شِعريَّةُ الرَّفضِ

خاص-ثقافات

*د. مازن أكثم سليمان

                                             

 

(1)

_لماذا تورِّطُني أيُّها الرَّحيقُ الشِّعريُّ المُهاجِرُ بلا مُستقرٍّ بإطلاقِ بَيانٍ شِعريٍّ..؟!!

لماذا أيُّها الضَّوءُ المُتمرِّسُ في الفَجواتِ الغائِبةِ تقذفُني على تُخومِ هُوَّةٍ جديدةٍ في عالَمِ اللُّغةِ الرَّجراجِ..؟!!

يا آخَرِي المُتمرِّدِ على كُريّاتي الدَّمويّةِ الخانِعَةِ: قُلِّي ماذا رأيْتَ في مِرآةِ العُرْيِ الأزرَقِ كي تُكرِّرَ فيَّ اختلافَكَ الزَّمكانيَّ في مُحاذاةٍ مَسعورةٍ لمَا فوقَ الزَّمنيِّ..؟!!

قُلِّي بماذا تهجسُ، وبماذا تحدسُ كي تضَعَ طُعْماً في صنّارةِ نظَريّة الشِّعرِ، تُطلِقُ عليهِ: (الإعلانَ التَّخارُجيَّ)، فلا تصطادُ غيرَ نأيِكَ الحميدِ/الخبيثِ..؟!!

كيفَ تجرؤُ يا آخَرِي على قذفي في تلافيفِ التَّنظيرِ وحُلْمِ المُغايَرة في وقتٍ كانتِ أُنثى الثَّوراتِ تأخذُني من يدي المَجنونةِ، وتُمزِّقُني عطراً في السّاحاتِ الحُرَّةِ وهُتافاتِ الشَّوارعِ الحمراءِ..؟!!

مَنْ قالَ لكَ إنَّني سأربَحُ معركةَ الشِّعرِ والمُجاوَزةَ المارِقَةَ، والحُروبُ اللَّعينةُ تسكَرُ في كُلِّ ليلةٍ تحتَ جُفونيَ المُقرَّحَةِ بالتَّخارُجِ والرُّؤى والاغتياباتِ الحارَّةِ للتّمرُّدِ..؟!!

(2)

لا تستغربوا ذُهوليَ العارِمِ ها هُنا ذا كخبَرٍ عاجلٍ

_لم أعبُدْ نرجسيتي يوماً، ولم أقعْ بينَ فكّيِّ الحداثةِ وما بعدَها_

لكنَّني؛

ما زلتُ أُفتِّشُ عَنِ الوردةِ

وأنا أمامَ الوردةِ..!!

(3)

يُولَدُ الشِّعْرُ وينمو ويتخلَّقُ على حبْلٍ مُضطَّرِبٍ قلِقٍ، وتُناديهِ الحوافُّ الخطِرةُ: هذا هُوَ فَحوى كُلِّ ثورةٍ…

(4)

خارجَ ثُنائيّةِ (الجَمالُ _ القُبْحُ) يتقلَّبُ البَحثُ الأصيلُ بينَ شِعرِ الثَّورةِ وثورةِ الشِّعرِ، ويُضيفُ المُنظِّرُ الطّائِشُ في أعماقي:

* الشِّعرُ انفتاحٌ دائِمٌ في عُقْرِ دارِ الوجودِ.

* الشِّعرُ مأزومٌ بما هوَ التباسٌ جدَليٌّ.

* الشِّعرُ ثورةٌ بوصفِهِ إرجاءً لكُلِّ يقينٍ.

* الشِّعرُ تنقيحٌ للثَّورةِ التي نقَّحَتْهُ قبلَ أنْ تنتشِرَ كالنّارِ الرّافِعةِ للضَّوءِ بينَ روابي الكلماتِ.

* التَّفجيرُ والتَّجديدُ واكتناهُ المَجهولِ ثورةُ الثَّورةِ ضدَّ الأنماطِ القَبْلِيَّةِ.

* إعادةُ الاعتبارِ للحداثةِ تبدَأُ مِنْ إخصاءِ كُلِّ إيديولوجيا مُعاديةٍ لحُرِّيَّةِ الوجودِ والشِّعرِ بما هوَ عالَمٌ ينطوي على كُلِّ ما يُمكِنُ أنْ ينطوي عليهِ أيُّ عالَمٍ.

* الحداثةُ التَّخارُجيَّةُ النِّسْيَاقيَّةُ الجديدةُ نفْخٌ للحيويّةِ والاختراقِ والمُغايَرَةِ في شرايينِ الحداثةِ انطلاقاً من تحقيبٍ ما بعدَ حداثيٍّ.

(5)

جرى ترميمُ النُّزهةِ بالتَّوقُّعاتِ

الاحتمالاتُ جُزُرٌ مُستحيلَةٌ

والرِّيحُ دلالاتٌ غيرُ مَوثوقةٍ

في هذا الهَيجانِ الزّائِغِ

تثورُ اللُّغةُ وتُؤسِّسُ دولتَها

ثُمَّ يثورُ الشِّعْرُ على اللُّغةِ، فتُنزَعُ عنهُ الجنسيَّةُ

ثُمَّ تثورُ الثَّورةُ على الثَّورةِ

ولا يبقى مِنَ الحقيقةِ سوى إعجازُ الحركةِ.

(6)

كانتِ الحداثةُ الشِّعريَّةُ في مُعظَمِ تجارِبِها تثبيتاً لمركزيَّةِ الذّاتِ السُّلطويَّةِ اليقينيَّةِ بوصفِها ذاتاً تتحكَّمُ مُسَبَّقاً بعوالِمِ القصائِدِ عبْرَ طيِّ وجودِها على تمركُزِها، ومُطابَقةِ هذا التَّمركُزِ معَ الوعيِ القَبْلِيِّ؛ أي إحضارُ هذِهِ القصائِدِ، وإذلالُ أجنحَتِها، بإخضاعِها لسُلطَةِ الذّاتِ الشّاعِرَةِ الوقائِعيَّةِ التي تتحكَّمُ بها، وتقتلُ أيَّةَ إمكانيةٍ لبسْطِ فَجوَةِ انفتاحٍ حُرٍّ أصيلٍ _نحوَ_ المَجهولِ.

(7)

بينَ ثُنائيتيْنِ ميتافيزيقيتيْنِ مُهيمِنتيْنِ تاهَ الشِّعرُ الحديثُ: بينَ وهمِ إحضارِ المَعيشِ ومُطابَقتِهِ في القصيدةِ اليوميَّةِ، ووهمِ إحضارِ الغائِبِ ومُطابقتِهِ في القصيدةِ الرُّؤيويَّةِ.

في أكثرِ التَّجارِبِ _وليسَ في جميعِها_ تمَّ إلحاقُ جُموحِ الذّاتِ الشِّعريَّةِ الافتراضيَّةِ بسُلطةِ الذّاتِ الشّاعِرَةِ الوقائِعيَّةِ، فماتَتْ أيَّةُ ثورةٍ كانَ يُعوَّلُ عليها.

(8)

_عرِّفِ القصيدةَ يا صديقي؟

_أنامُ، وتغفو قربيَ غابةٌ بكامِلِ أشجارِها..

…أستيقِظُ، وفي كُلِّ يومٍ تنقصُ الغابةُ شجرةً، لكنَّها تزدادُ اتِّساعاً…

(9)

الثَّورةُ خلخلَةٌ لوَحدَةِ الذّاتِ اليقينيَّةِ المُغلَقَةِ على جوهرانيَّةٍ طارِدةٍ لخَفْقِ الأجنحةِ، والتحاقٌ أعمَى بكُلِّ جسَدٍ أو امتلاءٍ أو كينونةٍ في مَرمَى وجودٍ لم يُسجَّلْ هدَفُ ماهيَّتِهِ بعدُ، وقد لا يُسجَّلُ أبَداً!!

(10)

السُّؤالُ (الثَّوريُّ _ الحربيُّ) المُلِحُّ كثيراً: كيفَ نتركُ مَسافةً زمنيَّةً معَ الأحداثِ، ونحنُ في أتونِها؟

كيفَ نتمكّنُ من فَتْحِ فَجْوَةِ وجودٍ مُغايِرٍ، أو كيفَ نُنْتِشُ بُرْعُمَ ولادةٍ وجوديّةٍ فنِّيَّةٍ عنيدةٍ في عُمْقِ ذرّاتِ أوكسجينِ الثَّورةِ؟

(11)

يقولُ الدَّازِنُ النِّسْيَاقيُّ: تخارَجوا تخارَجوا؛ فهذا زمنُ بعثرَةِ وَحدَةِ (الذّاتِ _ اللُّغَةِ _ الوجودِ) بفَصْمِ كُلِّ (ذاتٍ _ دازِنٍ)، للفوزِ بخُلاصَةِ التَّمرُّدِ الأعلى جَميلاً كأنَّهُ نَهداكِ…

(12)

فَصْمُ الذّاتِ بوصفِها دازِناً (موجوداً بشريّاً في العالَم) هوَ إعمالُ جدَلٍ غير مَحدودٍ في فَجْوَةِ الانبثاقِ الشِّعريِّ المُتراكِبةِ بينَ الذّاتِ الشّاعِرَةِ المَوجودَةِ _في_ العالَمِ الوقائعِيِّ، والذّاتِ الشِّعريَّةِ المَوجودَةِ _في_ العالَمِ الافتراضيِّ، لفَتْحِ عالَمِ (الدّازِنِ الشِّعريِّ النِّسْيَاقيِّ) خارِجَ ثُنائيَّةِ (مركزيَّةُ المُؤلِّفِ: السُّلطةُ الشُّموليَّةُ للذّاتِ) و(موتُ المُؤلِّفِ: المحْوُ الشُّموليُّ للذّاتِ)؛ أي خارِجَ ثنائيَّةِ (السِّياقُ _ النَّسَقُ).

(13)

ها أنا ذا..

بعدَ كُلِّ ما سبَقَ ممّا تورَّطْتُ باختراقِ نَوَيّاتِهِ الخطِرَةِ، جاهِزٌ للاعترافِ، لكنْ لي شَرْطِيَ: أنْ يكونَ البحرُ من ورائيَ، والحريقُ الجليلُ من أماميَ.

وحدهُ المَجهولُ سيبقى صديقيَ الوفيُّ في أيّامِ الثَّورةِ وشُذوذِ عوالِمِ اللُّغةِ الشَّريدَةِ كمُهرَةٍ مَجنونةٍ…

(14)

حمايةُ القصيدةِ مِنَ الإفقارِ الوجوديِّ (ثقافيّاً وجَماليّاً) يكونُ عبْرَ مُحايَثَةٍ جدَليَّةٍ تخارُجيَّةٍ لا تعرِفُ الاستقرارَ؛ ما دامَتْ هيَ نفسها حاميةَ الوجودِ مِنَ الإفقارِ أيضاً: لا شيءَ يمنَحُ الوجودَ فائِضَهُ الحيَّ وأشياءَهُ غيرِ المَحدودةِ كالثَّورةِ، فكُلُّ وجودٍ بلا ثورةٍ هوَ سبْيٌ لمِحْنَةِ الأسئلَةِ المُتشظِّيةِ بلا قُيودٍ.

(15)

أنْ نكتسِبَ خبرةً وجوديَّةً (ثقافيَّةً _ جَماليَّةً) جديدةً يعني أنْ نثورَ في كُلِّ مرَّةٍ تنفتِحُ فيها حركيَتُنا الشِّعريَّةُ على مَصائِرَ جديدةٍ: تحريكُ الماهيَّةِ عبْرَ انبساطِها _في_ (الشَّكلِ/طريقةِ التَّشكُّلِ) يعني انفتاحُ عالَمِ القصيدةِ باستمرارٍ _نحوَ_ المَجهولِ؛ و(نحوَ) هيَ مُجاوَزةٌ دائِمَةٌ لكُلِّ ثَباتٍ أو انغلاقٍ أو جوهرانيَّةٍ: أليسَتْ هذِهِ ثورةٌ كذلكَ..؟!!.

(16)

كي تُحدِّقَ في عُيونِ الغامضِ المُوارِبِ

مُتأرجحَةً جُفونُها كأوشحةٍ على جِيدِ الغُيومِ

التحِقْ بالخَلخلةِ إنِ انخفضَتْ انشقاقاتُها أو ارتفعَتْ

/إمّا تحطيمُ النَّوافذِ والأبوابِ

أو تحطيمُ فكرةِ الحواجِزِ نفسِها/

وربَّما بشفافيَّةِ شبَحِ التَّغييرِ

تحفيزُ الانسلالِ مِنْ باطِنِ تُربَةِ الوعيِ

لكشفِ خلايا الوجودِ النَّيءِ المُغايِرِ.

(17)

لا تُذمِّلوني أبداً

أنا أنزاحُ وأتشظَّى وأتلاشى

بقُوَّةِ العُصارَةِ اللُّغويّة للخُطى والقفزاتِ

هذِهِ ثورتي خارِجَ حدَّيِّ (النَّجاحُ _ الإخفاقُ)

_عالَمٌ لُغويٌّ بينَ عالَميْنِ_

ثيمَةُ النَّشوةِ الطّازجةِ للقصائِدِ

بأنْ يحدُثَ أمْرٌ مُباغِتٌ في كُلِّ لحظَةٍ

وأنْ لا تتَّصِلَ هواجسُكَ بالطَّوارِئِ

إنَّما فقط أنْ ترقُصَ وتتباعَدَ

في تعويذةِ تحطيمِ الحُدودِ الوَهميّةِ بينَ الحقيقةِ والمَجازِ…

(18)

القصديَّةُ التَّخارُجيَّةُ النِّسْيَاقيَّةُ تعني أنْ تكونَ الماهيَّةُ هيَ نفسُها: (الحركيَّةُ _نحوَ_)؛ أي هيَ نفسُها انفتاحُ أساليبِ الوجودِ الشِّعريِّ النِّسْيَاقيِّ المُتسارِعَةِ بلا هوادةٍ _نحوَ_ المَجهولِ. أمّا الأعراضُ فهيَ تعدُّدٌ لا نهائيٌّ لأشكالِ الحركيّاتِ المُنبسِطةِ بما هيَ اختلافُ أساليبِ الوجودِ الحركيّةِ _نحوَ_ المَجهولِ…

(19)

القصديَّةُ النِّسْيَاقيَّةُ دِربَةٌ على الفَصْمِ لحِيازةِ خِبْرةِ الوجودِ المُفارِقِ: تخليقُ الفَرْقِ ترويضٌ للذّاتِ المركزيَّةِ الواعية، وانضواءٌ جدَليٌّ تراكُبيٌّ في عالَم التَّعدُّدِ اللُّغويِّ بوصفِهِ عالَمَ الثورةِ المُتوالِدَةِ من رحِمِ كُلِّ ثورةٍ حتّى لو أجهَضَتْ مرَّةً  ومرَّتينِ وعشرَ مرّاتٍ.

(20)

شعريَّةُ الوجودِ الثَّوريِّ هيَ شِعريَّةُ الرَّفض.

(21)

مَمنوعةٌ أيَّتُها الابتساماتُ مِنَ الارتسامِ على شفتَيَّ إنْ لم تكُنْ جذورُكِ أعاصيرُ تشويشٍ ماتِعٍ في القلبِ…

(22)

الشَّاعرُ الثَّوريُّ الجديدُ هوَ مُحرِّرُ نفسِهِ مِنْ أوهامِ المُطابَقاتِ المُسَبَّقةِ، وحامِيُ حِمَى المُباعَداتِ والمُجاوَزاتِ، وحارسٌ أبَديٌّ لحكمةِ التَّخارُجِ، ومُحارِبٌ جَسورٌ لذاتِهِ المُتسلِّطةِ على فِعْلِ الخَلْقِ الإبداعيِّ، ومُنقِذٌ مُتواضِعٌ لكُلِّ جَماليٍّ مَغدورٍ مهما بدا (الجليلُ) قاسياً، ومهما تسرَّبَتِ الثَّورةُ يوميّأً مِنْ بينِ أصابِعِ الحُروفِ باتِّجاهِ أُفُقٍ مَجهولٍ: الهرولةُ خلفَ الثَّوراتِ ثوراتٌ أيضاً، واللُّهاثُ الحادُّ كشَفرةٍ يمشي عليها الشِّعْرُ مَخاضُ الاستعارةِ وهيَ تنفضُ المُهترئَ عن جسَدِ الوجودِ أُفُقَ انبساطٍ مِنْ أقصَى البِدَعِ إلى أقصَى الغراباتِ…

(23)

مِنَ حركيَّةِ الشِّعرِ ينبُعُ كُلُّ تنظيرٍ عَنِ الشِّعرِ، ومِنْ كُلِّ تنظيرٍ ينبُعُ كُلُّ مَنْهَجٍ نقديٍّ، ومِنْ كًلِّ منهَجٍ نقديٍّ تعودُ الثَّورةُ كي تزأرَ: لا أُريدُ أنْ أُسْجَنَ في آليّاتٍ مُسَبَّقةٍ، فهاتوا لي وسادةً مِنْ ريشِ القصائِدِ الفالتةِ مِنْ كُلِّ ارتباطٍ كي أنامَ بعُمْقٍ عليها.

وفي هذِهِ الدُّوَّامَةِ الجَماليّةِ السّاحِرَةِ يتحرَّرُ الشِّعرُ والتَّنظيرُ والنَّقدُ باستمرارٍ في مَرايا المَناماتِ الثَّوريّةِ…

(24)

الآنَ تماماً، الآنَ،

كما البارحةُ، وكما غداً؛

لنْ أضَعَ نقطةً في نهايةِ هذِهِ الفَجوةِ النِّسْيَاقيَّةِ التي تخونُني علَناً
__________
* شاعر وناقد سوريّ

 

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *