“نقد الحداثة”.. من أجل حداثة مغايرة

خاص- ثقافات

*عثمان لكعشمي،المغرب

                       

قد يبدو للمرء – القارئ في الوهلة الأولى  التي تقع عينه على عبارة ” نقد الحداثة ” [1]، أن الأمر يتعلق بالفكر الذي ينعت تصنيفا ب ” ما بعد الحداثة ” . لكن سرعان ما يتبدد هذا الانطباع، إن لم ينفجر فور اسكناه فحوى ما ترمي إليه تلك العبارة ، نظرا لما تتضمنه من تصور وموقف للحداثة ، يمكن وصفه بالمغاير . يتعلق الأمر بتصور آلان توران Alain Touraine، للحداثة .  إنه تصور مغاير ، وما يجعله كذلك هو ابتعاده عن مجمل ومختلف الطروحات الفكرية السائدة للحداثة نفسها ؛ أنّى كانت : سواء تعلق الأمر بعقلنة   rationalisation  الحداثة أو بتذويتها  subjectivation ، بالحداثة وما بعدياتها . لايرجع ذلك ، إلى الطابع السوسيولوجي لذلك التصور أو لسوسيولوجية نمط تفكيره فحسب ، وإنما إلى خصوصية سوسيولوجيته ، بما هي سوسيولوجيا تاريخوية ، كما يرجع إلى ما تعنيه تلك التاريخوية نفسها .  فما هو المعنى الذي تتضمنه  هذه التاريخوية والحالة هذه ؟

نحن إذن ، أمام معنى مختلف للتاريخوية l’historicité  ، معنى آخر ، يختلف عن التاريخوية المعهودة . تلك التاريخوية التي تقدم نفسها كموقف في التطور التاريخي ؛ تطور قوى الإنتاج . فهي ليست فلسفة في التاريخ كما هو حال الفلسفات الاجتماعية والسياسية ، مادية كانت أم مثالية ، لا يتعلق الأمر بتاريخوية حتمية ترجع كل الوقائع والأفعال الاجتماعية إلى شروط تاريخة حتمية تنتصر للعقل ، للمنظومة ، للمجتمع على حساب الذات الفاعلة Sujet ، الفاعل ، والفرد . إنها لا تشير إلى المشاكل العامة للنظام الاجتماعي والديموقراطية ، وإنما تشير إلى النماذج الثقافية التي ينتج بها مجتمع ما ذاته : « لقد أطلقت لفظ تاريخوية على مجموع النماذج الثقافية التي ينتج من خلالها مجتمع من المجتمعات معاييره في مجالات المعرفة والإنتاج والأخلاق »[2] ، إننا مع آلان توران أمام  « إبداع تجربة تاريخية »[3].

إن تاريخوية  مفكرنا لا تحدد المجتمع إلا بقدرته على الفعل  في ذاته ، من خلال الصراع الاجتماعي المتجسد في العلاقات الاجتماعية : بين المنظومة والذات الفاعلة . في عالم حلت فيه الحركات الاجتماعية محل الطبقات الاجتماعية . هنا بالضبط تكمن دلالة الحداثة  لدى سوسيوجينا ، بل إن سوسيولوجياه  تقع في هذا التحديد : « تندرج السوسيولوجيا التي أنتجها ضمن فكر الحداثة . ويبدو لي اليوم مستحيلا التّخلي عن هذا التصور للمجتمع باعتباره منتوجا باستثماراته الثقافية أو الاقتصادية ، بقدر ما هو مستحيل التخلي عن فكرة الذات الفاعلة » [4]. ألا يجعل ذلك من سوسيولوجيا آلان توران سوسيولوجيا الحداثة ؟

