*أمير تاج السر
في الأيام الماضية قضيت وقتا طويلا، أحاول التآلف مع مئات الكتب التي كانت مبعثرة في بيتي، التي اقتنيتها على مدى سنوات طويلة من المكتبات، ومعارض الكتب وهدايا الأصدقاء، أو الناشرين الذين أصادفهم هنا وهناك، أو حتى ترسل عن طريق البريد.
كانت في الواقع كتب كثيرة في شتى فروع المعرفة، روايات وقصص ومجموعات شعرية ومسرحيات، وكتابات في التاريخ والجغرافيا والأديان، وثقافات الشعوب، وغير ذلك، بعضها استطعت قراءته، وبعضها قرأت منه صفحات ولم أكمل، وبعضها ظل نظيفا لم يمس أبدا.
كنت مرتبكا أمام تلك الكتب الكثيرة، وقفز إلى نفسي سؤال أعتبره مهما: لماذا علينا اقتناء كتب لن نستطيع قراءتها؟ أعني لن نجد وقتا أو عمرا لقراءتها؟ والشخص مهما كان قارئا كبيرا أو نهما، أو متفرغا بلا عمل لا يستطيع قراءة أكثر من خمسين كتابا في العام؟ حقيقة لا أعرف الإحصائية التي لا بد رصدت متوسط القراءة بالضبط، ولكن هذا تصوري. وأزعم أنني تأسست قارئا منذ الطفولة، وبناء ذلك القانون الذي وضع في البيت بأن على كل طفل قراءة قصة في الأسبوع، بجانب فروضه المدرسية، وقد كان قانونا أبويا لطيفا، واستطاع المضي معي ومع معظم إخوتي، بحيث أصبحنا نركض خلف الكتب بلا أوامر أو قوانين بعد ذلك.
المسألة تبدو لي إذن شغفا لاقتناء الكتب أولا، ثم أمنيات كبيرة بأن يأتي الوقت الذي تقرأ فيه، أو على الأقل تقرأ بعضها، والذي يصيبه شغف اقتناء الكتب، لا يستطيع التوقف عن اقتنائها أبدا، وأعرف أصدقاء قراء ومبدعين يمتلكون كل الطبعات التي صدرت لكتاب ما، أي لا يكتفون بطبعة واحدة قد يقرأونها أو لا يقرأونها، وحين تسألهم عن كتاب يذكرون لك تاريخ طبعته الأولى والثانية والعاشرة، إن كان متعدد الطبعات، وربما يخرجونه لك من رفوف مكتباتهم. وتبدو الكتب التراثية متعددة الطبعات، أو الروايات الكلاسيكية المترجمة، في الأدب الروسي والأوروبي بارزة وسط تلك الكتب التي يهوى الشغوفون اقتناءها.
وعلى الرغم من أن المكتبات تضاءلت أعدادها في المدن في السنوات الأخيرة، وتحول بعضها إلى دكاكين للأغذية، وبعضها إلى محلات باردة وجافة لبيع الدفاتر وأقلام الحبر، والشنط المدرسية، إلا أن ثمة حيلا أخرى نبتت في الأفق لإغواء عشاق الكتب الذين لن يهدأوا إلا باقتنائها. فقد ظهرت المحلات متعددة الأغراض التي تخصص قسما للكتب، مثل محلات فيرجين، أو دبليو سميث، أيضا ظهر التسوق الإلكتروني عبر الإنترنت، وهذا تسوق مريح وجاد وسهل للذين يطرقون الإنترنت ويعرفون مداخلها ومخارجها، ويمكن طلب الكتب من موقع ما، وتصل إلى البيت في وقت ليس طويلا أبدا.
