حكاية عنْ دم مدينة

خاص- ثقافات

*سيومي خليل

تَقول أَحد الأسَاطير المؤسسة للمَدينة أنَّها تَشكلت من بَقَايا جلد ثُعبان عَظيم مر زاحفا على الجغرافيا وترك جلدهُ وبعضَ بيضه.

أسطورة أخرى تقول أنَّها سَقطت كنقطة دم منْ جسدي دينَاصورين مُتَصارعين ، وقفَا أمامَ بَعض بِهيبة الطّبيعة نفسها الجبارة ، وبَدءا بالاصطدَام ببَعض كطودين عظيمَين ، وعَض بَعض، وغرز كل حَاد منهمَا ببعضْ ، وحينَ سَقطت أول قَطْرة دَم حمراء ساخنة ،مُكَورة ، وكَبيرَة جدا تماثل حجميهما ، بَدأت المَدينة بالتَّشَكل، ورسم أول ملامحها التي ستظل باهتة إلى الآن.

لذا مَا زالت البَدايات ،حتى بَعد أنْ نَسى الناس كل الأسَاطير المؤسسة للمدينة ، تَحْضر بكل هَيبتها ، وتَطغَى علَى المعاَلم الحَديثة، وعلى شؤون الناس الخاصة والعامة .

مازَالت قَطرة الدم تلك التي غذّت شريَان المدينة الأول تُغذي شَرايينها الحديثة .

ظل انسياب الدَّم الفاسد مُتَجددَا دَائما حتى مع كل مُحَاولات المدينة تغيير نَفْسها إلى الأفضل ، والقَطع مع كُل مَا يربطها بماضيها البعيد .

القطرَة نفسها انقسمت إلى ما لاَنهاية من القطرات كأنها كَانَت تتجاوب مع التوسع العمراني للمدينة ، وتَفرع دُروبها غير المنتظم ، وتَعالي بناياتها غير الجميلة أبدا .

القطرة هنَا ، تحت هذه القشرة التي خرجت منهَا المدينة ، كمَا كَانت هناك منذ البداية .

أول دين ظهر بالمدينة مَازال هُو الدّين الذي يَجد أغلب ساكنتهَا أنْفسهم يَقُومون بطقوسه دُون تعلمها ، كَانوا اضافة إلى أنَّهم وَثنيون ، وبعد ذَلك مسيحيون ، وبعد ذلك مسلمون ، يَدينون بالدِّين الأَول الذي بنى معبدَه على قطرة الدم تلك . أحد أبْرز طُقوس هذا الدين كان انْعدام أي فكر جمَاعي خلاَّق ، والضعف الشديد في الذّاكرة الجماعية، اضافة إلى مظاهر النفاق والجهل المركب والزعيق غير المبرر والهشاشة الرّوحية . لا أَحد منْ سُكان المدينة الحَاليون يعرفون كيف كانت قبل عشر سَنَوات رغم أنهم كانوا موجودين قبل ذلك ، لا أحد من السكان تَصمُد ذَاكرته قليلا ليتذكر تلك المآسي التي قام بها أشخاص في حق المَدينَة ، هُم نفسهم الآن ، من يُحركُون الدمى الخفية المتحكمة فيها . الناس هنا يَعيشُون في جزر معزولة تَمَاما رغم أنهم دَائما ما يتجمعون في المقاهي ، والأسْواق ، وعلَى رؤوس الأزقة الضيقة ، ويتمشون في ساحات المدينة المتعددة ، ويجَاورُون بعضا في المناسبات العامة ، ويَتحلقون على أقل حَادثة سير ، أو شجَار بين اثنين . جَزيرة كل واحد منهم تفصلها مياه عاتية عن جزيرة الآخر ؛ إذا ما أظلم شَارع بسَبب كسر أصاب عموده الكهربائي يظل المنعزلُون في جزرهم ، بضيئون بُيوتهم ، ويبدأون بأكل الفشَار وهم يشاهدون سهرة السبت العظيمة ، وإذا ظهر انحراف في شارع رَئيسي تَمر عليه سيارات كثيرة تنحرف السّيارات هي الأخرى أيضا دون أنْ يفكر سَائق أبدا في ضرورة ابداع عمل خَلاق جماعي والطلب من مُؤسسات التسيير اعادة الإنْحراف إلى سوائه السابق، وإذا مَا روع شاب مخدر تماما حيا بأكمله انكمش المنعزلون أكثر وتركوا لله أن يكلم رجالَ الأمن، وأي فتَاة يمكنهَا أنْ تَتعرض لسرقة لن يتدخلَ هؤلاء لنجدتها إلا بعدْ أن يأخذ اللص كل ماعندها ويهرب ، حينها سيتصايحون كديكة رومية مزهوة، وسيبدؤون بالتأسف لأنهم لم يظنوا اللص لصا بل ملاكا رحيما .

القطرة التي بنيت عليهَا المدينة كأنَّها كَانت تغذي كل مصادر الماء الشّروب والوديان والأعين والآبار الجوفية المحيطة بها ، تنفث فيها سّم البدَاية العنيفة ، لذا كان السكان أكثر البَشَر كرهَا للحرية ، وكان زعماء المدينة المتَعَاقبون عليها أكثر ادراكا لهذا الكّره ، فكانوا يلهون الساكنَة بكل أشكال الفتات الممكنة ، ويرمون إليهم قضايا ثانوية جدا ليلتهوا بها ، ويَضربُونهم ببَعض، ويقيمُون بَعضا حراسا على بعض ، وَيُغيرون ظلالهم ويستبدلونهَا بمراقبين عليهم مراقبين عليهم مراقبين ، ويَجعلونَهم يَتقاتلون على مناصب الشّغل التي يتم تقليصها إلى تلك الحدود التي تجعل قطرة الدّم الكامنة في الساكنَة تنفجر دَاخلهم ، ويبدأوون بانتهاج كل السّبل غير المشروعة واللاأخلاقية للحصول على الشغل، كمَا فعلُوا ابَان ظهور المحطة الحرارية ، أو الأسْواق الممتازَة ، أو كما فعلوا في الميناء…

تغيرت المعالم التي تُشكل وجه المدينة وجسدها المتعاظم باستمرار لكن الشرايين مازالت تستقبل دماءَ نْفس القَلب المريض للغاية . تَطَورت الوسائط فقط لكن الفحوى ظل كما هو حَاملاً العَديد من المسارب التي شكلها الدم .

ما معنَى أن تتعرض المدينة لقصف ساكنتها كأنَّها مدينة عدو؟

لا شيء يظل في مكانه أكثْر من مسَافة أمل فقط، وبعدها تنهشهُ يَد تُسقط عليه كُل الغل الذي يحمله صاحبهَا .

ما معنَى أن تُفرخ المؤسسات هذا البيض الفاسد من التسيير ؟

كل البيض أفْسَدته صفقة ملغومة ما ،أو فشل ذَريع في الاتقانْ ، أو رغبة لجهة ما تقع في الربوات المطلّة على المدينة للاستفادة لوحدهَا دون السماح باستفادة المدينة .

ما معنى أنَّ الفجَاجة تربى بأعين المسؤولين ؟

يشاهدونها ، ويَمرون عليها بسيارات خدمتهم ، وتتبدى لهم من بعيد كدمل مليء بالقَيح والصديد ، لكنَّهم لا يفعلون شيئا غير أنْ يَفتحوا هواتفهم كي يروا آخرَ أخبار الجرائد التي تزين وجوههم …

لا معنى لكل هذه الأَشياء إلاَّ أن قطرة الدم الفاسدة أَفْسدت كل الجسد الذي سقته منذ القديم ، فلم يَعد شيء ممّا يثير يثير حقا.
س خ

شاهد أيضاً

يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت

(ثقافات) يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت حسن حصاري منْ يمُدُّ لي صوْتا غيرَ صوْتي الغائِب؟ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *