بعض الأسئلة، مثل اللباس، تحمل نية التضليل حسب منطق كل شخص.. نفس الشيء ينسحب على بعض الحكم والأمثال ، والأقوال”المأثورة” التي حملنا الكبار على حفظها ونحن صغار لتتقرر في رؤوسنا الصغيرة كبدَهيات لا يأتيها الباطل لا من أمام ولا من خلف ،ثم كبرنا وبتنا نرددها عن ظهـر قلب دون أن يكلف معلمونا ، في المدرسة ، ولا أولياء أمورنا في البيوت لفتنا إلى ما فيها من بهتان،أو شرحها حتى يتم إدراكها بشكل جيد .. الكثير من هذه الأمثال يضمر حمولة إيديولوجية تخدم مصالح بعض المجموعات التي تعمل جاهدة على تكريسها ،نحو” السكوت حكمة ” ، فكيف بالله يسكت من تُهضَم حقوقه؟ وأي طاقة من الصبر قد يحتاجها من يبيت ليله بلا عشاء، محاطا في بيته بعدة أفواه تنتظر في انكسار لقمة واحدة ولا تجدها وغيرها يبيت في فراش وثير شبعان ريان.. أين العدل هنا؟؟؟
يقول الشاعر جميل صدقي الزهاوي :
أفي الحق أن البعض يشبع بطنه * و أن بطون الأكثرين تجــــوع؟!..
فهل هو مستساغ أن نقول لكل معذبي الأرض تعلموا كيف تصمتون، لأن في السكوت حكمة، ولمن يركبون رؤوسهم ممن يفكون الحرف نقول لهم أنتم في حاجة لمعلم يعلمكم،على غرار تعلم اللغات، أبجديات الصمت في أسبوع حتى تنثال الأيام المخملية على غيره في كل أيام السنة، بينما هو يعيش على الكفاف، فلا يحتج، ولا يصرخ، ولا يفتح فمه لأنه تعلم درسا بليداً هو إذا كان الكلام من فضة فإن السكوت من ذهب،وعليه تالياً أن يتحمل.
إن بعض الأمثال العربية، و الأقوال بغض النظر عن رُواتها ثقات كانوا أو ممن يشك في روايتهم، مستفزة ،تثيرنا من الداخل، وتبعثنا على القيء حين نتأمل مضامينها السخيفة التي تستصغر عقولنا،وإذا كانت الأمثال تراهن على وصف حالة، أو تقديم مشورة، أو تجيب عن سؤال، أو ترسم هدفاً فإن صانع العاهات، وأقصد هنا المستعمر كان يعي قوة وقعها على الناس، فلم يكن يثنيه أحد لاعتمادها عبر تسخير أبواق بشرية من أجل ترسخيها ، وتكريرها إلى غاية تقريرها، فكما تسعفه أسلحته الفتاكة هو يعتمد أيضاً على هذه الأمثال التي يجتهد في تنميقها، وتجميلها حسب الطلب، لتنساب بدعة كما الأفاعي بين الناس، وتشاع بينهم لأنها متى ترسخت فى الأذهان، مع الإيمان بها، صار لها شأن بيننا،و ويصبح لها تالياً، في كل أمة، لسان يروج لها مجاناً دون أن يدري، ويوم يدري يصبح من الصعب إن لم نقل مستحيلا لفت الناس إلى ما فيها من بهتان، وما الصمت حكمة، برأيي، سوى حكمة استعمارية بليدة كانت تحمل الشعوب على القناعة،والصمت المطبق وهي التي تعيش بسببه في المستنقعات، تغرق في أوحالها، وتحمد الله فوق ذلك لأن هناك من استعمرها، وأذلها؛ثم أي كنزهذا الذي لا يفنى وموجود في القناعة، بل كيف يريدون أن تقنع الشعوب المضطهدة من شيء هي تعدمه أصلا، يُقال للمعدَم (اقنع) وهو جائع طاو، عار،في بيته أفواه لا تجد لقمة خبز تسد بها رمقها، كيف يقنع بالله عليكم، بل لماذا يقنع وهو يرى إلى التوزيع غير العادل لثروات بلده…
” اقنع”، “اصبر”،” تحمل”… يـــاه.. ما أخف هذه الكلمات في اللسان، وما أثقلها في الميزان !
لكل الأمم حكمها وأمثالها، غير أن طبيعة تعامل العرب معها باعتبارهم أقواما تقول، ولا تفعل،تأخذ صبغة خاصة جدا تميزهم عن غيرهم في طبيعة الاستعمال اليومي لها، إنها تُستهلك عندهم بشكل لافت في الممارسة اليومية، نحفظها ، ونرددها أكثر مما نحفظ القرآن الكريم، نستهلكها مع الزيت والسكر، والقهوة لدرجة أن من النادر أن تجد فيلما عربيا قصيرا أو طويلا ، أو مسلسلا عربيا، أو سهرة في أسرة عربية دون أن تحاك فيها أمثال ترد على الألسن، وتنساب كما الماء الزلال ، في الوقت الذي لا يحصل ذلك في أفلام الآخرين ،ولا في سهراتهم ، ولا في مسلسلاتهم ، إلا ما يصدر عنهم عرضا.. ببساطة لأنهم جُبلوا لا على حفظ الأقوال فقط إنما تتويجها بالأفعال أيضا.
يذكر الروائي الكبير حنا مينة في كتابه ” كيف حملت القلم” حالة شبيهة ..فعندما قامت حركة الديسمبريين ضد حكم القيصر في الربع الأول من القرن التاسع عشر تنفس الفلاحون الصعداء ، وابتهجوا لبداية جديدة بدأت تظهر في الأفق، وبما أن الأقوال في مثل هذه الظروف يصبح لها سلطة، ولاسيما حين تصدر عن زعماء، أو أدباء، أو مفكرين لهم مكانتهم في الساحة فإنها تقترن بالأحداث السياسية الكبرى فتؤطرها، وتضعها في سياقها ليصبح لها شأن كبير.
لقد حفظ لنا التاريخ – يقول حنا مينة- كيف تدخل أديبان شهيران أذهلا العالم بمؤلفاتهما، هما دوستويفسكي، وتولستوي، لكنهما أسديا نصيحة ليست بريئة للمحتجين من الفلاحين وشباب روسيا الثائر،ففي الوقت الذي كانت الرجعية تحتفل في روسيا القيصرية،ويسقط الخونة، فإن صاحب ” الإخوة كارامازوف” دوستويفسكي بدلا من أن يحث الوطن على انتفاضته، ويبارك روح المقاومة، صرخ بالمجتمع الروسي في خطابه الذي ألقاه بمناسبة إزاحة الستار عن تمثال شاعر روسيا الكبير بوشكين : “احتمل”، أما تولستوي صاحب رائعة “الحرب والسلام” فقد صرخ في شباب روسيا المتمرد ضد الديكتاتورية” أصلح نفسك” ثم زاد :”لا تقاوم الشر بالعنف” ، إنهم يريدون شعوبا تعيش على الهامش بتواضع شديد ، تسحقه الفروق الطبقية دون أن يحتج، وبدل من ذلك مطلوب منه أن يتحمل، أو يتوسل حقه دون عنف؛ لقد عبــر عن هذا الوضع الكاتب فرانز كافكا بسخرية متحدثا عن وضع العمال في مجتمعه وقال: ” يا لتواضع هؤلاء العمال، إنهم يلتمسون منا حقوقهم باستعطاف.. إنهم يستعطفوننا بدلا من أن يهدموا المؤسسة على رؤوسنا، وينتزعوا حقوقهم “..
أليست هذه وتلك أقوال للإذلال؟ وإن لم تكن كذلك فيكف يستوعب الذهن البشري دعوة هؤلاء للتحمل، وللصبر الجميل، لحمل من يغرق في أوحال المستنفعات،والفوضى ،والجوع، واللامساواة على عدم مقاومة الشر بالعنف…
إن في هذه الدعوة شيئا شريرا يضمر سوء فهم ليس فقط لمشاعر المظلومين، ولا لعاطفتهم، إنما جهل أيضا بصيرورة التاريخ ، كان مفهوما لو صدرت النصيحة من القيصر نفسه، أو من أي صانع آخر للعاهات، أما أن يقولها دوستويفسكي، وتولستوي فمن عجب أن يحصل ذلك..
وفي فرنسا قبل أكثر من مئتيْ سنة يذكر التاريخ قولا ” مأثورا” لسيدة فرنسا الأولى آنذاك ماري أنطوانيت، ذلك أنها سَألت يوماً عن سبب هيجان الشعب الفرنسي الذي خرج غاضبا في ثورة عارمة ، فقيل لها : ” إنهمغاضبون، ومضربون،لأنهم يعدمون خبزا”. ردت المسكينة قولتها الشهيرة:” فليأكلوا بسكويت إذن”..
ومن تصدر عنهم مثل هذه الأقوال ليسوا عاديين بالمرة، فهم زعماء ولاّهُم الناس أمورهم، وهم أيضا ليسوا حمقى أبدا بل – الطامة الكبرى- أنهم يعنون ما يقولون، والسؤال هو: هل بما يهرفون به لمزبلة التاريخ من القوة بحيث يبرر لهم ما يقولون من “روائع” يضاف لها دائما صفة “مأثورة”؟.
برأيي نعم ومكررة .. نعم ما دام هناك أولاً من يصدقهم، ويسمع لهم، وثانياً نعم لأن ما يقولون لا يأتيه الباطل لا من أمام ولا من خلف وهذه حال زعماء العرب، وثالثاً نعم لأننا نصبغ على زعامة هؤلاء بركة هي بعض من تخيلنا، وحتى إن لم توجد أصلا، وهي- كذلك فعلا- نخترعها لهم..
حين احتدت ثورة الرابع عشر من يناير من عام 2010، وحين أسمع الشباب التونسي الثائر صوتهم ، في ثورة الحرية والكرامة، طلع العقيد الليبي معمر القذافي كعادته في الشاشة وقال لشباب تونس الثائر:” تسرعتم …” بل وأضاف” ليس هناك أحسن من بنعلي ليحكم تونس”، وفي الوقت الذي كان الشعب التونسي ينتظر من كل الزعماء الذين يؤمنون بالديمقراطية، والحريات، وتكافؤ الفرص أن يباركوا خطواتهم، يخرج من هو محسوب على الزعامة الثورية في إحدى شطحاته ليقول لهم بوقاحة ” اصبروا”..
فيا للدعوة النائحة ذات الأسمال..ويا للثوار الأحرار من شطحات العقيد..
أليس قول الزعيم الليبي” ليس هناك أحسن من بنعلي” شبيهاً بقول العرب “ليس في الإمكان أفضل مما كان”( إذا مات بنعلي ضمآن فلا نزل القطر على تونس)، إنه الخرف، إنه مرض الزهايمر الذي يُنسي الناس صيرورة التاريخ. إنه شعار الموت يرفعه المحنطون في عصور الانحدار في شكل حكم بليدة، وأقوال محسوبة على زعماء تسد آفاق الرؤى الجديدة، وتعمل على تكحيل العيون بالعمى المطبق، وتحمل على العيش في مآتم طول الوقت.
وإذا فهمت ما يرمي إليه القذافي فإنه يطمح لأن يحكم أمثاله شعبا لا يبالي بشروط حياته،حالما بالجنة، والآخرة، ناسيا الحضيض الذي آل إليه، ملتمسا السلام الداخلي ، وتقبل إمكانية التنفس ليس إلا، ناظرا بإعجاب لمن يسرق خيرات بلاده دون حراك، يوزعها على أهله المقربين ليغتنوا على حساب شعب مقهور، محتاج… شعبا لا يحرك ساكنا، متحليا بصفات الوداعة والطيبة، شعبا مستعدا دائما لأن يسامح من سرقه في وضح النهار، ويعفو على من جرده من أبسط حقوقه، بل وسلط عليه بوليس مخابراته لقمعه، والبطش به حتى يواصل هو وأزلامه طلاء اليد التي تمسك بزمام الأمور بكل الألوان عدا الشفاف منها…إنهم يبسطون سيطرتهم اللامحدودة بكل الوسائل .
إننا في حاجة لأقوال تاريخية تنقذ البشرية من براثن الفساد، أقوال مقرونة بأفعال، وأقوال تطرح الأشياء طرحا صحيحا، وتضعها في سياقها التاريخي الصحيح، وليس لأمثال، وأقوال بليدة، مهترئة ،و موجعة كضربات سيف مهند.
ولكل الثرثارين الذين يقتاتون من حكم بليدة للحفاظ على كراسيهم، وصيانة مناصبهم نقول لهم: ترجلوا، ودعوا الأفعال تنبت قرنفلات في أصابع شبابنا بدل جعجعة عقولهم بمجرد كلام ينطح الهواء.