بحسب الدكتور ستيفان كلاين في كتابه “علم السعادة”، أوضح أن “السعادة مهارة يمكن تعلّمها مثل اللغة الأجنبية، وهي طريقة لتدريب أنفسنا كي نكون سعداء، وذلك عبر كتابة الأشياء الصغيرة التي تجعلنا فرحين كل يوم”. فهل يمكننا تشبيه طقس الكتابة اليومي ومسوّدات الكتابة باليوميات؟ يقول إرنست همنغواي عن الكتابة “أحب أن أعمل العديد من الأشياء التي أتقنها أكثر من الكتابة، ولكن عندما لا أكتب فإنني أشعر بالضجر؛ فأنا لديّ الموهبة ولكنّي أهملها”. “العرب” طرحت سؤالها على عدد من الكتّاب؛ هل يمكن للكتابة أن تجعلنا سعداء؟
نشوة الولادة
تقول الشاعرة الليبية عزة رجب “الكتابة متنفس الشاعر والقاص والروائي، هي لا تجعلنا سعداء، لأنها وحدها السعادة التي تسعدنا في حياتنا، بالنسبة إليّ أتنفس شعرا، وحين أبتعد عن كتابة الشعر فأنا كائن ضائع، ومخلوق مهما عاش مواقف سعيدة يظل حنينه لسعادته الأبدية ماثلا في كيانه، تلك السعادة التي يجد فيها نفسه، وتسكن فيها روحه، وتهدأ إليها خواطره، فهي ليست مرحلة، وليست موقفا، وليست أشخاصا، السعادة بالنسبة إلى الكاتب هي المعبر نحو الذات للمزيد من الاكتشاف لعوالم الدهشة داخله. فكلما اكتشفت شيئا جديدا، كنت أبتسم لجدارة الاستحقاق عن سعادتي بموهبة الكتابة”.
يشير الروائي الأردني صبحي فحماوي إلى أنه قبل الكتابة، لا بد من القراءة الحثيثة، حتى نشحن البطارية التي هي دماغنا. بالقراءة تتفتح قنوات الاستيعاب والتفكير، وتتمازج بتجارب الإنسان ومشاعره، فتتشكل الثقافة.
يضيف “وحتى نشعر بهذه الثقافة، لا بد من التعبير عن ذلك، بهدف توصيل المعرفة، والتوجيه المعنوي، والإدارة. وهذا يتم بطرق عِدّة، منها؛ الكلام أولا، حيث أن المسيح قال ‘في البدء كانت الكلمة ‘. فالكلمة الصادرة عمّا سبق من تحضير وشحن، تسعد صاحبها أولا، لأنه استطاع التعبير عن نفسه، وتفريغ شحناته التي يعتقد أنها ذات مغزى، وذلك بتوصيلها إلى الهدف المنشود، تماما كما يوصل اللاعب المحترف كُرَته إلى الهدف، فيشعر بالسعادة. والطريقة الثانية هي الكتابة والتي هي جهد كبير منسق، ناتج عن تفكير عميق، وتحليل للأمور، وتوظيف عصير الكتب، والاستفادة من معطيات وسائل الاتصال المختلفة، مع معرفة الواقع، والبناء عليه”.
يتابع فحماوي “عندما نكتب فنحن نسعد بالتعبير عمّا في عقولنا من أفكار. ولهذا تجد أن بعض الكتّاب يشعرون بسعادة نشر كتاباتهم، حتى لو كان النشر دون أجر. فقد تكون سعادتهم بالنشر هي الأجر. الكتابة تجعلك تنقل منتجات عقلك من داخل ذاتك إلى العالم، أو حتى إلى المجرات السماوية. وبالكتابة والنشر، تتخلص من حمولات عقلك، التي ثقلت موازينها، فأصبحتَ تنوء بها. تنثرها إلى الآخرين، الذين صاروا يقاسمونك هذا الحمل العظيم، فتشعر بالسعادة، وهم يشاطرونك مشاعرك التي تريد الإفصاح عنها”.
ويرى فحماوي أن الكتابة تجعلك تسعد وأنت تنقل شخصيتك إلى الآخرين، وتحاول أن تكون مؤثرا فيهم. تحاول أن تنقل ما يعتمل في نفسك، لتُسكن أفكارك في عقولهم. مثلما يسكن حيوان منوي غازٍ في بويضة الأنثى داخل رحمها. الكتابة تشعرك أنك تحتل جزءا من ذوات الآخرين. نعم.. “تحتل”.
