ابتسم الحظّ، فجأة، للكاتب المغمور (هو يعتقد أن ثمة مؤامرة خسيسة تستهدفه، فتجعل حظوظه في الشهرة ليست على النحو المطلوب). قال لنفسه وهو معجب بها، لكثرة ما يحفظ من مأثورات وأمثال، ظلت عالقة بذهنه منذ سنوات الدراسة في المدرسة: إذا هبّت رياحك فاغتنمها.
حدث الأمر صدفة (وكلّ صدفة أحسن من ميعاد كما يقال) حينما دخل المكتبة الوحيدة في المدينة ليرى إن كان ثمة جديد في المكتبة. هو لا يشتري الكتب دائماً، لأن راتبه الضئيل لا يسمح له بمثل هذا الترف، لكن التردد على المكتبة أصبح عادة من عاداته التي لا يستطيع مقاومتها، وحينما يقوم بالحديث عن رسوخ هذه العادة لديه وتمكّنها منه، فلا يطيب له إلا تشبيهها بالداء العضال الذي لا فكاك منه، وهو في العادة لا يدخل المكتبة صفر اليدين، إذ يحرص دائماً على أن يصطحب معه كتاباً، يحضره معه من مكتبته الخاصة، ويقرأ فيه كلما وجد فرصة سانحة، أو كلما وجد ظرفاً ملائماً لتأكيد صفة كونه مثقفاً لا ينقطع عن القراءة أبداً. ومع ذلك، فإذا وقعت عيناه على كتاب يستحقّ أن يقتنيه، فإنه يستجمع أطراف شجاعته (هكذا يقول لزملائه الموظفين في اليوم التالي) ويغامر بما لديه من مال زهيد، يشتري الكتاب، يقرأ فيه عشر صفحات أو أقل قليلاً، ثم لا يلبث أن يصيبه الملل، يطوي الكتاب إلى وقت آخر قد يقصر أو يطول بحسب المزاج والأحوال.
غير أن الحظّ ابتسم له في تلك المكتبة بالذات، وهو يعي تماماً، أن تردّده على المكتبة لم يكن سببه الوحيد متابعة ما هو جديد في عالم الثقافة والأدب، فقد أسرّ إليه بعض أصدقائه الخُلَّص، من المعنيين مثله بالأدب، أن ثمة عاشقات للأدب وللأدباء يتردّدن دون تردّد على المكتبات، لعلهن يحظين بالتعرّف على واحد من هؤلاء الذين حباهم الله بموهبة الكتابة. يبرم شاربيه الأشيبين أثناء استماعه إلى مثل هذه الأقوال، يوقن في قرارة نفسه أنه هو المقصود بها قبل غيره من الكتاب. يستطرد أصدقاؤه في الحديث عن مفاتن هؤلاء النسوة، عن حسن شمائلهن، وعن مقدار ما لديهن من فنون العشق والغرام. عند هذا الحد، يتذكّر أمّ البنين، التي كفّت عن التجاوب مع رغباته بعد وليدها السابع. أصبحت تقوم بواجبها الزوجي تجاهه على فترات متباعدة، ومن دون رغبة فعلية، ترفع ثوبها إلى ما فوق سرّتها، كلما مكّنته من جسدها، يركبها النعاس، وهو في ذروة التحامه بها. حاول مراراً أن يخرجها من هذا الموات المبكر، ولكن، كناطح صخرة يوماً ليوهنها، مع الأسف الشديد!
هل يعتبر إخفاقه مع زوجته دليلاً على نقص موهبته؟ قطعاً لا، فكل الدلائل تشير إلى عكس ذلك، فهو، وبشهادة زملائه من المعنيين مثله بالأدب، ذرب اللسان، متمكّن من ناصية اللغة، حكيم في جلّ تصرفاته، حتى إنه لم يترك لأية حكومة سبباً لاضطهاده، (يعتبر ذلك منتهى الحكمة) ولم يترك لأي حزب سياسي فرصة لاصطياده وضمّه إلى صفوفه. (يعتبر ذلك منتهى النباهة) وهو يشير دوماً إلى رأسه مفاخراً: هذا راس مش بطيخة، وبعد ذلك بلحظات، يتأكّله الخزي لهذا التعبير الركيك، فيبادر إلى تدبيج مقالة عرمرميّة حول الكلمات السوقية المبتذلة وخطر استخدامها على لغة الضاد، يرسلها إلى الصحيفة اليومية لعلها تنشرها في صفحتها الثقافية. ينتظر عدة أشهر، ثم يسقط في بئر اليأس، ولا ينتشله منها سوى قناعته بأن ثمة مؤامرة تستهدفه.
هل قلنا إن الحظّ ابتسم له فيما كان يجوس أرجاء المكتبة؟ بلى، كانت المكتبة تغصّ ذلك النهار بعدد غير قليل من النسوة الجميلات. كن كما لو أنهن قادمات من فردوس غامض مسحور، أو هكذا خُيّل إليه وهو يمعن النظر في سيقانهن المصقولة مثل البلور، وفي نهودهن المشرئبة من تحت بلوزات الحرير. قال لنفسه: هذا أوان الشدّ فاشتدي زيم، ثم تذكّر أنه يحفظ عدداً غير قليل من أبيات الشعر، بالرغم من أنه لا يجيد تأليف بيت واحد من الشعر. ولم يفته مثل هذا الأمر، حاول كتابة الشعر مراراً، فلم يحقق أي نجاح يذكر، ما جعله في بعض الأحيان يتشكك في مستوى موهبته.
من بين هؤلاء النسوة، برزت له امرأتان. يا إلهي! امرأتان في اللحظة نفسها! يكفيه لو أن امرأة واحدة فعلت ذلك، ومع ذلك فالحظ لا يعرف حدوداً ولا معايير حينما يبتسم، اقتربتا منه وهما تبتسمان، وتكشفان عن أسنان منضّدة، ما ذكَّره على الفور ببيت الشعر الذي طالما أعجب به:
فأمطرت لؤلؤاً من نرجس وسقت
ورداً وعضّت على العنّاب بالبرد
هل يجازف ويقول: فأمطرتا لؤلؤاً! لا، لا، من غير المعقول أن يعبث بالشعر مثل هذا العبث.
سألتاه في وقت واحد تقريباً: هل أنت شاعر؟
شعر كأن خنجراً غاص في صدره. تماسك أمام الطعنة النجلاء، وقال: بل أنا ناثر وأيّ ناثر. ثم فكر أن يدخل معهما في حوار شائق حول جملة “أكلت السمكة حتى رأسها”، لكنّ المرأتين الجميلتين أعرضتا عنه في الحال، فاتخذ قراراً فورياً بقرض الشعر حتى لو كلّفه ذلك حياته.
وعلى رغم ذلك، فقد ظلّ يحدّث أصدقاءه المعنيين مثله بالأدب، عن تلكما الابتسامتين الرائعتين، حتى إن أحدهم قرّر أن يكتب مسلسلاً في ثلاث عشرة حلقة، للتلفاز، مستوحى من تلكما الابتسامتين.
__________
*روائي وقاص فلسطيني / من مجموعة “صورة شاكيرا” (2003).