عام 1987 كانت ملامح المرحلة التي نعيش، وتطحننا كثيرًا، ونطحنها أحيانًا، لم تزل تشير، بعدُ، إلى أن ثمة حياة خلف الجدار الذي يحاصرنا، لكن حجم الموت كان كبيرا إلى حدٍّ لا يمكن أن يمرّ به الشاعر دون أن يراه.
ظلّ السؤال الذي يتردّد ما بين فترة وأخرى، ويلاحقني: ما الذي يجعل شاعرًا في أوج شبابه، في ذلك الزمان، مضطرًّا للتفكير في الموت؟! لكن المسألة كانت أبعد من ذلك بكثير؛ أبعد من حدود الأعمار التقليدية، وما يمكن أن يراه الشاعر من موت، أو لا يراه. إذ ليس عليه دائما أن يبلغ ثمانين زهير بن أبي سلمى حتى يكتشف الموت في الحياة، وليس عليه أن يحوّل غرفة العناية المركزة إلى مناسبة ليكتب قصيدته المتأخرة، وليس مضطرّا لإلقاء نفسه من الطابق السادس للبناية التي يسكنها، أو العمر الذي يودّعه، ليقول ها قد آن الأوان لأن أكتب عن الموت، وأحاوره وأسخر منه أو أعامله كصديق! كل هذه المحفّزات، حقيقية كانت أم مستعارة من نصوص أخرى، لشعراء وكتاب آخرين، ليست سوى واجهة الحكاية، لا الحكاية نفسها.
ونعود للموت! أذكر تمامًا، أن ذلك اليوم البعيد من أيام عام 1987 كان ثاني أيام عيد الفطر السعيد! وكنت قد غادرتُ منـزل أهلي إلى مسكن خاص بي، بعد أن ضاقت الغرفتان اللتان نسكنهما على الأسرة المكونة من اثني عشر فردًا؛ ورغم أن مغادرة بيت الأهل قبل الزواج – حتى بالنسبة للشّاب- مسألة غير مقبولة؛ إلّا أن والدي، رغم أُميَّته التعليميّة، أبدى تفهّمًا خارقا، لأهمية أن يكون لي مكان أستطيع الكتابة فيه بهدوء بعيدًا عن تلك الضجّة التي لا ترحم، الصادرة عن ورشات النجارة والحدادة، والكراجات التي أطبقتْ فجأة على المنـزل من كل الجهات، وغدا النوم، حتى النوم، أمرًا مستحيلا في ظلّ فورة اقتصادية جعلت المنطقة الصناعية بجوار مخيم الوحدات تعمل أربعًا وعشرين ساعة يوميًّا.
كنت قد توجّهت نحو باب منزلي الجديد، للخروج، في ذلك اليوم السعيد، حين وجدتُ أنني غير قادر فعلا على بلوغه! رغم أنه لا يبعد عني سوى أربع خطوات. كان ثمة ما يجرّني للوراء، وحين تمكّن الواجب، الذي يقضي بعدم التغيّب عن أهلي في ذلك اليوم، من دفعي إلى الأمام، خطوت خطواتي الأربع بصعوبة، وصلتُ الباب آخر الأمر، لكنني لم أستطع إدارة المفتاح في القفل. لقد تيبّست يدي فعلا، يدي التي ستنطلق بعد أقلّ من دقيقتين حرّة؛ اليد نفسها، حين ستُمسك بالقلم لتبدأ بكتابة: راية القلب ـ ضد الموت.
لقد غلبتْني القصيدة، ولم تسمح لي بالخروج! كان موضوع الموت يلحّ عليّ، وكنت قد شكّلت إطارا غامضا للتعامل معه بدءًا من حكاية قابيل وهابيل، حتى مذابح صبرا وشاتيلا وخروج المقاومة من بيروت، لكننا في لحظات الكتابة لسنا أولئك الأشخاص الذين نكون خارجها.
كل شيء انفجر دفعة واحدة ما إن كتبتُ الأبيات الأولى:
سأبدأ هذا الصباح وأهتف: عِمْتَ ظلاما!
سأبدأ هذا الصباح وأنسى مروركَ فيَّ
وأنسى أفاعي خطاكَ التي تعبر الدَّمَ
أنسى وأستلُّ قلبي حُساما
وعلى مدى ثلاثة أيام، محمومة، كتبتُ قصيدة من أطول قصائدي ذات الاتجاه الملحمي. ولم يكن قد سبق لي أن كتبتُ قبْلها قصيدة طويلة واحدة بهذا الاندفاع سوى: (الحوار الأخير قبل مقتل العصفور بدقائق)؛ القصيدة الديوان، التي وصل عدد أبياتها إلى أكثر من سبعمائة بيت، ولم تكن راية القلب ـ ضد الموت، أقصر منها.
في هذه القصيدة حضر الموت الشخصيّ وحضر الموت العام، حضر الحبّ، وحضرت المجزرة، حضر عوليس، وعمر بن الخطاب، ورحلة النبي عليه السلام إلى يثرب؛ وكان الحوار مع الموت صراعًا:
– قلتُ ألقاكَ في البحر
قال: ألقاكَ في البحر
حضر بدر شاكر السّياب وقصيدته أنشودة المطر، وحضر جلجامش، وحضر (تموّز) الذي قتله الخنـزير البريّ.
وإذا كان لي أن أصف القصيدة، فيمكن أن أقول: إنها تكونت من عدد من جولات صراع، لا من مقاطع، وكانت كلّ جولة تتّصل بالجولة التي تليها، فتمضي القصيدة إلى موقع آخر تخوض فيه حربًا ذات مذاق آخر، وأسئلة أخرى، مع الموت.
ولعل الصراع الذي كان يدور على جبهة أخرى، غير جبهة الموت، هو الصراع مع مراجع القصيدة نفسها؛ كان ثمة صراع فعلي مع هذه المراجع؛ وقد اعتاد شعراء القصيدة العربية الذهاب إلى المصادر القديمة لينهلوا منها؛ ولكن ما كان يحدث، كثيرًا، أن القصائد تغرق في تلك المصادر، بحيث يبدو العمل الشعري في معظم الأحوال، قطعة زينة في عروة قميص الأسطورة، بدل أن يقوم العمل الشعري بتمثّلها.
لذا، كان أهمّ مشروع لراية القلب، هو مشروع كسر الرّموز القديمة برموز توازيها في الزمن الحديث، وبخاصة الفلسطيني والعربي، في محاولة لتأسيس رموز جديدة؛ ولذا، كانت المسافة بين غراب سلام كامب ديفيد، وغراب هابيل قصيرة، رغم آلاف السنوات التي تفصل الغراب الجديد عن جدّه الغراب الأول! وكانت رحلة الفدائية الشابة دلال المغربي إلى وطنها عبر البحر، قبل استشهادها، رحلة لا تقلّ غنى وملحميّة عن رحلة عوليس. بمعنى أن كل رمز قديم حضر، كانت الغاية من حضوره، استبداله برمز جديد، فكما امتلكت البشرية وأسست رموزها الأولى امتلكنا نحن رموزنا التي لا تقلّ أهمية وعمقا عن تلك القديمة، هكذا كان جوهر الفكرة لديّ.
لذا، لم يكن الشاعر هشّا في القصيدة، وهو يصارع الموت:
قلت يا بحر نسِّقْ رماحكَ، قد أقبل الموتُ
يا موتُ عُدْ
هنا الكائنات أتتْ رضعتْ من حليب جموحي
ولم يكُ في الأرض قبلكَ حقدْ
قلت: فلتكن الحرب يا موتُ، فلتكن الحربُ
قال: أنا الـجَـزْرُ
قلت: أنا المدّ
لكن عدم الهشاشة، لم يكن يشكّل القوة بالنسبة لي، ولذا أدركتُ بتواضع البشر، لا بطموح الشعراء، أن الموت يستطيع أن ينفرد بنا واحدا واحدا، ليمضي بنا حيث شاء، مُسيَّرين كنا أم مُخيَّرين. لكن الذات في النهاية، وقد أدركتْ مصيرها الهشّ هذا، تمضي للكتلة البشرية الكبيرة للاحتماء بها؛ فما دام هناك بشر يعيشون بعد أولئك الذين يقطف الموت أرواحهم، فمعنى ذلك أن الموت لم ينتصر، أو لم ينتصر تماما! ورغم نبل القراءة الإنسانية لحالة الصراع، إلا أنها لم تُقصِ تمامًا غصة الفرد المهزوم في لحظة انتصار الموت عليه؛ فإشكالية الموت وسطوته تتشكّل من كونه اختبارا لمصير ووجود الروح البشرية المفرَدة أولا. ولم يكن زهو الشاعر بمن يعيش بعده من البشر، سوى ابتسامة أخيرة، يُطلقها، في محاولته سلبَ الموت بعض انتصاره، وهو يقول له: ثمة أحياء ما زالوا بعدي!
________
*مدونات الجزيرة