خاص-ثقافات
*جميـــــلة مرابـــــط
نموذج – الهيئة العالمية للسلام والتعايش-
الحمد لله الذي جعلنا شعوباً وقبائل لنتعارف ونتعايش، فالتعددية داخل المجتمعات البشرية ما هي إلا ظاهرة اجتماعية ذات قيمة أساسية لإكمال دورة الحياة. فالأمر يتوقف وبشكل أساسي على إدارة هذه التعددية إدارة سلمية، تحفظ للجماعات المتنوعة التي تعيش مع بعضها البعض مساحة للتعبير عن تنوعها في أجواء من الاحترام المتبادل والتسامح الذي يضمن للأفراد التعايش فيما بينهم.
فلا شك أنه إذا شاعت ثقافة الرحمة والتسامح بين القوي والضعيف والدول والشعوب، فإننا سنشهد مراحل عظيمة من البناء، وستظهر نتائجه على الأمم، تقول الحكمة {{الصالحون يبنون أنفسهم، والمصلحون يبنون الأمم}}. مما يفرض علينا البحث عن إستراتيجيات وإبداع آليات لتحويل دياناتنا وثقافاتنا إلى منابع للحب، والتضامن والحوار البناء، لترسيخ قيم التسامح الديني والثقافي داخل مختلف التقاليد الثقافية والدينية وداخل مختلف الأنظمة التربوية، ليتحول إلى سلوك فردي وجماعي داخل الأسرة، بين الأفراد، بين الجماعات وبين الأمم والشعوب.
ومن بين هذه آليات التي تحاول فعلا عكس معاني التسامح والسلام، وتفجر سبلا للتعايش وتعمل على ترسيخ قيم ومبادئ يُمليها الحرصُ المشترك على البقاء حراّ كريما فوق هذا الكوكب، ويحفظ سلامة الكيان الإنساني نجد ” الهيئة العالمية للسلام والتعايش(cmpc)؛ مستجيبة لقوله تعالى{{ يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير}}. ومرتكزة على ما أكد عليه الدستور المملكة المغربية في الفقرة الثانية من ديباجته حيث جاء فيه ” المملكة المغربية دولة إسلامية ذات سيادة كاملة، متشبثة بوحدتها الوطنية والترابية، وصيانة تلاحم وتنوع مقومات هويتها الوطنية، الموحدة بانصهار كل مكوناتها العربية، الاسلامية، والأمازيغية، والصحراوية الحسانية، والغنية بروافدها الإفريقية والأندلسية والعبرية والمتوسطية. كما أن الهوية المغربية تتميز بتبوإ الدين الإسلامي مكانة الصدارة فيها. وبذلك في ظل تشبث الشعب المغربي بقيم الانفتاح والاعتدال والتسامح والحوار والتفاهم المتبادل بين الثقافات والحضارات الإنسانية جمعاء”.
ومن هنا حددت الهيئة رؤيتها ورسالتها، وأجملتها في نص ميثاقها التأسيسي الذي جاء فيه أن ” نشر ثقافة التسامح الديني بين الناس جميعا، ونبذ العنف والكراهية والتطرف والتعصب وترسيخ ثقافة الحوار بين الأديان والحضارات والثقافات والدعوة للتعايش السلمي بغض النظر عن الانتماء الديني أو العرقي أو الفكري وغرس روح الانتماء والولاء وحب الوطن والملكية”.
لذا، لا يستقيم لنا الأمر في البداية بعرض أهداف الهيئة والغاية من تأسيسها وآليات عملها، وأنشطتها المتنوعة والمصبوغة بروح المبادرة والتعاون؛ ما لم نحدّد بدقّة بعض المفاهيم المثيرة كمفهوم السلام والتعايش، وسبل إرساء قواعده المبنية على الوحدة الإنسانية، وحرية الاختيار، وتحقيق العدالة والمساواة بين الجميع دون تمييز، ونشر السلم داخلياً وخارجيا.
-
مــرامــــي وأبـــعــــــاد مـــــفــــهــــــوم الـــســـلام والتـــــعايـــــش:
من السذاجة تصور عالم خال من النزاعات، يسوده الوئام ويعمه السلام، بل الصراع والتدافع باقيان بقاء الخير والشر، والحق والباطل، إلى أن يرث الأرض ومن عليها؛ إلا أن المبدأ الحاكم أن الصراع ليس أمراً حتمياً أو حكماً مقضياً، بل الأساس فيه قبول الآخرون والتعايش معهم؛ ومحاولة استيعابهم واحتوائهم، وهو الأسلوب الذي اعتمده أول من أطلق شعار التعايش السلمي(نيكيتا خروتشوف)، الذي كان لا يعني به تراجعَ بلده الاتحاد السوفياتي عن تحقيق أهدافه المعلنة، بقدر ما كان يعني به محاولته تحقيق تلك الأهداف بطريقة تنسجم مع مقتضيات التغيّرات التي طرأت على المسرح الدولي.
