لا تتوقف عن إضحاك حبيبتك

خاص-ثقافات

*محمد الفخراني

مقطع من رواية بعنوان “مزاج حُرّ”، صدرت مؤخرًا عن الدار المصرية اللبنانية- بالقاهرة للروائي المصري محمد الفخراني

سألنى المُهرِّج: “هل تعرف لماذا خُلِقنا بوجه واحد لا يمكننا تبديله مثلما نبدِّل ملابسنا؟”، انتظرْتُ أن يُكمل، قال: “حتى يحمل وجهنا الواحد تاريخنا كله، ويعرفنا الآخرون عندما نفعل الأشياء، لو كان بإمكاننا تبديل وجوهنا أو إخفاءها لملأنا العالم جنونًا”.

 قلت: “وأنت تمارس جنونك خلف هذا القناع؟”.

“أكثر من ذلك، سَخرْتُ خلف قناعى من أشياء ضخمة، وأشخاصٍ مرعبين، سَخرْتُ من كل شىء وكل واحد أردتُ السخرية منه، نكَّلْت بهم، وكانوا يضحكون”.

“بالضبط، كانوا يضحكون”.

 “تقصد لأنى مُجرَّد مهرِّج”، أمسَكَ بكتفىَّ ونظر فى عينىّ: “لكنى كنت أنظر فى عيونهم مباشرة عن قُرْب، كانوا يرون نظرتى، تأكَّدْتُ أنَّ كل واحدٍ منهم رآها بوضوح، وعرف أنى أعنى ما أقوله وأفعله، فتتلاشى ضحكته المصطنعة”، صمَتَ لحظة، وقال: “صَدِّق أنى أرعبتهم، وبالطبع لم يكن أيًا منهم ليؤذى المُهرِّج”.

 صدَّقْتُ نبرة صوته وتخيَّلْتُه وهو يُنَكِّل بهم، هزَزْتُ رأسى موافقًا، لم يتركنى حتى تأكَّد أنى صدَّقْتُه، ابتسمَ ومشينا.

 قلت: “أتساءل كيف يكون القناع حزينًا، ويضحك منك الناس”.

“إسألهم”، ضحكَ، مشى بظهره وهو ينظر إلىَّ: “هل تُصدِّق أنى، المُهَرِّج، أَهَمُّ فقرة فى السيرك؟”.

“ربما”.

 “هذا أكيد، لو فشلْتُ أنا يفشل العرض كله، كما أنى أُعاقَب على الفور من الجمهور، يقذفونى بالفاكهة، بقايا الطعام، أىّ شىء، لا يتعاطف معى أحد، لكنهم يتعاطفون مع مُروِّض الأُسُود لو هاجمه أسد، ولاعب الأكروبات لو سَقَط، صحيح؟”.

 هزَزْتُ رأسى.

 قال: “رغم أن عملهم سهل، يمكنك بسهولة أن تروِّض الأسد، أو النمر ما دُمْتَ تملك تجويعه وإطعامه، يمكنك بالتدريب أن تمشى فوق الحبل، حتى أن تطير فى الهواء، لكن أن تُضحِكَ الناس؟ وتفعل هذا كل يوم؟ هذا هو التحدِّى”.

 “هل حدث ولم تُضحكهم يومًا؟”.

 توقف عن المشى بظهره ومشى إلى جوارى.

 قال: “لا، ولكنى انسحبْتُ مرتين من العرض، حدث وقتها أنْ خرجْتُ إلى المسرح وتجمَّدتُ بمكانى، لم أعرف لماذا، فقط عرفْتُ أنى لن أُضحِكَ أحدًا”.

 “بلا سبب؟”.

 “نعم، بلا سبب”، ضحك ضحكة قصيرة، قال: “وعندما كانت هناك أسباب تمنعنى من إضحاكهم، خرجْتُ إليهم وأضحكتهم كثيرًا”.

 قلت: “أعرف أنَّ المُهرِّجين يُضحِكون الناس رغم ألمهم الشخصى”.

 “هذا حقيقى”، قفزَ عدَّة خطوات إلى الأمام: “الضحك، تخيَّل العالم بلا ضحك، تخيَّل أن الإنسان لا يضحك أبدًا”، قفز إلىَّ، وضعَ إحدى يديه فوق رأسى والأخرى على فمى: “لا، أرجوك لا تتخيَّل هذا، ولا تَقُلْ عنه شيئًا”، رأيت فى عينيه رعب، أومأت، نظرَ فى عينىَّ ليتأكَّد أنى لن أتخيَّل العالم بلا ضحك.

 “لا تفعل”، قالها ورفَعَ يديه عنى، ابتسمَ، فتحَ ذراعيه، دارَ حول نفسه مرتين وهو يقول:

 “تعرف؟ فُزْتُ بنساء كثيرات، فقط لأنى أضحكتهن”، توقف بمنتصف الشارع.

 قال: “هل تعرف من هو أغبى رجل فى العالم؟”.

 “هناك احتمالات كثيرة”.

 تلفَّتَ حوله إلى البيوت، وقال بصوت مرتفع كأنما يريد أن يُسمِعَ الجميع:

 “أغبى رجل فى العالم هو مَنْ لا يستطيع إضحاك حبيبته”، مرَرْتُ إلى جواره وأنا أبتسم، سمِعْتُه يُكررها.

 “أقولها لكم، أغبى رجل هو مَنْ لا يستطيع إضحاك حبيبته”.

 قلت: “نعم، أوافقك”.

 انتبَهْتُ بعد عدَّة خطوات أنه ليس بجوارى، نظرتُ خلفى، رأيته واقفًا هناك، سألتُه:

 “لماذا توقفْت؟”.

 هَزَّ كتفيه، ولَمَع قناعه الحزين فى نور القمر، صَمْتُّ لحظات.

قلت: “حسنًا، ترغب فى العودة”، لم يَرُدّ، ابتسمْتُ.

لوَّحَ لى، وقال: “أتمنَّى لك رحلة مُدْهِشة”.

قلت: “أتمنَّى لك ألا تتوقف عن إضحاك حبيبتك”.

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *