*روجيه عوطة
مَن اطلع على المجموعة الشعرية الأخيرة لرولا الحسين، “نحن الذين نخاف أيام الآحاد”، ولاحقاً، قرأ روايتها الأولى، “حوض السلاحف” (دار الساقي، وبمنحة من آفاق)، بمقدوره أن يلاحظ أمراً بعينه، وهو أن الشخصية القصائدية إياها قد انتقلت لتغدو شخصية سردية، بحيث أنها، وبعد جلوسها على الكنبة، قررت أن تسافر، لكن، قرارها هذا لم يحظ بإنجازه كاملاً، ذلك، أنها، وعندما هبطت في المطار، جرى منعها من تعديه، قبل سوقها إلى المهجع.
لا تفصح عن سبب توقيفها وإحتجازها، وفي الأساس، لا تفصح عن البلاد، التي حاولت زيارتها، وهذا، فعلياً، بمثابة تعبير عنها، عن طريقة وجودها، بما هو منظور وإنفعال ومسلك. فتجاهل الإفصاح ينم عن طريقتها تلك، بحيث أنها، ولما تنزل بها في زنزانة، لا يترك نزولها أثراً جسيماً فيها، ليس لأنها اعتادت على الحبس، وليس لأنها لا تراه على وضعه التقييدي، بل لأنها تهيأت له، لأنها افترضت بلوغه بالإستناد إلى الواقع الذي يقول: كل الأمكنة قد تنقلب إلى أمكنة آسرة، وعندها، لا تعود أمكنة.
بذلك، لا بد من الإستعداد لهذا الإنقلاب، لا بد من جعل حصوله المباغت حصولاً مألوفاً، ومن جعل تلقيه الفج تلقياً ليناً. السبيل إلى هذا، لا يعني الإرتضاء بالموقف، كحيز وظرف، ولا يعني التعلق به، العكس تماماً، أي ترتيب الهبوط فيه من أجل مبارحته، وأول هذا الترتيب، هو رسم مطرح داخله. من هنا، السرد هو آلة هذا الرسم، آلة مسح المجال، وآلة تخريطه (إنتاج خريطته)، التي لا تتجهز بإبرة تخيط تفاصيله، أو بفرشاة تطليه، بل بمسطرة، مستقيمة أو لا، بحيث أن قياسها له، لمجمل جوانبه الهندسية، يفيد بإبانته، وبالتالي، تصميم المطرح في بيانه.
ولهذا، يدور السرد على منوال واحد، يَثبت كي يُثبت شخصيته في موقفها، دافعاً إياها إلى تفحصه، ثم إلى التدقيق فيه، ثم إلى إختباره، إلى الاجتماع بقاطنيه، أي غيرها من السجينات، ولاحقاً، إلى البدء في الحلول داخله. تعمد إلى كل ذلك ببرودة، لا سيما أن الحبس لا ضوء فيه، والمكيف ينفث هواءه المصقع في رجائه. عن هذه البرودة، تنم حركة السرد، الذي يبدو، وبمجمله، “سلحفائي”، كما أن لنعته هذا مرد ثاني، وهو كونه قريب من النوم المفارق، الذي تتميز به السلحفاة. فالشخصية تزاول السرد كي لا تغفو، لكنها، تسبت في هذا السرد، وأحياناً، تجره إلى أن يظهر حلمياً بدون أن يكون كذلك فعلياً.
بآلة السرد، تصنع الشخصية مطرحاً لنفسها في موقفها، ولكي تحتفظ به، تتكئ على أكثر من حيلة. على سبيل المثال لا الحصر، تتبع حيلة استخلاص الربح من الخسارة، فعندما تخسر المأكل، ترى أنها بهذا تربح إنقاص وزنها، كما أن تتبع حيلة ترجيح السوء، فحين تعقد النية على التوجه إلى الحمام، ترجح أنه سيكون كحمام أحد الأفلام، أي أنه قذر للغاية، ولما تصل إليه، ولا تجده مطابقاً لما تصورته، تقتنع به، وتطمأن إليه. بهذه الحيل، بمقدورها أن تطيق كل الأشياء، وأن تتلافى أي شكاية منها، وبهذه الحيل، من الممكن لها أن تمكث في مطرحها، الذي، وفي لحظة من لحظات سردها، تظهر كأنها لا تريد الإنصراف منه، لا سيما أنها لم تحصل على دفئه بعد، إذ لا يمكن تركه سوى على حرّ.
صحيح أن السرد بارد، وصحيح أنه يبرد وقائعه، إلا أنه، ولما يؤمن لشخصيته مطرحها، فذلك، من أجل أن تسخنه بحضورها فيه، الأمر، الذي يسنح لها لاحقاً أن تنصرف من موقفه. فلا يمكن مبارحة أي موقف، كمكان وكظرف، بدون بناء مطرح فيه، بحيث أن هذا الفعل هو مستهل مفارقته. والأخيرة، أي المفارقة، لا تحين سوى لما تنجز الشخصية مطرحها، قائلةً “أنا سلحفاة”، ولما تحين، تقلب السرد حاراً، وبهذا تصير مزاولته خارج موقفها، وهناك، وغير أنها تتصل بوقته (الساعة 15:45)، تبدو كأنها لم تتعرض له، بل زارته، زارت مالو، التي، ومع أنها بقيت فيه، لكنها، بدأت بمبارحته، وذلك، بالضحك كما لو أنها تطير منه.
_________