وبالرجوع إلى الدلالة اللغوية للتعايش نجد في )المعجم الوسيط(، تعايشوا: عاشوا على الألفة والمودّة. والعيش معناه الحياة، وما تكون به الحياة من المطعم والمشرب والدخل. بينما إذا دقّقنا في مدلولات مصطلح التعايش نجده يقودنا إلى جملةٍ من المعاني يمكن تصنيفُها إلى مستويات ثلاثة:
-
المستوى الأول : سياسي، إيديولوجي، يحمل معنى الحدّ من الصراع، أو العمل على احتوائه، أو التحكُم في إدارة هذا الصراع، بما يفتح قنوات للاتصال بين المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي في المرحلة السابقة.
-
المستوى الثاني : اقتصادي، يرمز إلى علاقات التعاون بين الحكومات والشعوب فيما له صلةٌ بالمسائل القانونية والاقتصادية والتجارية، من قريب أو بعيد.
-
المستوى الثالث : ديني، ثقافي، حضاري، وهو الأحدث، ويشمل تحديدا معنى التعايش الديني، أو التعايش الحضاري، والمرادُ به أن تلتقي إرادات المختلفة، من أجل أن يسود الأمنُ والسلام العالمي، وحتى تعيش الإنسانية في جوّ من الإخاء والتعاون على ما فيه الخيرُ الذي يعمّ بني البشر جميعاً، من دون استثناء.
وضمن المستوى الثالث، تعمل الهيئة العالمية للسلام والتعايش وبكل فروعها ومكاتبها على صيانة هذا التعايش بسياج من الاحترام المتبادل، والثقة حتى لا ينحرف التعايش عن الخط المرسوم له، لأي سبب من الأسباب، وحتى لا تُغلَّب مصلحةُ طرفٍ على مصلحة الطرف الثاني، مهما تكن الدواعي والضغوط، وذلك بأن يتمَّ الاحتكام دائماً إلى القواسم المشتركة من القيم والمثل والمبادئ التي لا خلاف عليها ولا نزاع حولها.
لهذا نجد سبل التعايش وفيرة حيث يحمل في ذاته صفات السلام الإيجابي، خاصة إذا علمنا أن جل الدراسات الأكاديمية تؤكد أن العيش في سلام لا يعني غياب العنف بكافة أشكاله بقدر ما يتطلب الرغبة في تحقيق الانسجام بين البشر وسيادة حالة من الهدوء في العلاقات بين الجماعات المختلفة… وهذا ما يفتح المجال أمام التفكير في مستويات مختلفة للتعامل مع مفهوم السلام.
والسلام في أبسط تعريفاته هو” غياب الخلاف، العنف، الحرب“. وهذه نظرة شائعة في العديد من الكتابات، والتي لها جذور في الحضارة اليونانية القديمة، وامتدت عبر التاريخ الإنساني. إلا أن التطورات التي عرفتها المجتمعات، تجاوزت هذا التعريف إلى ضرورة تشييد بنية أساسية تمكن الأفراد من إصلاح علاقتهم مع بعضهم البعض، وإصلاح الادراكات الخاطئة تجاه الأخر، وهو ما نجده مؤكدا ضمن إعلان ثقافة السلام (قرار 53/25 المؤرخ 10 نوفمبر 1998) الذي اتخذته الجمعية العامة للأمم المتحدة، إدراكا منها أن السلام لا يعني غياب الصراعات فحسب، وإنما يتطلب أيضا عملية تشاركية دينامية إيجابية يشجع فيها الحوار وتحل الصراعات بروح التفاهم والتعاون؛ وهو ما نجده منصوصا عليه في الميثاق التأسيسي لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم ينص على: ” لما كانت الحروب تتولد في عقول البشر، ففي عقولهم يجب أن تبنى حصون السلام”.
وبما أن من طبائع الناس التغير في الأحوال، فلابد من خلق آليات وأجهزة تعمل على توضيح وتوجيه السلوك وتمد يد العون والمساعدة في إزالة حواجز الغموض، وتغرس بذور الخير في القلوب والنفوس… هذا ما يحيلنا مباشرة إلى إلقاء الضوء على الهيئة وأخذ نبذة عن نشأتها وعن هيكلتها، على أمل عرض المزيد عن مكاتبها الفرعية وطرق عملها في موضوعات لاحقة.
-
نــــبــذة عــــن الهـــيـــئة العالمية للـــســلام والــــتــعايـــش