إذا كنت تبحث عن الجزائر، فاسأل محمد ديب (1920 ـ 2003). لقد ترك أعمالاً مهمة، عن الجزائر، في تعددها، وفي صراعاتها الداخلية. هو أكثر الأسماء قرباً من القراء، والأكثر تداولاً. يتعرف عليه الأطفال، أولاً، في النصوص المدرسية، ويتعرفون على شخصياته الروائية الشهيرة: عمر، لالة عيني، وحميد سراج، ثم سيجدونه متاحاً، في المكتبات، باللغتين العربية والفرنسية. ومن لم تتح له فرصة قراءته، يمكن له مشاهدة نصوصه مُقتبسة، في التلفزيون. محمد ديب كان ـ دائماً ـ يُدافع عن صفته ككاتب، لا كمُناضل قومي، كما يُحاول البعض النظر إليه والتقليل من قيمته، فحين استقلت الجزائر (1962)، فهم أن مهمته الأساسية، في الكتابة عن الثورة والحق في التحرر، قد انتهت، وراح يجرب أنماطاً كتابية جديدة، ويكتب عن أقاليم بعيدة (عن فنلندا مثلاً)، ثم عاد إلى الكتابة عن بلده، بعدما اشتدت آلة الموت، في تسعينيات القرن الماضي، قبل أن يبتعد عنها مجدداً، ويفضل أن يُدفن، في فرنسا، بدل العودة إلى أرض المنشأ: تلمسان.
محمد ديب كان واحداً من استثناءات الأدب المغاربي: روائياً، شاعراً، مسرحياً، وقبل ذلك كله: صحافياً، لكن نادراً ما كنا نسمع أو نقرأ عن حياته الشخصية، بالكاد نعرف كيف كان يعيش الكاتب «حياته الداخلية». كان زاهداً، في علاقاته بالإعلام، قليل الظهور في الصحف والتلفزيونات والندوات، فالتلفزيون العمومي في الجزائر لا يمتلك أرشيفاً له. لكن، في الفترة الأخيرة، ظهرت ابنتا الكاتب، آسيا ونعيمة، في مناسبتين مختلفتين، وتحدثتا، عن الحياة الشخصية، لواحد من مؤسسي الأدب الجزائري الحديث.
عام 1958، بعد أن أصدر ثلاثية الجزائر (الدار الكبيرة، الحريق والنول)، طردت الإدارة الاستعمارية محمد ديب، من الجزائر، وجد نفسه، شبه مشرد، في فرنسا، ثم التقى لويس آراغون (الذي سيكتب توطئة لباكورته الشعرية «الظل الحارس» ـ 1961)، والذي ساعده في إيجاد شقة، بالقرب من باريس. «لكن والدي لم يطلب أبداً الجنسية الفرنسية، لم يكن يحمل معه سوى جواز سفر جزائري، مع بطاقة إقامة في فرنسا» تقول ابنته نعيمة، في حوار لها، أجرته قبل أيام. عام 1962، حاول محمد ديب العودة والاستقرار، في الجزائر، لكنه لم يجد فرصة عمل، أغلقت في وجهه، كل الأبواب، ووجد نفسه، كما كان يقول «عاملاً مُهاجراً في فرنسا»، وليس منفياً أو لاجئاً سياسياً. لقد اقترح محمد ديب ـ آنذاك ـ على مسؤولين في الجزائر، إعادة طبعة رواياته، في الجزائر، بمقابل زهيد، فقط لضمان لقمة العيش، لكنهم رفضوا طلبه، وراحوا، في السنوات الأخيرة، يشترون حقوق تلك الروايات، من دور نشر فرنسية، بأموال طائلة. كان يشقى لكسب عيشه، بينما كانت الجزائر الرسمية تقتبس أعماله، مسرحياً، وتعرضها في مهرجانات دولية، مثلما حصل مع واحدة من المسرحيات، المقتبسة من أعماله، التي قامت بجولة، في الاتحاد السوفييتي، بدون أن يدفعوا له سنتيما واحداً كحقوق مؤلف، تضيف نعيمة ديب. بعد شعوره بإحباط مما آلت إليه الجزائر، بعد الاستقلال، شعر بإحباط آخر من الأوساط الأدبية الفرنسية، التي تنزع للأعمال التجارية. «كان يُشارك في بعض الندوات، وفي جلسات توقيع كتبه حال صدروها، لكنه لم يكن من النوع الذي يقوم بجولات في محطات التلفزيونات، للترويج لأعماله» تقول. «لقد كان يشعر، في آواخر حياته، أنه كاتب ومثقف معزول، يحن للحواريات، التي كانت تجمعه في خسمينيات وستينيات، القرن الماضي، مع كتاب ونقاد حقيقيين، لا يكتفون بالخوض ـ فقط ـ في كتاب له حال صدوره، بل يُناقشونه، في مجمل أعماله» تخبرنا ابنة الكاتب.
تعدد إحباطات محمد ديب ستدفعه، بدءًا من سبعينيات القرن الماضي، إلى مقاطعة التظاهرات الجماهيرية والابتعاد عن الساحة الأدبية. نعرف أن محمد ديب اشتغل، في سنوات المُراهقة، في ورشة للنسيج، في تلمسان، لكن ابنته تخبرنا بأن والدها كان يُمارس أيضاً الرسم، وتحتفظ بواحدة من لوحاته، التي أنجزها قبل أكثر من ستين سنة (لوحة رسم فيها مشهداً من أشجار الزيتون، في المنصورة، بالقرب من تلمسان). كان قارئاً لتولستوي، هنري جيمس وفرجينيا وولف، ومستمعاً أيضاً للموسيقى الأندلسية، وخصوصاً للفنان عبد الكريم دالي، الذي تعرفت عليه نعيمة ديب صغيرة، حيث كانت تستمع إليه مع والدها، كما كانت تستمع معه أيضاً إلى تسجيلات، من مهرجان الموسيقى الأندلسية، الذي أُقيم في الجزائر العاصمة، عام 1969. في آواخر أيامه، كان قد طلب من نعيمة أن تُرسل له أسطوانة للمغنية الأمريكية جوان بيز، كانت تلك ربما آخر مغنية يستمع إلى صوتها، قبل أن يرفع يديه، عن آلته الكاتبة «إريكا»، ويغمض عينيه ويرحل.
وكتبت آسيا ديب شهادة عن والدها، وردت في كتاب «محمد ديب، كاتب النور» (صدر حديثاً، عن منشورات «سيديا»، الجزائر)، تقول فيها: «في سنوات مراهقتي، حاولت أن أقرأ رواياته، لكن من الصفحات الأولى شعرت بحرج. أن أدخل إلى كتاباته، يعني أنني أدخل إلى عالمه الحميم. كان عليّ أن أنتظر، أن أنضج، لأستطيع تجاوز خجلي كبنت تجاه والدها». كان محمد ديب يعتبر الفرنسية «لغته بالتبني»، كانت لغة الكتابة، وكان يُخاطب أبناءه، في البيت ـ كما تقول آسيا ـ بفرنسية هجينة (مجزأرة)، فقد أعاد صياغة الفرنسية، ضمن قالب جزائري، وكان يحرص على أن ينطق أبناءه الكلمات صحيحة، لا يرتكبون أخطاءً تركيبية، وكان يتدخل، من حين لآخر، لتصحيح جملهم أو مفرداتهم. كان يلعب دور المدرس، في البيت، وهي مهنة زاولها، في شبابه، قبل أن ينقطع عنها، وينتقل إلى الصحافة. رغم سنوات الغربة الطويلة، لم يتخل محمد ديب، عن ذكريات تلمسان، عن سنوات الطفولة والشباب، التي عاشها هناك، ظلت تلك المدينة حاضرة، في مخيلته، بقراها ومزارعها، وتتذكر آسيا كيف كان والدهم، يحكي لهم باستمرار عنها، خصوصاً في نهاية الأسبوع، عن السهرات الموسيقية والأعراس، في الصيف. مثل نعيمة، آسيا تقر بأن والدها كان كتوماً، لا يتحدث كثيراً، ربما لا يثق في أحد، فقد عاش طفولة صعبة، تيتم وهو في الحادية عشرة من عمره، وربته أمه، وأصيب، في سن التاسعة، بكسر خطير، في رجله، شفي منه، لكن ذكراه بقيت حاضرة في مخيلته، وظهرت في بطل رواية «من يتذكر البحر؟».
كثيرون يتفقون على أن محمد ديب، هو واحد من أهم الكتاب، ليس في الجزائر وحدها، بل في شمال إفريقيا إجمالاً، لكن من المفارقة أننا لا نمتلك ـ لحد الساعة ـ بيوغرافيا هذا الكاتب، لم تُكتب سيرته، وكل محاولة لجمع شتات هذه السيرة، ستكون مهمة، ومن المفيد الاقتراب من كل الأشخاص، أو الشهود، الذين عرفوه، قبل أن يرحلوا هم أيضاً. كتب، مرة، محمد ديب: «سيرتي؟ ستجدونها في كتبي». لقد كتب ما عاشه، في رواياته، لكن ليس بشكل مباشر، بل على شذرات، حيث يختلط الواقعي بالمتخيل، كان خجولاً، في الحديث عن نفسه، والسبب يعود إلى تنشئته المُحافظة، ولكن السبب الآخر الأهم، الذي منعه من كتابة سيرته، هو إحباطه، الذي لم يُشف منه، من بلده الجزائر، الذي رفض أن يوفر له حياة كريمة، تليق به.
________
*القدس العربي