“الخائفون” رواية سورية بطلها الخوف

*حنان عقيل

تجنح الروائية السورية ديمة ونّوس في روايتها الخائفون إلى تجسيد مشاعر الخوف لدى السوريين، ذلك الخوف الذي هو نتاج عقود من القمع والاستبداد. ثمة تركيز على سيكولوجيا الخوف لدى السوريين قبل الثورة وبعدها، فونّوس ترتكز على تجسيد مشاعر الخوف عبر شخصيات، سليمى، سلمى، نسيم، كشخصيات رئيسية..

البطل هنا في الرواية هو الخوف متجسدا في عدد من الشخصيات تكاد تكون معبرة عن أكثر من جيل وساردة لمختلف التنوعات الفكرية. ما جعلنا نتساءل من أين استقت ونّوس تفاصيل هذه المشاعر وتراكماتها؟ هل الأمر اعتمد على مخزون من تجارب شخوص واقعية فقط أم ثمة قراءات عن سيكولوجية الخائفين كانت مصدرا لها في كتابة الرواية؟

حائط الخوف

تُبيّن ونّوس أنها قرأت عن الخوف وعاشته واستمعت كثيرا لقصص أشخاص عاشوا حياتهم خائفين. من ثم فليس من الصعب الكتابة عن الخوف لمن ولد وعاش في سوريا حتى انطلاق الثورة عام 2011.

توضح ونوّس، في حديثها مع “العرب”، أن الثورة السورية والحرب التي يخوضها النظام وحلفاؤه منذ ما يقارب من سبع سنوات لم تكن هي محرّك الخوف لدى السوريين. بل على العكس تماما كسرت الثورة حائط الخوف، ربما لم تقتلعه من جذوره، إلا أنها كسرته على الأقل. فاقتلاع الخوف ليس أمرا سهلا. ثمة طبقات متراكمة من ذلك الإحساس بالهلع يتمدّد في أجساد السوريين، لصيقا بأرواحهم. تراه أحيانا بين طبقة الجلد الرقيقة والمسامات. كيف يمكن إزاحة تلك التراكمات دفعة واحدة، بعد أكثر من أربعين عاما!

كتبت ونّوس عن خوف شريحة من السوريين قبل الثورة وليس بعدها. من جهة أخرى، جاءت الثورة كصدمة بالنسبة إلى الكثيرين. من عاش وتعايش مع الخوف طوال العقود الماضية، لن يسهل عليه ابتلاع فكرة أن ذلك الإحساس المرير والمنهك، لم يعد من مبرّر له. يتحوّل الخوف حينها إلى أشكال أخرى مختلفة. الخوف السوري بات مرضا مزمنا وليس شعورا طارئا. بات حالة مستقرّة ولصيقة بالروح كما ذكرت. لذلك ربما، نرى الكثيرين يحلمون بالعودة إلى ما قبل العام 2011 لأنهم اعتادوا على الخوف، أدمنوه، شكّل بالنسبة إليهم حالة واهمة من الاستقرار.

تتابع ضيفتنا “شغلني موضوع الخوف بأشكاله المتبدّلة كحالة دفاعية تنبت من اللامنطق وفي اللاوعي. كنت أنا أيضا ضحية للخوف في مرحلة من المراحل، وعشت في مواجهة نوبات هلع متلاحقة طوال سنوات. هلع يأتي بشكل مفاجئ، يشلّ المنطق والعقل، يبثّ الرعب في أوصال الجسد والروح، ولا أعرف سببا واضحا له! إنه تلك التراكمات الفظيعة لكائن ولد وعاش في ‘سوريا الأسد‘، إنه الذاكرة البصرية والسمعية التي شكّلناها في مدننا السورية وكنّا شاهدين على انهيارها، وتدميرها والعبث بفرادتها وتحويلها إلى مستعمرات عسكرية وأمنية كئيبة وموحشة”.

الاعتماد على الأحلام باعتبارها ركيزة لما يعتمل في اللاوعي عند الإنسان وإشارة إلى مخاوفه ورغباته، تقنية اعتمدتها ونّوس في روايتها للتعبير عن فكرتها عما يدور في العقل الباطن لدى شخصياتها المحاصرة بالخوف؛ الخوف حتى من الخوف نفسه..

تشير هنا ونّوس إلى أنها لم تعتمد على نظريات أو دراسات معيّنة في ما يخص الأحلام التي ساقتها عبر أحداث الرواية. إلا أنها تؤمن بالأحلام وبعلاقتها الوثيقة باللاوعي. تجذبها فكرة أن البعض يعتقدون بإمكانية تحقق الأحلام.

السوريون وغيرهم في المنطقة العربية، يلحقون الرغبة بالحديث عن الحلم بكلمة “خير”، مفترضين بذلك أن الأحلام تتحقّق وبالتالي تأتي كلمة “خير” كرغبة بأن يكون الحلم جميلا وليس كابوسا. هذا ربما ما جعلهم يعتقدون بأن الموت في الحلم حياة لبث الاطمئنان في النفس. واعتقاد أن رؤية الدم سائلا في الحلم، يفسد إمكانية تحققه، جميلا كان أم محزنا. كل تلك الاعتقادات، تعلي من شأن اللاوعي.

ذاكرة الكاتب

اعتمدت ونّوس في الخائفون، على تقنية رواية داخل رواية لكن الرواية الثانية عن سلمى بعنوان أوراق نسيم، غير مكتملة.  إضافة إلى ذلك ووسط هذا الفيض من أحداث الثورة والحرب والدمار، تُنحي الكاتبة التوثيق والحدث ليأتي على هامش الرواية دون أن تبرز له المساحة الأكبر. هذا الاختيار على أهميته ليس سهلا خصوصا مع تلاحق الأحداث وتأثيرها على مصائر السوريين.

وتلفت ونّوس هنا إلى أنه بعد الثورة صدرت العديد من الروايات التوثيقية وهذا أمر مهم للغاية. الرواية هي التاريخ. إلا أنها لم تكن قادرة على التوثيق بسبب خروجها المبكّر من دمشق في شهر أغسطس من العام 2011.

تقول “التوثيق يفقد الرواية عنصر الخيال. وأنا أهرب من الواقع إلى ذلك الخيال، أحتمي به لأستطيع التنفّس، لأنجو. ولمّا كان الابتعاد عن الثورة السورية أمرا مستحيلا بالنسبة إلي، اخترت موضوع الخوف. أردت الاشتغال على ما هو أبعد من الحدث اليومي والغوص في البعد النفسي وفي ذلك العالم الداخلي المعقّد”.

الغوص في الأبعاد النفسية لشخصيات رواية الخائفون، والاستنطاق القاسي للذاكرة والتاريخ والواقع يشيان بأن وقت الكتابة لدى ونّوس كان طقسا استثنائيا من المعاناة.

تؤكد ونّوس على صحة هذا الظن بقولها “لم تكن كتابة الخائفون سهلة. مع أنني لا أجد متعة في الحياة تلامس ولو بأطراف أصابعها، متعة الكتابة. إلا أن هذه الرواية، أتعبتني. استحضار الذاكرة مرهق، والكتابة عن الخوف يجبرك على عيشه مرتين. مرة لدى اختباره ومرة أخرى لدى الكتابة عنه. كنت أصاب بنوبات الهلع وأنا أكتب”.

في بعض القراءات للرواية، ثمة إصرار على الاستنقاء ومحاولات البحث عن السيرة الذاتية لونّوس ووالدها سعدالله ونوس إلى حد اعتبار بعضهم الرواية سيرية بشكل ما. تلفت ونّوس إلى أنها لا تنزعج مما يكتب أو يقال عن الرواية، ما إن تنشر الرواية حتى يفقدها الكاتب. فكل رواية تحمل سيرة صاحبها بشكل أو بآخر، مهما حاول الكاتب الانفصال عن روايته وشخصياتها وأماكنها، لا بدّ للذاكرة أن تتسرّب ببطء إلى ذلك العالم المتخيّل.

تلفت ونّوس في ختام حديثها إلى فرحتها بوصول روايتها إلى القائمة القصيرة لـ”البوكر”. لكنها لا تظن أن ثمة روائيين يكتبون وفق معايير تليق بلجان التحكيم، فهذا ليس تصوّرا واقعيا، وحتى لو افترضنا أن ذلك صحيح، فعلى الكاتب أن يكون عرّافا بهذا المعنى ومتنبّئا ليحاكي ذائقة لجنة تحكيم تتألّف من أشخاص عديدين! قد تكون بعض الجوائز مسيّسة، بمعنى أنها لا تمنح لكاتب يخالف توجّهات البلد الذي يرعى الجائزة هذه أو تلك. لكن من الصعب استقراء ذائقة لجنة التحكيم والكتابة بما يحلو لها. قد أوافق على أن البعض يكتب رواية يعرف مسبقا أنها ستكون ضمن لائحة الأكثر قراءة. هذا منطقي وواقعي ومن الممكن الاستجابة له أثناء الكتابة، بخلاف موضوع الجوائز.

_________
*العرب

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *