ثلاث حكايات عن الشعر.. هل هناك أكثر من موت؟(2)

*إبراهيم نصر الله

الحكاية الثانية

بعد عشر سنوات، تقريبًا، من كتابة قصيدة “راية القلب- ضد الموت”، وفي عام 1996 وجدت نفسي وجها لوجه مع سؤال الموت مرّة أخرى، في ديوان كامل هو: “كتاب الموت والموتى”. ولم يكن ذلك مستغربًا بالنسبة إليّ، فسؤال الموت لا يمكن أن تقول إنك أجبتَ عليه في مرحلة ما، وانتهيتَ منه، سؤال الموت دائما أمامك؟ وكان أمامي، في فترة من أقسى فترات حياتي على الإطلاق، حيث الخذلان العام مُطلق، والخذلان الخاص مُطلق أيضًا، والشاعر مجرد فرد وحيد في عراء لا يرحم.

في تلك الفترة بدا الموت قريبا إلى ذلك الحدّ الذي يفرض عليّ أن أتعامل معه، بل وأن أُعدّ النفس له، وما دام حتميًّا إلى هذا الحدّ فيجب أن أعتاد عليه، حتى لا يكون غريبا تمامًا حين يأتي!

بدأت بتلمّس الحالة كلحظة مُكاشفة لا بدّ منها، ومعايشته، ومحاولة لخلق ألفة، ما، تتوافق مع شروط الحياة التي لا بدّ من توافرها لكي يتحدّث كائنان ويضعا رأسيهما على مخدة واحدة!

لكن الأمر لم يكن فيه ما كان في القصيدة الأولى. كانت حالة (الموات) المعاشة في تلك الفترة، تستدعي نفيها حتى لو أدى الأمر للقيام بأنسنة الموت نفسه.

على صهوة الريح تُلقي المدى/ وتُغِـيْرُ .. تجرِّدني من سؤالي/ وحين يعمّ رحيلي فأغفو/ تجيء تعرّفني بظلالي!

في تجربة (كتاب الموت والموتى) اهتديتُ إلى أسئلة أخرى، كنت أظن أنني طرحتها، أو أن ما طرح سابقًا كان كافيا لعدم ظهورها لديّ. ربما أصبحتُ الآن أكثر تواضعا أمام الموت بأسئلتي، مما كنت في “راية القلب”..، لكن “كتاب الموت والموتى”، معنيّ بذلك البعد الإنساني الكّليّ لقضية الموت؛ ولذا أبدو في هذه القصائد الجديدة أكثر تواضعا، فلا أعامله بالخشونة ذاتها التي عاملته بها في (راية القلب)؛ ربما لأنني كنتُ أبحث هناك وأحاول أن أحمي روح الجماعة من الموت بأشكاله المتعددة! أما في القصائد الجديدة، فالأمر مختلف: أعامله برقّة وبألفة ولكن بلا استسلام، الآن أخشى حالة الموات أكثر مما أخشى الموت نفسه كمصير إنساني فرديّ.

بعد ذلك بقليل كنت في زيارة للبحرين، ودار حوار في سهرة جمعتني ببعض الأصدقاء من الكتاب حول هذا الديوان، وكان ثمة سؤالان يُطرحان عليّ، الأول: لماذا الحديث عن الموت الآن، ولم تزل بعد في الثالثة والأربعين؟!

وكان الجواب: لقد طُرح عليّ السؤال نفسه قبل عشر سنوات حين كتبت (راية القلب)، لكني سأجيب بسؤال على السؤال: متى يجوز لنا أن نكتب عن الموت دون أن يُطرح علينا هذا السؤال؟

أما السؤال الثاني، فكان: ما هي أهمية هذا الديوان بالنسبة إليك، لا على المستوى الشعري، بل على المستوى الإنساني؟

لم تكن الإجابة صعبة أيضًا، لأنني سبق وأن بحتُ بها لأصدقاء مقربين، رأوا في الديوان، والحالة التي يُعبّر عنها، عنوانَ مرحلة تجيز لهم أن يقلقوا على صديقهم!

كان الديوان صعبا عليّ (كُـتِبَ في صيف 1996). ولفترة طويلة، كنت لا أجرؤ على قراءته أو العودة إليه، بل كان مجرد الاقتراب منه كافيا لإعادتي لأجوائه بقوّة. ولكي أتحرّر منه قمتُ بنشره في خمس حلقات في جريدة (الرأي)، بعد أربعة أشهر من كتابته. لكن أهم ما حدث بعد ذلك، أنني تعاملت معه كشخص يعيش معي، أراقبه مثلما يراقبني، وأنظر إليه بطيبة، وسط انهماكه، بل إنني طالبت بأن نبدي بعضَ التفهّم لحالته:

ولنا عاداتنا الغريبة أيضًا:

مشاهدة التلفاز

إنجاب الأولاد

اجترار الموعد الأول مئات المرات

تربية الدواجن والكلاب

ولا يعنيه ذلك

فلماذا نضيق بعادته الوحيدة تلك: جَـمْع الأرواح؟!

وفي قصيدة أخرى يتحدّث الميتون في قبورهم:

– إنه معتم قليلا.. لكنه طريّ

– إنه أرقّ كائن عرفناه

– إنه طيب ربما.

– كان عمري عشر سنوات

– كان عمري عشرين

– كان عمري مائة!

فقط لو كان أكثر عدْلًا!

 

لعلي أستطيع القول، بأني والموت، في مائة قصيدة وقصيدة، أتيح لنا أن يفهم الواحد منا الآخر بعيدا عن المواقف المُسبقة؛ بحيث بُحتُ لأصدقائي: أنني غدوت شخصا آخر بعد كتابة هذا الديوان، شخصا لا يمتُّ بصِلة لذلك الشخص الذي يقف خائفا من سطوة الغامض المتقدّم.

لقد تحررتُ بنار تجربة الكتابة فعلا، بحيث كان بإمكاني أن أبتسم فيما بعد حين أقرأ القصائد نفسها التي كنتُ أخشى العودة إليها، حين أسمعه يقول لي:

الحروب مواسم طيبة للعمل

أرواحٌ بالجملة

وثمة أغبياء، دائما، يُتقنون المساعدة‍‍!

وتحول الموت في النهاية إلى شخص فريد:

رغم كلّ مساوئه

مساوئه التي لا تُذْكَر

في النهاية

وحده الذي يلقاني بوجهٍ واحد!

لكن ذلك لا يدوم طويلا، أعني التّعامل معه بهذه الألفة، وهذه الرِّقة، لأنه لا يلبث أن يُدخلك اختباراته، وهذا ما كان، فبعد نشر الجزء الأول والجزء الثاني من قصائد الديوان، وقبل نشر الجزء الثالث، قام بزيارة خاطفة لواحد من أقرب الناس إلي: أبي، واختطفه في كانون الأول من ذلك العام؛ وللحظة أحسستُ أنه يأخذ بثأره الخاص مني بعد أن تطاولتُ عليه إلى حدّ الكتابة عنه في الصّحف! ولذا لم أملك جرأة نشر الأجزاء الثلاثة الباقية إلا بعد هدنة بيننا تأكدتُ خلالها أنه لم يثأر مرّة أخرى!
_________
*مدونات الجزيرة

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *