خاص- ثقافات
*مرزوق الحلبي
(مداخلتي في أكاديمية القاسمي يوم 24 آذار في إطار حلقة دراسية عن كتاب “الإيقاع في شعر درويش ـ نظم كأنه نثر” لبروفيسور سليمان جبران)
1.
وهل تجوزُ المقابلة بين أستاذ في اللغة وبين أستاذ في الشعر؟
دعوني أرجئ الإجابة.
عرفتُ أبا جبران وأنا في أوّل وعيي، طالبًا سارَ خلف معلّمِهِ مسحورًا. فتح أمامي أبواب اللغة بابا بعدَ بابٍ بعدَ بابٍ. وكان خلفَ كلِّ باب ردهةٌ أو بُستانٌ أو مرجُ زهور.
جعلَ لنا من اللغة عالما ساحرا.
جعلها بحرًا ودلّنا على اللآلئ والمكنوناتِ
جعلها لنا برًّا فسيحًا ودلّنا على غُدرانِه وعيونِ الماءِ
جعلها لنا جنّة غنّاء ودلّنا على مواضع الفتنة فيها والإغواءِ
تدرّجنا معه في أفيائها نأخذ منها ونأخذ منه. وهو سخيٌّ وهي كذلك، ونحن طلّاب عِلمٍ ومعرفةٍ. ساعةً ننهل من نحوِها وساعةً من صرفها وساعةً من شعرها وآدابها وبلاغتها. وهو دليلنا الذي لا يُساوم على حرف من اللغة ولا على حقٍّ من حقوقها. حتى استقامت العلاقة بيننا وبينها وبينه.
بدا أبو جُبران عاشقا للغةِ يحملها على محمل الجدِ. يهتمُّ لو تعرّضت لأذى. كانت له مهابة في وعينا وللُّغة مهابتها، أيضا. حفظنا المعلقاتِ وانطلقنا إلى السِجالات الصفّية بفرح العارف والمقتدرِ لُغويًا. هكذا من الصفّ الثامن حتى الصفّ الثاني عشر. كان أبو جبران يعني لنا اللغة العربية ككيان حاضر في المدرسةِ والبيتِ وفي علاقات الزمالة والصداقة وفي كل حديث عن المدرسة وأجوائها.
هكذا عرفته في البدايات صديقا للغة العربية ودليلا صارما بعض الشيء في أرجائها. أخذنا عنه بعض صرامته ـ ما استطعنا إليه سبيلا ومضينا معتزّين بما أكسبه لنا صفّا كاملا يحرس اللغة ويأخذها معه إلى كلِّ مكان. يهابنا الزملاء الآخرون، مَن هم أصغر سنّا ومن هم أكبرُ سنّا. فنحن تلاميذ أبي جبران المحظوظون، احترامنا واجبٌ لما لنا من شأن في اللغةِ.
اللغة التي أهدانا إياها مكّنتنا وأعطتنا شعورا بامتلاك ناصية المعرفةِ وليس في اللغة وحدِها لأنّ اقتدارَنا اللغوي تحوّل إلى اقتدارٍ في كل المواضيع وفي قيادة الحياة المدرسية. فمنذُ الصفّ التاسعِ كُلّفتُ بتحريرِ جريدة الصفّ ثم جريدة المدرسة. يومها أدركنا أن أبو جبران لم يعلّمنا اللغة التي في الكُتب فقط بل علّمنا كيف تكون اللغةُ هويةً ومصدر اعتزاز وفخر تُغذّي قاماتِنا اليافعةَ الطالعةَ صوبَ النجومِ.
ثمّ التقيتُ أبا جبران كاتبا ومؤلّفا فإذ بالصورة التي كانت له عندي تتبدّل قليا أو كثيرا. فهو الذي كان صارمًا بدا لي منفتحا يتقصّى مواضع التجديد عند الشدياق وشعراء مصر والعراق وعند محمود درويش. وتابعتُ ما يكتبُ ويُصدرُ فإذ به داعية تجديد في اللغة. يدعو إلى إطلاقها على مداها حرّة كريمة قادرة على النزالِ وعلى الحوارِ وعلى النهوض. وجدته لا يخشى الخوض في أسئلة أرّقت حُرّاس اللغة والمحافظين منهم بشكل خاص. ودعا من حرص وحبّ ووفاء للغة إلى جعلها ابنة العصر والراهن قادرة على احتواء المعارف رشيقة بما فيه الكفاية لتنافسَ بشرف في ساحة اللغات. وهي ساحة ترتّبت فيها اللغات هرميًا، وفق مبنى قوة، وقامت بينها علاقات غير متوازنة بسبب من السياسات اللُغوية التي عقّدت وضع اللغة العربية ومكانتها.
ببساطة عند أبي جبران حماية اللغة وريادتها كامنة في تجديدها لا في تجميدها.
2.
أعتقد أن اللقاء بين أبي جبران وبين محمود درويش في الكتاب موضع هذه الندوة النوعية ليس صدفة.
بدأت علاقتي بنصوص محمود درويش قبل أن أبلغَ الثامنةَ عشرةَ. كنتُ عضوًا في الشبيبة الشيوعية أوزّع مطبوعات الحزبِ وأقرأها وأصادف فيها قصائد درويش الذي كان قد ذاع صيته في الإقليم. وعندما دخلتُ السجن العسكري في شهر كانون الثاني من العام 1979. طلبتُ من أخي صالح الذي كان يسابقني في المطالعة واقتناء الكُتب، أن يُحضر لي ما تقع عليه يداه من مجموعات لمحمود وهو ما حصل. عرفت محمود من نصوصه شاعرَ الهوية الفلسطينية والأمل والعنفوان. استطاعَ أن يرسم لنا فلسطين بتفاصيلها الدقيقة وجعل فيها روحًا رغم النكبة ومفاعيلها المستمرّة إلى الآن. هكذا بدأ درويش لكنه اختتم رحلته بما هو مُغاير.
بدأ درويش ثائرًا، أورثَ الثورة في الشعر لجيلين من الشعراءِ بعده. بدت الثورة واضحة في تيماتِه وفي شكل قصيدته وروحها. شارك بقوّة في صياغة الروايةِ وسردها. لم يكتفِ بعالم الشعر والقصيدة بل عرّج نحو الحقلِ السياسي ونحو النصوص الفلسطينية الناظمة والمؤسسة فكتب إعلان الاستقلال من الجزائر في العام 1988. وكتب خُطب القائد أبي عمّار في الأمم المتحدة وأصدر مجلّة الكرمل وكتب أجمل افتتاحياتها.
إلى حدّ كبير أنتج درويش اللغة الفلسطينية التي نعيش فيها وتعيش فينا.
إلا أن درويش الأمين لقصيدته وللجمالية الشعرية والأمين لقضيته لم يتردّد في تسجيل ملاحظاته النقدية على المشروع الذي صاغ روايته. لم يتردّد في الدفاع عن الشعرِ في وجهِ السياسة وعن القصيدة في وجهِ البيان السياسي والملصق الحزبيّ. لم يتردّد في نقد جمود الفكرةِ وقصورها عن السيرِ مع التاريخِ. لم يتردّد في الدعوة إلى التصحيح وإلى أنسنة المقاومةِ وإبعادها عن توحّش يزجُّها به الاحتلال والقمع والتشريدُ وظلمِ ذوي القُربى.
درويش الذي ظلّ إنسانيا في كل مراحلِ الثورة في شعره وحياته، استطاعَ أن يُفلتَ من قيد العادة والمألوفِ وأن يسألَ السؤالَ الأخلاقيَ لنفسِه وليس فقط للمحتلِ والغاصبِ.
درويش الذي كان ملتزمًا طيلة حياته بدا في آخر الشوطِ أكثر تنوّرا ونقديةً لما اعتبرناه ثوابت ـ درويش المتأخّر ثارَ على نفسه ولغته ونصّه وبدا صوفيا متأمّلا حكيما، يكتب إلى الداخلِ. وقد بدا لي في سنواته الأخيرة وحيدا وحيدا مثل نخلة في الفلاةِ. وقد استتبع هذا التبدّلِ في شعره ونصّه تبدّل في اللغة الشعرية ونوع القصيدة وطولها وتفعيلتها. انتهى متصوّفا يميل إلى الكتابة الاختزالية بعد أن كتب القصائد الملحمية والسردية والخطابية التي دافع فيها عن نفسه وشعبه وقضيته وتاريخه وحقّه في العودة.
درويش أيضا أراد تصحيحا في إدارة الصراع والقضية وفي فهم الهُوية وفي التعاطي مع اللغة على مركزيبتها. واسمحوا لي أن أذهب معكم إلى ما كتبه في هذين الموضوعين تحديدا. في مجموعته “كزهرِ اللوزِ أو أبعد” يقول في الُّلغةِ:
“أَمشي مع الضادِ في الليل –
تلك خصوصيتي الُّلغويةُ – أمشي
مع الليل في الضاد كهلاً يحثّ
حصاناً عجوزاً على الطيران إلى برج
إيفل. يا لغتي ساعديني على الاقتباس
لأحتضنَ الكوْن. في داخلي شُرْفَةٌ لا
يَمُرّ بها أَحَدٌ للتحيَّة. في خارجي عالم
لا يردُّ التحيُّة. يا لغتي! هل أكون
أنا ما تكونين؟ أم أنت – يا لغتي –
ما أكون؟ ويا لغتي دربيني على
الاندماج الزفافيّ بين حروف الهجاء
وأعضاء جسمي – أَكن سيّدًا لا صدى.
دَثّريني بصوفك يا لغتي، ساعديني
على الاختلاف لكي أبلغَ الائتلاف. ]…[
وسمّي الزمان الجديد بأسمائه
الأجنبّيةِ يا لغتي، واستضيفي الغريب
البعيد ونَثْرَ الحياةِ البسيطَ لينضجَ
شعري. فَمَنْ – إن نطقتُ بما ليس
شعراً – سيفهمني؟
(“كزهر اللوز أو أبعد”، ص 122-124)
أما عن الهُوية فيقول في قصيدة منفى (إلى إدوارد سعيد)
“والهويَّةُ؟ قُلْتُ
فقال: دفاعٌ عن الذات…
إنَّ الهوية بنتُ الولادة لكنها
في النهاية إبداعُ صاحبها, لا
وراثة ماضٍ. أنا المتعدِّدُ… في
داخلي خارجي المتجدِّدُ. لكنني
أنتمي لسؤال الضحية.
]…[
لا أعرِّفُ نفسي
لئلاّ أضيِّعها. وأنا ما أنا.
وأنا آخَري في ثنائيّةٍ
تتناغم بين الكلام وبين الإشارة
…
يحبُّ الرحيل الى أيِّ شيء
ففي السَفَر الحُرِّ بين الثقافات
قد يجد الباحثون عن الجوهر البشريّ
مقاعد كافيةً للجميع…
هنا هامِشٌ يتقدّمُ. أو مركزٌ
يتراجَعُ. لا الشرقُ شرقٌ تماماً
ولا الغربُ غربٌ تماماً,
فإن الهوية مفتوحَةٌ للتعدّدِ
لا قلعة أو خنادق.”
(كزهر اللوز أو أبعد ص 182-186)
أميل للاعتقاد بأن أبا جبران يتّفق مع ما قاله درويش هنا في المسألتين، في اللغة وفي الهوية. ومؤداه أنه لا مندوحة عن الانفتاح والتجدّد في الحالتين.
لقد أحدث أبو جبران في مساحة اللغة العربية بمفهومها كأدب وهوية ورواية ما فعله محمود درويش في الشعر بوصفه لغة وهوية ورواية. دعا جبران في مؤلّفاته إلى تجديد اللغة وتطويرها وذمّ الجمود والتقليد واعتبره موتا لها. وهكذا كام محمود في مفهومه للشعر وللهوية وللغة.
إنه جواب على سؤالي في البداية. وهو جواب على السؤال ـ لماذا اختارت دار نشر جدل أن يكون كتاب أبو جبران “الإيقاع في شعر درويش ـ نظم كأنه نثر” هو أول إصدارتها ـ لأنه المؤلّف ولأنه الشاعر الذي أسير في إثرهما معصوب العينين في اللغة وفي الشعر وفي الهوية!