أيضا محبة كتاب ما، أو مجموعة كتب، قد تصنع ميلا قويا لاقتنائها، كلما صادفها المحب، وقد عثرت في مكتبتي على كتب تاريخية، تختص بتاريخ السودان، مكررة مرات عدة، واكتشفت أنني أشتريتها من الخرطوم كلما ذهبت إلى هناك مثلا كتاب «السيف والنار» لسلاطين باشا، الخاص بمذكرات للضابط النمساوي في عهد الثورة المهدية، أيضا كتاب «حرب النهر» لونستون تشرشل، رئيس الوزراء البريطاني الأسبق، وكتبه عن المهدية أيضا، وكان مراسلا حربيا في زمنها، ومذكرات الشيخ بابكر بدري المليئة بالمعرفة والجمال، ومن الروايات التي وجدتها مكررة، إحدى رواياتي الأثيرة «ليلة لشبونة» لأريك ماريا، وبالطبع عدد من روايات ماركيز، كاتبي المفضل في فترة ما، وكنت في وقت من الأوقات أقرأ العمل الواحد لماركيز ثلاث أو أربع مرات بدون ملل، ومع التقدم في العمر والقراءة والكتابة، انحسر كثير من الشغف، وكتبت مرة أنني أعدت قراءة «إيرنديرا الغانية»، أو «إيرنديرا البريئة» التي أحرقت قصر جدتها، حين كانت تعمل وهي نائمة، وغرستها الجدة القاسية في سكة البغاء حتى تسترد قيمة قصرها المحترق، فلم أحس بالنشوة القديمة كاملة على أنني ما أزال أحس بتلك النشوة كلما عدت إلى رواية: «الحب في زمن الكوليرا».
الشغف بالكتب بالطبع يختلف عن رغبة القراءة، وأحيانا يختلف كثيرا، ونعرف أن الأوروبيين قراء عتيدون لكنهم لا يميلون لتخزين الكتب، هم يقتنون الكتاب لقراءته، ثم يعيدون بيعه بعد ذلك ولا يحتفظون به إلا لأغراض بحثية كما أعتقد، وفي حين تجد عندنا في بسطات الكتب القديمة، أن معظم ما فيها كتب مهترئة وقديمة فعلا، واضطر أصحابها لبيعها تحت ضغوط ما، تجد البسطات في أوروبا تحوي كتبا نظيفة وجديدة، وأذكر أنني وقفت طويلا أمام أكشاك تبيع الكتب المستعملة في ساحة ربابليكا في وسط روما، واقتنيت مجموعة من الكتب أعرف أنني لن أقرأها أبدا، ذلك ببساطة أنني لا أعرف الإيطالية. هو الشغف الذي ذكرته، ويبدو بلا حل.
من الأشياء التي تجذب محبي الكتب بكل تأكيد، ألوان أغلفتها التي تصمم أحيانا بترف وأناقة، والعناوين التي يبرع البعض في وضعها، بحيث تصبح وحدها فخاخا لا يستطيع الشخص التخلص منها، وعناوين مثل: الأرض تحت قدميها، أو قصة عن الحب والظلام، أو الشتاء في لشبونة، على سبيل المثال تشكل بالنسبة لي وسيلة جذب، في حين قد يراها غيري مجرد عناوين، وهنا أشير إلى اختلاف التذوق حتى في تلقي عناوين الكتب وأغلفتها وأنها تختلف من شخص لآخر، تماما مثل القراءة نفسها التي اتفقنا جميعا على أنها أذواق. وأذكر أنني كنت مستاء من عنوان كتاب لي وضعته، ولم أستطع تغييره بسبب أن القصة مرتبطة به، ووجدت من يشيد به ويعتيره من العناوين الجذابة، والعكس في كتاب آخر كنت أحب اسمه وغلافه ووجدت من يعلق سلبا على ذلك.
يبقى تعليق أخير عن الكتب الرابضة عندي وجددت العزم على محاولة قراءتها، وأعرف أن ذلك غير ممكن، والممكن في الوقت الحاضر، هو الطواف بها وتقليبها والاندماج مع بعضها، أي مع تلك التي قد أستفيد منها معرفيا.