يقول “السعادة بالكتابة، هي نوع من الاحتلال الناعم. الغزو الذي فطرت عليه غريزة الإنسان. إنها نشوة السيطرة على الآخرين. سواء كانت السيطرة الحميدة كما يسيطر المعلم على طلاب مدرسته، أو سيطرة الإعلام السياسي والاقتصادي بهدف إخضاع ذهن الآخرين، كمقدمة لشن الحروب. بالكتابة أنت تسعد إذ تسيطر على أفكار الآخرين، فتحوّل الاشتراكي إلى رأسمالي، والمسالم إلى شرس مهاجم”.
التطهر بالألم
يقول القاص المصري ياسر جمعة، إنه اشترك مؤخرا في إحدى المسابقات، بمجموعة قصصية، ظل يكتبها لمدة أعوام طوال، وكانت، كأنها تخشى الاكتمال.. تراوغه شخوصها، يلطفها، تهدم كل السياقات السابقة لحكاياتها، وتبدأ من جديد.
ويضيف “لقد أهدتني لحظات صافية، ونصوصا كثيرة متفرقة، وأمانا لم يتلاشَ، ليحتلني حزن، بعد أن كفت عن فوضاها، وملاعبتها، وأخذها الصمت؛ الذي سجنني، كذلك، خلف جدرانٍ حالكة. حجبتني تماما عن همس الضياء. لا صوت مشاغبا هنا ولا أنس، فقط أمواج الوقت اللاهث، وغياب روح الأشياء. في أصدائها، المتكاثرة أبدا، وعماء موحش”.
ويتابع “كنتُ كمن فارقته روحه أيضا، إلى أن أشرق الأمل في ذات حلم، رأيتُ فيه طائري، الذي صنعه الطفل الذي كنته، من طمي الأرض والزمان، وقد عاد إليّ، بعد سفره عبر حيوات عديدة، وحكايات، راح يحكيها عليّ، فأكتبها، مضيفا إليها بعض الألوان، فبدت زاهية مثل الفراشات”.
ويواصل “صار النور هواء، أتنفسه، مغمض العين، فأرى كلمات روحي/ مجموعتي وقد فازت بقارئ، توافق إيقاع روحه بنبضها، فعزفا معا لحن المطلق، وها أنا أفتح عينيّ بعد أن حصلتُ على جائزتين -لم تظهر نتيجة المسابقة بعدُ- هما: قارئ، وحكايات طائري المصنوع من الطمي، التي أتمم تدوينها الآن، في حالة لا تصفها قط كلمة السعادة”.
توضح الروائية اللبنانية مريم مشتاوي أن السعادة التي تولد من الكتابة تشبه فرحة أمّ وانبهارها بملامح مولودها الجديد. سعادة الخلق والإبداع والشعور بالانتماء. سعادة أن ندرك أن عملنا الأدبي قد غيّر شيئا في حياة أحدهم أو أضاف إليها نسمة ناعمة أو حتى رسم ابتسامة أو شغل القارئ عن همّ يحمله أو منحه معلومة أو فتح له آفاق الخيال، وربما هي سعادة أن نعيش ككتاب حيوات عديدة من خلال شخصيات ننجبها ليكبر جزء منا في دواخلها.
وتتابع مشتاوي “إذا كانت الكتابة لا تمنحنا سعادة ندركها في حينها، فإنها حتما تشفينا من كافة الأوجاع التي ننساها أو نتناساها في غرف معتمة في زوايا الروح. إنها باختصار شديد بمثابة علاج نفسي للآلام المتراكمة في الأعماق. لولا الكتابة لما تخطيت أزمة مرض وموت طفلي أنطوني الذي كان إعادة تشكيل لشخصيتي كإنسانة وبالتالي ككاتبة، ولما ابتسمت من جديد. إن الوجع يصقل الكاتب وهو المحفز الأكبر على الكتابة التي تأتي لتطهرنا. إنها بمثابة معمودية تمنحنا عمرا جديدا وبدايات ننطلق منها إلى أفق بلا نهاية. الوجع قد يرقد في أحشاء الكاتب ويكبر داخله بهدوء ولكنه يولد عندما تكتمل عناصره، وبطلق عنيف. حينها تأتي ساعة الفرح بمولود جديد قد يرقد أشهرا أو سنوات ولكن ولادته حتما آتية لا مفر منها. ومن هنا، فالمبدع الحقيقي لا يكتب إلا حين يحس بحاجة ملحة إلى الكتابة”.
______
*العرب