خاص-ثقافات
* أحمد الحسين التهامي
رفعت الفنجان الى اعلى بيميني ثم ثبته فوق ثم رفعت صحنه باليسرى و قلبته فانسكبت بقايا الماء تجري ! ؛ عادتي هذه ولدت يوم بدأت استمتع بشرب القهوة في المقهى ؛ عندما ادمنت المقاهي المصرية الطابع ؛ جرت المياه فعلا في الفضاء الرمادي الى الارض المعبدة ؛ كنا في مقهى يتجه نحو الهاوية في بداية سوق الحوت (1)؛ و كان له ثلاثة مداخل متقابلة جلسنا عند الباب اليسار من جهة الممر الضيق الذي يفضي الى ساحة تظللها تماما اشجار عتيقة لا احد تقريبا يعرف عمرها ؛ كانت اشجارا عتيقة وذات طول بالغ ؛ طول لا يشبه في شئ طول اشجار الزينة لحديثة المقصوصة والمهذبة ! ؛ و التي بدت كأنها تعتذر عن كونها أشجار !! ؛وكان صديقي عادل يجلس الى نفس الطاولة ؛بدا شاردا مفكرا ؛ والبخار يتصاعد من كوب الشاي امامه ؛ كان المقهى عتيقا وكذلك الناس من حولنا! حدقت في الحركة التي لا تتوقف ؛ اناس من مختلف الاعمار و الاحجام والمستويات يمرون كنهر صغير من امامي دون أن يتوقف للحظة؛عدت احدق في تفاصيل المقهى ؛ كان في المنتصف ليس ليبيا خالصا وليس مصريا ايضا ؛ كان مزيجا عتيقا بينهما! ؛ المقهى الليبي يكون في العادة صغيرا وسدته التي تجري عندها الخدمة اعلى وفناجينه من غير صحون و احيانا دون اذان ايضا! لماذا دون أذان لا ادري؟ ! ليس ثمة مبرر واضح !ويسير المقهى الليبي بحسب مبدأ اسمه اخدم روحك بروحك !! ما حد خير من حد !! و يا خوذ يا خلي !! ؛ المقهى المصري اوسع و نارجيلاته تكاد لا تترك لك فسحة إلا وتكدست فيها و القرسونات يجيئون ويذهبون ويلبون كل طلباتك دون نقاش حتى لو كانت طلبات غريبة او جنونية ! فارق عدد السكان هو من انشأ فارق التعامل في ظني؛حدقت في الاشجار العتيقة فاكتشفت انها نجحت تماما في منع تسلل اشعة الشمس اقامت غطاء يحجب الشمس ويجعل الساحة كلها ظليلة ورطبة ؛وفتحت بابا للذكرى ؛ ثمة بعض الصور العابرة التي لا تكاد تغادر المخيلة وثمة الكثير من الاحداث تختلط معا كأخر اثر من ثمالة فنجان قهوة ترك عفوا على سور خفيض تلعب الريح حوله جيئة و ذهابا ؛ ثمة شعور دائم بالذنب يأكلني دون توقف… يسكن ذكرياتي ؛كنت محرجا جدا قبل ست وعشرين سنة تقريبا واشعر بحرقة الذنب كنت محرجا جدا وكنت ايضا فتيا جدا… كانت سنة 1987 م وكنت يومها مراهقا ومرهقا بحسي ؛ الحس الوليد بالخطأ المشوب برغبة ولدتها الكتب ؛ رغبة في تغيير الناس و الاحداث و التفاصيل ! ؛ رغبة في صناعة تفاصيل جديدة؛كنت اضطرب جيئة وذهابا قائلا لنفسي : لقد وضعت نفسك في موضع شبهة! لمجرد رغبة غامضة ؛ رغبة حمقاء تمكنت منك ؛ وهل كانت هذه الفتاة تستحق فعلا ان يزج المرء بنفسه في هذا الموضع المؤسف ؟ ! ؛ يا الهي لا ادري ! ؛ كنت لحظتها قد احسست بشي من برد عابر فلقد كان الوقت صيفا غامرا يحتوينا ويعدنا لقضاء ليل طويل لا يكاد ينتهي! لم اكن قد اكتشفت بعد ماذا يعني اغسطس ؛ كنت افكر :ما اروع ان تفر الكتب بحركة اصبعك هكذا فرررر !! ولو قدرت لو .. لو قدرت تفر معها اوراق الذكرى اللاذعة؛نعم وما اورع ما تصورت نفسك بطلا من ابطال هذه الكتب فارتكبت حماقات لا تحصى ؛ لا يمكن الان-بعد إذ حدثت – إلا مواجهة خطرها بصبر وتحمل و هدوء ؛ هدوء مريع لكنه ايضا ضروري جدا ! ؛ في تلك السن المراهقة كنت اعتدت ان اتمعن وادقق في اجواء البيت العربي القديم الذي تحول الى مؤسسة عامة تخدم مواطني المنطقة يجيئون يوقعون هنا اوراقهم ثم يمضون في لفات لا تنتهي اورلاق تلد اوراقا اخرى ولفات تنبجس في داخلها لفات اخر دون توقف!!؛ اوراق تشهد انهم يقيمون هنا في هذا الحي الفقير ؛ الحي المكون من خليط غريب جدا من افقر ابناء البلد ؛ من عسكريين جاء بهم إليه الملك السابق الذي اختفت كل ذكريات الناس عنه تقريبا ؛جاء بهم من اكواخ طرابلس واسكنهم هذا الحي والبقية من افقر سكان غرب البلاد جاءوا ليخدموا في مؤسسات حكومية مختلفة استجدت لاحقا ثم داخلهم كثير من ابناء شرق البلاد و ايضا جنوبها فاكتمل المزيج السحري من الناس! ؛ كانوا يجيئون ويذهبون و يذهبون دون ان يهتم احد بفحص صدق بياناتهم فلقد كانت ورقة الاقامة مجرد اجراء حكومي ضروري يعلم الجميع بمن فيهم المسؤلين انه ليس شيئا موثوقا ؛ حتى ان القصص راجت عن مختار شارع في هذا الحي كان يختم للناس اوراق اقاماتهم وهو منهمك في لعب الورق مساء دون ان ينظر اليهم حتى ؛ كانت يده تنزل بقوة وسرعة فتضرب باللاص (2) ارض الكارطة (3) وفي نفس الوقت يضرب ختمه ارض الورقة دون ان يكون لديه متسع من الوقت ليفحص الناس فيعرف فعلا من منهم كان يسكن هنا ومن لا يسكن ! ؛ ولهذا السبب بالذات اخترعت هذه المؤسسة الجديدة لتختم الاوراق مع قليل من الفحص لكن العمل استمر بنفس طريقة مختار الشارع السابق مع زيادة عدد الموظفين بما يليق بمؤسسة حكومية طبعا! و جئت انت مثل كل مواطنيك لتوقع اوراقك لكنك احببت الانضمام الى اللعبة فإذا بك تبقى هنا وتصبح جزء غير رسمي من لعبة حكومية رسمية و جاءت هي رفقة امها و اخيها فأعجبت بها لشد ما كنت سريعا في الاعجاب بنساء لا تكاد اليوم تذكرهن !! أ يعقل هذا هل فعلا نسيت الفتاة التي راهق قلبك بها و ارهق ؟!ما اروع فعلا ان تفر الكتب بإصبعك هكذا فرررر ؛ لكن ان تفر الكتب شئ وان تتصور نفسك انك الوحيد اللائق بلعب دور حبيب الفتاة الوحيد هنا امر اخر تماما !!.
كان اسمها نجاة وبدت صغيرة الحجم ونحيلة جدا ؛ وذات انف حاد جدا حتى انها بمرور الوقت لم تعد تنتمي الى الفئة التي تفضلها انت من النساء ؛ لكن الجماعة التأمت ومضت بضعة اشهر و انت تحاول ان تلفت نظرها بحمق واندفاع وتهور ففشلت تماما واستكنت الى حين حتى ارتكبت حماقتك التي لا يمكن الشعور معها بشي من الراحة! راحة الضمير على الاقل ؛ ثمة نقاط ذنب أولى قبلها يمكنك ان تسرح وتمضي الى أي ارض تشاء اما بعدها فتخسر كل حريتك وتصبح مقيدا تماما ! ؛ لا يزال سؤالي عن سبب مجيئها رفقة امها و اخيها واندماجهم الجماعي امرا لا انجح في لإجابة عنه ؛ المهم انني اكتشفت اثناء رحلاتي المتكررة بين غرف ذلك البيت انها اقامت علاقة عاطفية مع المهندس سعيد الذي كان شابا يتردد مثلنا على المكان .. كان شابا وكنت مراهقا ؛ كان شابا جادا جدا وكنت مراهقا جدا ؛ كان مهندسا متخرجا وكنت طالبا إعداديا ؛فاز بها بسرعة مذهلة ؛ حين اراجع الذكريات اليوم اكتشف ان الخيارات انذاك لم تكن كثيرة امام بنت في الثانوي تحضر الينا بلباسها العسكري الذي كان مقررا على جميع طلاب الثانوية انذاك ؛ بقيت لأيام افكر كيف سأفعل وقد خسرت قبل حتى ان تبدأ المباراة ؟ !…..عدت الى الحاضر و نظرت الى الافق كان مشمسا قليلا في زاوية بعيدة عن الساحة المظللة تقابل مدخلا مقابلا ؛ ارتشفت جرعة من قهوتي؛ كان مذاقها غريبا الى حد ما؛ ليس جيدا ؛ ولكنه ايضا ليس رديئا !! ؛ كم مرة جربت ان احضر القهوة عبر مزج عدة انواع من البن وافشل في الحصول على هذا المذاق ؟ كان مذاقا لا يمكن القول انه جيد ولكنه ايضا على حافة ان يقال ردئ !! لكن لا يقال ! ؛ كان ثمة موازنة ما تجري قبل طهي القهوة؛ من كان يمزج القهوة لكل مقاهي بنغازي لست ادري ؟ ! حدث هذا قبل سنتين او ثلاث فقط من نهاية عصر القهوة العربية في مقاهي بنغازي ؛ بعدها اصبح وجود القهوة العربية في مقهى عفوا (كفي) امرا استثنائيا ونادرا ؛ حلت النسكافيه محلها! ضاعت معها كل ذكريات القهوة العربي !! ؛ مددت يدي اليمنى الى عادل تحمل ورقة مكتوبة بخط اليد ؛ كان لا يزال هائما في عالمه الخاص يبدو مفكرا وبعيد عني ؛ انتبه اخيرا الى يدي الممدودة ؛فقلت : هاك اقرا هذه القصة ؛ رفع الورقة امام عينيه و جعل يقرأ ؛ و عدت انا الى ذكرياتي ؛ عدت الى سنة 1987 م ؛ كنت فتى اقرب الى القصر وعادي الوجه والملامح وكان الباشمهندس سعيد شابا طويلا وذا شعر ناعم ولامع وعينان واسعتان … كان وسيما ! لذلك ربما لم يكن اختيار نجاة له مصادفة كما ظهر لي انذاك كنت افتقر الى الخبرة والى الحكمة يحتاج المرء الى كثير جدا من الخيبات حتى يصنع حكمته الاولى! لمحت خطفا ايديهما تتلامس في غرفة خلت قبل ثوان من روادها ؛ لمس اليدين للعشاق تقنية مفضوحة ومعتادة ؛ عرفت بعد ذلك بسنوات ان العشاق الرومانسيين يقيمون لتلامس الايدي وزنا !؛ ثم التقطت عفوا ما بدا انه ضمة وعناق عابر بينهما! ربما لم يعد كونه التقاء صدفويا عابرا اثناء التفاف حول طاولة في وسط الغرفة ؛ لكن ذهني المشغول بخسارة المعركة حوله عناقا كاملا ربما وربما !؛ بعدها حدث ذلك الامر البشع ! وقع فقط دون تبرير دون حجج دون فهم حتى وقع وكفى!.. وقع كما لو كان قضاء اعمى يحل بالبشر؛ قطعت الامتار الفاصلة بين الغرفة التي كانا فيها سعيد ونجاة يتناجيان ويتهامسان محاذرين ان يرفعا صوتهما حتى لا يجلبا انتباه احد الغرفة التي كان فيها بقية المجموعة و انا متردد ؛ ثم بدا لي أن ما سوف افعله واجب تفرضه اصول الصحبة وتوجبه الرفقة !! هكذا كنت افكر لحظتئذ ! ؛ لا يجب ان نخفي شيئا عمن نعزهم ؛ ولكن ثمة اسئلة اخرى هنا !؛ تركت الاسئلة الاخرى وجريت افجر الحادثة امام ام نجاة واخيها ؛ مضت ثوان قبل ان يولد في اول شعور بالذنب!! ؛ وكتب علي ان ارافقه وان احسن صحبته الى حين !!…. شعور غريب ليس يفهم .. ليس الما لتصرخ وليس راحة لتبتسم .. شعور يؤلم لكن دون ان يدفعك للصراخ ؛ شعور يمنعك ببساطة من رؤية تفاصيل وجهك في المراءة …؛ تذكرت ذلك الشعور وافقت على هزة يد النادل طالبا ثمن القهوة و الشاي.
رايت صديقي عادل وقد عاد للورقة يقرأها كنت كتبت فيها: (( الغريب في الامر انني كانت لي ملاحظات نقدية حادة ضد هذا الصحفي الكبير والمشهور المصري وموقفي بعيد عنه بمسافة واضحة سياسيا -بالنسبة لي على الاقل فلقد كان مشهورا وانا لست معروفا في ليبيا فمابالك بمصر- ومع ذلك فان حلمي يبتدئ به !! إّذ تبتدئ رحلتي في القاهرة به !! انا طبعا كنت احلم بالذهاب الى القاهرة منذ فترة طويلة وليست رغبتي هذه وليدة اليوم كانت دفينة في داخلي ؛ فهل حققها الحلم ؟ ! ؛ حلمت انني ارافق هذا الصحفي الكبير الى داخل مبنى حكومي كبير ؛ يشبه مجمع التحرير المعروف ؛ عندنا في بنغازي كنا نسميه المجمع الاداري ؛كنت أتبادل معه الاحاديث ! ! كان امرا غريبا جدا ولا زال !! ؛ ركبنا المصعد وضغط هو على مفتاح الصعود فصعدنا ؛وكان الحديث في ظني يدور حول مقالاته وخاصة مقاله عن ان من يحكموننا لم تتجاوز نسبتهم في نتائج الثانوية العامة 60% ثم وصلنا الى طرقة امام مكتب ملئ بالوجوه الشابة التي كانت تنظر اليه باحترام وغضب شديدين معا !! فطلب مني ان اهتم بإحضار القهوة منهم فبقيت عند الباب ودخل هو الى مكتب اظنه صغيرا جدا !! بينما انا اقف امام المكتب الملئ بالشباب طالبا القهوة ومنتظرا !! ثم جاء ابنه فحدثني وكان ابنه يحدثني عنه وكان ابنه يضع بدوره ابنا ( حفيد الصحفي) امامه ويبلغني انه اصطحبه الى التسجيل في المدرسة فرفض !! فاحضره هنا معه ؛جاءني شاب ملتح غاضب من داخل المكتب ابلغني وهو ينظر الي بغضب ان اله صنع القهوة عاطلة وأنهم لم يصنعوا قهوة اليوم !! فقررت المغادرة ونزلت عبر السلم الى ممر طويل الى جانبه طاولة ممتدة مع الممر الطويل و فوقها كل صحف الصادرة في مصر متراكمة كل صحيفة فوق بعضها البعض فرأيت تجمعا لإخبار الادب فهجمت لأخذ كل اعدادها مصابا بحسرة بيع الكثير من اعدادها في منتصف اعوام الالفين وانغمست في لمها بكل روحي حين قمت من لمها اكتشفت انني ضيعت حذائي فتدبر لي بعض الناس حذاءا بديلا ومضيت الى الشارع فوجدت طفلتين تلعبان فاكتشفت انهما ليبيتان فقلت في نفسي : اه القاهرة كلها ليبيين !!
افقت عندئذ و آنا استرجع تفاصيل حلمي واعد نفسي بان لا ادخل ابدا الى المدن الكبرى فهي صعبة بالنسبة لي.)
انتهى عادل من القراءة ؛ اعاد الي الورقة المكتوبة ؛ لم يعلق ارتشف شايه بصمت مطبق ؛ حدقت الى السماء ؛ كان الغيم القليل يستولي على مساحات اضافية ويلون كل المنظر ..
صباح 20/ اغسطس/ 2016 م.
1.سوق الحوت: منطقة في مركز بنغازي في شمالها قريبة الى البحر؛ اغلب مبانيها تعود للعصر الايطالي في عشرينات وثلاثينات القرن العشرين حتى فترة قريبة المبنى المركزي فيها كان يباع فيه الحوت فعلا.
-
اللاص: قطعة من لعبة الورق.
-
الكارطة: يبدو لي انها تحريف ليبي لكلمة كارتا اللاتينية وتعني لعبة الورق.