من هنا يتبين أن صاحب ” نقد الحداثة ” لا يتكلم من خارج الحداثة ، أو يقع في ما بعدياتها أو نهاياتها ، تماما ، كما أنه لا يقع داخلها . وإن كان قد أدرج سوسيولوجياه في فكر الحداثة ، فإنه يقيم على هامش هذا الفكر، كما يقيم على هامش انتقاداته. إنه يقع في البين بين ، تلك هي استراتيجية النقد لديه : استراتيجية بينية . لعل هذه الاستراتيجية تلفي بنا إلى مفهوم مغاير للنقد . لا يحيل النقد هنا إلى مواجهة إيديولوجيا بأخرى ، أو حقيقة بأخرى ، وإنما يحيل إلى نقد بيني ، لا ينفي الحداثة  إثباتا لما بعدها بقدر ما يقوض بعدياتها ويخلخل موضوع تجاوزها (الحداثة ذاتها ) . لذلك ، فإن انتقاده للحداثة ليس ضدا فيها بل دفاعا عنها ومن أجلها . من أجل أي حداثة ؟ ذلك هو السؤال الذي يقذف بنا مباشرة في صلب الموضوع ؛ انتقاد الحداثة : كانتصار للعقل .

طالما ارتبطت الحداثة كتجربة تاريخية ، ارتباطا وثيقا بالعقلانية التي تقوم على التعقل وقوانينه ، تفكيرا وممارسة . وذلك أن الحداثة ، في المجتمعات الصناعية الرأسمالية ، جاءت كنتيجة لشروط تاريخية  اقتصادية ومجتمعية وفكرية تلتصق بالمجتمعات الغربية . التي أحلت العلم محل فكرة الله ، أحلت العقل محل الدين . حيث أصبح العلم يوجد في مركز المجتمع .  إن الحداثة تأسست على أنقاض القرون الوسطى ، التي كان فيها الدين أو بالأحرى الله هو الذات الفاعلة : مصير المجتمع كانت تحدده القوى الإلهية ، و يحدده الله في الديانات التوحيدية ، كما هو الحال بالنسبة للمسيحية .

على هذا النحو أعلنتها الحداثة حربا ضد كل أشكال التفكير و الممارسات اللاعقلانية ، الدينية منها  وغير الدينية . بمعنى  أن هذا النمط من المجتمعات صار يعي ذاته كنتاج لفعله هو وليس لقوى إلهية أو علل ميتافيزيقية ، صار يدرك تمام الإدراك أنه نتاج لذاته  ولتاريخه الذي ساهم في إنتاجه وصناعته . إنها إعلان عن نهاية تاريخ قبلي . ذلك التاريخ الذي كان محكوما بغائية روحية-دينية تكون فيها المجتمعات الإنسانية تعبيرا أو بالأحرى تحقيقا للمشروع الإلهي .  فالحداثة بالتالي انفصال عن كل غائية تجعل من البشرية منتوجا لمشروع إلهي . مما جعل منها سيرورة سيكولارية (أو دنيوة) sécularisation  . إنها مشروعا مجتمعيا يقدم نفسه بديلا عن المشروع الإلهي . إذا ما نحن استعرنا عبارة ماكس فيبر ، سنقول : إن الحداثة  نزع السحر عن العالم . إنها تعقيل intellectualisation  ، بل إنها عقلنة .

لعل الفكرة المركزية التي قامت عليها الحداثة هي الانتصار للعقل  وقوانينه ، السبيل إلى إشباع الحاجات أو الوفرة ، السعادة والحرية : ” التقدم ” .على اعتبار أن العقل هو الكفيل بالوفيق بين الإنسان وما ينتجه : ” الإنسان هو فعله ” . التوليف بين الإنسان وما ينتجه ، بين التنظيم الاجتماعي المؤطر قانونيا وبين مصالح الأفراد وإراداتهم للتحرر . إن العقل ، كأداة بالتعريف ، يوفق بين فعل الإنسان ونظام العالم .

هذه السيرورة ، سيرورة الحداثة ، جعلت من العقلانية والعقل كمبدأ تقوم عليه هذه السيرورة ، بما يتطلب ذلك من محاربة وإبادة كل ما من شأنه أن يحول دون تحقق هذا المبدأ في الواقع  وهيمنته ، مجرد تقنية أو أداة ، مما جعل منه عقلا حاسبا لا متأملا بالمعنى الذي ساقه هايدغر ، وبلغة مدرسة فرانكفورت عامة وكل من هوركايمر وأدورنو على وجه خاص ، عقلا أداتيا . هنا بالضبط تقع الأزمة : أزمة الحداثة . إذا كانت الحداثة ارتبطت بالعقلنة كمبدأ عام ووحيد لتنظيم الحياة الفردية والجماعية ، فإنه حري بنا أن نتساءل فيما إذا كانت تقتصر على مبدأ واحد ووحيد فحسب ، ألا تشكل الذات الفاعلة الوجه الآخر( الوجه الثاني ) اللامفكر فيه للحداثة ؟

لماذا ، ما الحداثة ؟ هل لحداثة تأخذ من العقلانية مبدئا لها ؛ مبدأها الوحيد ، أن تعطي أو تقدم تعريفا لذاتها : تعريفا ، تنتظم حوله هويتها ، تعريف يقوم على شيء آخر ، غير ذلك العقل ذاته ، مطابقا للنظام الاجتماعي وللمنظومة ؟

إن مفكر الحداثة عندما يطرح سؤال ” ما الحداثة ؟ ” فإنما يفعل ذلك ، سعيا منه إلى خلخلة وتقويض هذه المنظومة المسماة حداثة . بمعنى آخر : الكشف عن الوجه الآخر ؛ ذلك الوجه الذي طالما عمل التاريخ أو نمط معين منه – التاريخ التاريخاني – على طمسه وحجبه . ألا وهو الذات الفاعلة . التي يشكل الفرد بالنسبة لآلان توران مركزا ومنطلقا لبعث شعلتها . إنه سعي من أجل تعريف الحداثة أو إعادة تعريفها على نحو مغاير  : إن الحداثة هي « علاقة مشحونة بالتوترات ، بين العقل الفاعل والذات الفاعلة ، بين العقلنة والتذويت  بين روح النهضة وروح الإصلاح ، بين العلم والحرية » [5].

هكذا يتبن لنا أن الحداثة عند آلان توران ليست لا قبلية ولا بعدية ، لا عقلنة ولا تذويت ، لامنظومة ولا فاعل ، لا علمنة ولا دنيوة ، وإنما هي : سيرورة غير منقطعة للعلاقة  المتوترة بين الماقبلي والمابعدي ، بين العقلنة والتذويت ، بين المنظومة والفاعلين ، بين العلمنة والدنيوة . إن الحداثة حوار مستأنف ومستمر بين العقلنة والتذويت .

يغدو الحفر في الحداثة وتاريخها أو بالأحرى تاريخانيتها وما نتج عنه من إعادة تعريف لها كتعريف مغاير ، هو ، في نظرنا ، بمثابة الحفر في تاريخ السوسيولوجيا (والعلوم الاجتماعية ) وتارخانيتها وما نتج عنه من إعادة تعريف لها ولموضوعها .أليست السوسيولوجيا بنت الحداثة ؟  فالحفر الثاني هو عبارة عن انعكاس للحفر الأول ، كما أن هذا الأخير لايكون حفرا إلا بتنفسه من الحفر الوسوسيولوجي .  فالقول بالحداثة ، حداثة آلان توران ، كحداثة مغايرة ، يفرض القول بسوسيولوجيا مغايرة : تتخلى عن فكرة المجتمع التي هيمنة على الفكر الاجتماعي والسياسي ، لتحل محلها العلاقات الاجتماعية . تلك السوسيولوجيا التي تجعل من الفاعلين والصراع القائم بينهم منطلقا لها لفهم مقولات الممارسة ؛ الحركات الاجتماعية كمحرك لأنطولوجيا المجتمعات الحديثة /الحداثية وتاريخوياتها .

 ________________________________________

الهوامش

[1] جميع الإحالات في هذا المقال تنسب إلى المرجع الآتي  :

Alain Touraine , Critique de la modernité , France Ed Librairie Arthéme Fayard 1992.

عن الترجمة العربية : آلان توران ، نقد الحداثة ، ترجمة عبد السلام الطويل ، مراجعة محمد سبيلا ، أفريقيا الشرق ، الدار البيضاء ،2010.

[2] نفسه ، ص.365.

[3] نفسه

[4] نفسه

[5] نفسه ، ص.10.

 

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *