أحداث التاريخ وشخصياته ..”الرواية التاريخية في أدبنا الحديث دراسة تطبيقية د. حلمي محمد القاعود .
لفت انتباهي قصيدة لطالما رددناها وتغنت بها أصوات مطربينا.
” قالوا أحب القس سلامة
وهو التقي الورع الطاهر
كأنما لم يدر طعم الهوى
والحب إلا الرجل الفاجر
يا قوم أني بشرا مثلكم
وفاطري ربكم الفاطر
لي كبد تهفو كأكبادكم
ولي فؤاد مثلكم شاعر” هذه القصيدة التي تأخذنا لجدلية كبيرة وتساؤل أكبر، هل يحق لمن تمثلت بهم القداسة وحظوا بها، وكانت هالة تميزوا بها عن المحيط الذي كانوا يتواجدون فيه، هل يحق لهم الصبابة والعشق والهوى، أم يجب عليهم أن يتمسكوا بفضيلة ميزتهم عن غيرهم من البشر!؟ فحبتهم هذه الخصلة الكبيرة، وهي السيطرة على النفس البشرية، أليست هي الأمارة بالسوء، والتي يجب أن لا نركن لها أبدا، أعني النفس طبعا، كما ورد عن النبي في الحديث النبوي الشريف ” … اللهم ولا تكلني لنفسي طرفة عين أبدا .. ” أن نطلق على أحد ما لفظة قديس أو قديسة، فماذا نعني بهذه الكلمة التي تحمل في ثناياها تصورات أخذناها عن هذا الشخص الذي وهبناه هذه التسمية، وهل هناك قداسة إشكالية لهؤلاء الأشخاص!؟ ولأن هذه الصفة كتبت عليهم فلابد لهم أن يبتعدوا عن العشق والهوى، وإلاّ فنحن نزيح عنهم هذه الصفة، كأنما نسقطها عنهم لا لشيء غير أن قلب أحدهم امتلأ صبابة ووجدا فهام بمن يحب؟ ولابد للقديس من قلب قُد من الصخر ليحافظ على هذه الهبة ، قصة القس وسلامة قصة قديمة في بطون الأدب العربي، وكلنا نعرفها تقريبا، لكن لا مانع من التذكير بها فهي قصة لطيفة وبها عبرة كبيرة، ويقال أنها غير حقيقية كنوع من الأسطورة. وما يهمنا هنا هو الرواية التي كتبها ” احمد باكثير ” والتي كان عنوانها ” سلامة القس ” وهنا سأعرف بالكاتب ببعض السطور قبل الدخول إلى عالم الرواية، والقصة التاريخية التي تناقلتها الشفاه قصة الحب الخالد.
علي احمد باكثير: شاعر وكاتب مسرحي وروائي ومترجم من اليمن. ولد عام 1910 ، في أندونيسيا لأبوين عربيين من حضرموت، كان يجيد عدة لغات، له روايات عديدة ومن أهمها الروايات التاريخية، منها ” وا إسلاماه ” و” ” سلامة القس “.
الرواية التاريخية من جرجي زيدان إلى نجيب محفوظ ، تلك الروايات التي كانت حكايات، وقصص كانت في بطون كتب الأدب العربي. يدونها لنا أولئك الكتاب بصيغ مختلفة، كلا حسب رؤيته وأسلوبه مع المحافظة على الأحداث الرئيسية في القصة الحقيقية، تتضمن رواياتهم سيّر أشخاص، وأبطال تلك الحقبة القديمة من الزمن. إذن ما المغزى من أعادة صياغة تلك القصص والأحداث في العصر الحديث؟ ثمة أمر آخر أن تلك القصص والحكايات والشخصيات لا زالت تدخل في عالم الرواية القديم والمعاصر، ولم يزد عليها الكاتب إلا أسلوبه وحنكته في سرد تلك الأحداث، ورواية علي احمد باكثير من هذه الراويات التي أخذت صدا واسعا، والذي لم يقرأ الرواية فهو حتما شاهد الفلم الذي مثلته السيدة أم كلثوم، والمأخوذ عن تلك الرواية. قصة القس وهو “عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي عمار ” وعشقه للجارية سلامة، وتحول هذا العشق إلى حب عذري، صاغها الكاتب بأسلوب جميل حيث نقرأ في بداية الرواية، استشهاده بالآية القرآنية ” بسم الله الرحمن الرحيم ” ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه “.
كان المدخل للرواية وصف لحياة عبد الرحمن وكيف يتمسك بالعبادة وقراءة القرآن مغالبا الصلاة على غفوة تأخذه إليها متذكرا أمه المتوفاة، وكيف كانت توقظه للصلاة وتعمل كل شيء في سبيل تفرغه للدرس. على الجانب الآخر يُظهر لنا الكاتب الجارية المتثاقلة عن النهوض من الفراش، المتمسكة باللحاف وقد شغلها الغناء حتى ساعات الصباح، تستمع له في بيت جارها ابن سهيل، توقظها سيدتها العجوز بعدما يئست من استيقاظها: ” فتنهدت العجوز وقالت في لهجة يشوبها الاستنكار والشماتة : ” نعم .. أي شيء يأتينا من أهل المدينة إلا هذا ؟ أوّاه من فساد الزمان!”
” آه يا مولاتي ما أعذب صوتها وأجمل غناءها ”
” هل كنت تتسمعين إليها ؟ ويل لك، لماذا لم تسدّي أذنيك وتنامي؟”
انفجرت الجارية ضاحكة ضحكات متقطعة، كأنها تستغرب هذا القول هل من وسعي ذلك؟ إن صوتها يا مولاتي ليتسرّب إلى أذني كما يتسرب الأمل الحُلو _ كما يهبُ النسيم العذب _ كما يداعب النعاس الأجفان !”.
وأخذت الجارية تتثنى وتميل رأسها يمنة ويسرة ثم …..” وطفقت ترقص في انتشاء وغنج وهي تغني:
” ليت هندا أنجزتنا ما تعد وشفت أنفسنا مما تجد
واستبدت مرة واحدة …” وتعدو سلامة للمرعى مع شويهاتها وهي تترنم باللحن ، يسمعها أحد الرعاة والمسمى حكيم، فيقبل عليها ويدور الحديث بينهما عن الغناء، يتفقا من خلاله على أن يعلمها أصول الغناء ولكن بمقابل ” قال حكيم وقد عاد إلى مكانه الأول: ” حسنا سأعلمك كل يوم لحنا أو لحنين على أن تعطيني قبلة على كل لحن “. فأجابته ضاحكة: ” قبلت شرطك يا ماكر”. فابتسم حكيم ابتسامة الظافر وقال:” إذن فهاتي القبلة التي استحققتها عندك باللحن الذي علّمتك إياه الآن “.
ولكن سلامة لم تعدم الرد المقنع إذ قالت: ” إنك علّمتنيه قبل أن نبرم بيننا هذا الاتفاق، فليس لك أن تطالبني بشيء بعد “. ويغلب حب الغناء على سلامة وتترنم بالغناء في بيت مولاها فيقرر بيعها، لتمارس الغناء بعدما دربت عليه وتعلمته فأصبح مولاها الجديد لا يفارقها، ويرى عبد الرحمن حلما فيتطير من هذا الحلم ” خرج عبد الرحمن بن أبي عمار ذات يوم إلى المسجد لشهود صلاة الصبح كعادته، فلما انتهى من الصلاة وأخذ في الدعاء تذّكر الحلم الذي رآه في منامه الليلة البارحة فامتلأ قلبه رعبا، وقال ” اللهم إني أعوذ بك أن تضلني بعد الهدى ” وتلا المعوذتين ثم قال ” اللهم اجعلها أضغاث أحلام “. لكنها لم تكن أضغاثا للأحلام وإنما تجلت حقيقة عندما سمع صوتا هو نفس الصوت الذي سمعه في الحلم، صوت سلامة وهي تغني:
” إذا وجدت أوار الحب في كبدي
ذهبت نحو سقاء الماء أبترد!
هبني بردت ببرد الماء ظاهره
فمن لنار على الأحشاء تتقد؟”
الجميل في الرواية أنها تضمنت مقاطعا شعرية، والتي كانت تمس وتلامس الحالة. وهذا التوظيف للشعر طبعا يكون في خدمة الرواية التاريخية. خاصة إذا كانت عن قصة مغنية تتغنى بالشعر، الحوار والتداعيات التي يمر بها عبد الرحمن في اليقظة والحلم، وقصة العشق المشوقة بين المغنية سلامة والقس، والتي مثلت الحب العفيف الرومانسي. تدخل سلامة على القس فيرى فيها المرأة التي رآها في الحلم ” فانبهر عبد الرحمن وجعل ينظر إليها مذهوبا زائغ البصر كأنه ينظر إلى شيء آخر غيرها، إذ تمثلت له صورة المرأة التي رآها في منامه المزعج، وخيل إليه أنه يسمع صوتها وهي تقول: ” يا عبد الرحمن أنقذني .. يا عبد الرحمن أغثني !”. ” وشغف عبد الرحمن بسلامة، فكان يحلم بها ليله ونهاره، ويتسلل طيفها إليه حتى في صلاته وقيامه، وقامت بين نفسه الزاهدة الناسكة وبين نفسه المتفتحة للحياة حرب عوان صلي بنارها، وكان وقودها من روحه وجسمه، وشقي بها شقاء لم يشق قبله مثله، كما سعد بها سعادة لم يجد لها من قبل مثيلا “. وسار خبر الحب بين الناس وكتبت فيه القصائد ”
” الآن فليعلن من شاء تهيامه
قد وقع القس في حب سلامة
لم يحمه الحبّا صيامه الدائم
وخوفه الربا وليله القائم ”
وتنتهي قصة العشق حيث ِبيعت سلامة عدة مرات، ولم يستطع القس الحصول على الثمن الذي سيستردها به رغم بيعه لضيعة كان يملكها، وعمله بالتجارة، يتفقا أخيرا بعد رحلة شاقة من العذاب والصبر والسفر على التأسي في الحياة الدنيا على أن الله سيجمعهما في الحياة الآخرة.
أقول لقلبي كلما زاد خفقه
إلام يعنيك الأسى والتذكر؟
تصبّر فصاح القلب هبني احتملته
بصبر فما يجدي عليّ التصبّر؟
يقول القس لسلامة بعدما يأس من الحصول عليها ” لعلك تذكرين قول الله تعالى ” الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدوّ إلا المتقين” .